«فى أحيان كثيرة يدفن الإنسان منا ذكرياته مع من أحبه عند الفراق وبعد مرور وقت قصير يبدأ حياة جديدة مع آخرين «ناس تانيين». هذه هى سنة الحياة. لكن هناك بشرا ما زالوا يعيشون ذكرياتهم مع من أحبوهم رغم مرور سنوات على الرحيل. هكذا وجدت الموسيقار الكبير محمد سلطان فى منزله بجاردن سيتى. دخلت المنزل ووجدت صور الراحلة الكبيرة فايزة أحمد فى كل مكان، للدرجة التى جعلتنى أشعر، وكأنها سوف تخرج من إحدى غرف المنزل. ولكن سرعان ما أوقفت لحظات تفكيرى المجنونة وقلت ونعم الوفاء. وبمجرد جلوسى مع الغناء محمد سلطان. وجدت أن الوفاء ليس بمجموعة صور معلقة، وإنما تجسد فعلا وقولا، فهو فى أغلب حديثه معى، تقفز إلى سطح الحديث سيرة فايزة أحمد. ومع مرور الوقت أيقنت ان هذا الأمر لا يحدث إلا مع أناس قليلة أحدهم سلطان، لسبب بسيط انه محب للناس، حتى المختلفين معه يبادرهم بالاتصال، ويتحدث عنهم بشكل جيد. وهنا ايقنت أيضا أن نقاء موسيقى سلطان جاءت من نقائه الشخصى. لذلك تجد أعماله قريبة جدا من الناس لأنه ببساطة شديدة يمتلك مشاعر وأحساسيس تشاهدها فى دموعه التى قد تغلبه عند الحديث عن أوجاع الناس». الشروق: فى البداية سألته عن مشاكل جمعية المؤلفين والملحنين والتى يتحدث عنها وكأنها أمر شخصى؟ سلطان: قال: نعم أنا أحارب من أجل تنمية موارد الجمعية لأن الأمر فعلا شخصى. فالأعضاء مسئولون منى أمام الله. ومهمتى ان أوفر لهم ما يجعلهم يعيشون حياة كريمة. الشروق: لكن الأمر وصل إلى قيامك بإرسال مذكرة لعرض الأمر على الرئيس مبارك؟.. ومناشدته التدخل لحث وزارة الإعلام على زيادة حق الأداء العلنى؟ سلطان: هذا صحيح، لأنه ليس من المعقول ان تظل الجمعية تحصل على 300 ألف جنيه فى السنة من الإذاعة والتليفزيون، وهم يدفعون الملايين من أجل مباراة كرة. الشروق: هل ترى أن نظرة الدولة «وزارة الإعلام» للفنان متدنية؟ سلطان: للأسف، أشعر بهذا كل يوم، فالأغنية التى ابدعها المؤلف والملحن لم تخلق للتسلية والفنان ليس مهرجا لذلك اطالبهم بتغيير النظرة، وكذلك دعم الفن الجاد. الشروق: دعم الفن الجاد هذه قضية أخرى؟ سلطان: هذا صحيح ليس من المعقول ان نجد الراديو والقنوات التليفزيونية يهتمون بالفن الرخيص، والهابط، من يتخيل ان الفواصل بين البرامج أصبحت عبارة عن ايقاعات، وهيافة. بعد ان كانت عبارة عن موسيقى راقية. الشروق: هل ترى ان الجهاز الإعلامى الآن لا يفهم دوره الصحيح؟ سلطان: أنا معك فى هذا. وسوف أروى لك قصة قصيرة تدلل على هذا. كنت فى زيارة لصديق، وهناك التقيت مع أسرة. وفوجئت بالأم تطلب منى الاستماع إلى ابنتها. ورحبت فإذا بالبنت تسحب «ايشارب» وتضعه على «وسطها» وهنا قلت لأمها «هى هترقص ولا هتغنى». وكان رد الأم. هذا ما تراه فى التليفزيون. فالرقص والغناء اصبحا مرتبطين فى أذهان الشباب. الشروق: لكنها قد تقصد القنوات الغنائية الخاصة؟ سلطان: ربما لكن اين تليفزيون الدولة؟. هناك مسئولية تقع على عاتقه يجب ألا يعتمد على العمل الارتجالى، والعشوائى. يجب أن نصحح المسار الفنى، ونستفيد من القمم. الشروق: هل ترى أن كبار الفنانين مهمشون؟ سلطان: يا أستاذ الأجيال الجديدة لا تعترف بالأساتذة. وليس لهم مثل أعلى، وهى كارثة كبرى. منذ أيام جلست أمام التليفزيون، وفى أحد البرامج وجدت شابا يقول انه لا يحب أم كلثوم، ويحب مصطفى قمر، وعمرو دياب. وهذا دليل على انه شاب «ماحى» ليس له انتماء. من حقه ان يحب قمر ودياب. لكن الإعلام لم يعلمه ان هناك قدوة. وللأسف ما سمعته من الشاب اسمعه من بعض شباب المؤلفين، والملحنين والمطربين، فأنا احببت الموسيقى من عبدالواهب والسنباطى لأن والدى علمنى أن أستمع لفنهما الراقى. الشروق: ألا ترى أن هذا نتيجة أن نجوم الغناء الآن «متفرنجين»؟ سلطان: أنا معك هم يعتقدون أن الفرنجة وسيلة للوصول للعالمية. رغم ان المحلية والانغماس فيها هى بداية الوصول للعالمية. والبرنيطة والفانلة الكات. ليست العالمية. فمن العيب ان نخلع ملابسنا ونرتدى ملابس غيرنا. الشروق: وهل البرنيطة فقط هى التى أخذناها من الغرب؟ سلطان: بالقطع لا.. استمع إلى الموسيقى التركية والإسبانية، واليونانية وسوف تجد أن أغلب ما يقدم الآن مسروق. الشروق: الغناء الآن كيف تراه؟ سلطان: الغناء والرقص أصبحا فى قالب واحد الآن. الشروق: كيف؟ أول شىء تسمعه فى الأغنية هو الايقاع، والمطرب صوته بعيد. رغم ان الغناء يعنى أن الصوت فى الصدارة. والناس تذهب للرقص والمشاهدة، وليس للسمع. الشروق: وما البديل؟ سلطان: البديل ان ننظر للثروة التراثية لعبدالوهاب والسنباطى وبليغ وفوزى. بدلا من التركير على الخلاعة فقط. الشروق: المطرب المصرى الجاد هل حصل على حقه فى مصر؟ سلطان: فى لبنان عندما تركب تاكسى تسمع صوت فيروز. نحن هنا فوجئنا بحفل يعرضه التليفزيون منذ شهر بطلته نانسى عجرم، وكاظم الساهر وبالمناسبة أنا أحبهما، لكن أقول لإعلامنا أين الانتماء. فاللهجة المصرية تحارب رغم أننا الريادة. الشروق: هل ترى ان الأصوات الجادة وكسلها بعض الشىء هى السبب؟ سلطان: الفنان الجيد عنده كرامة. وبالتالى فهى تمنعه من التنازل عن كبريائه وبالتالى كأجهزة دولة يجب أن نحافظ على هؤلاء الفنانين ولا نتركهم. الشروق: هل تحب الاستماع إلى الأصوات الشابة؟ سلطان: أحب صوت شيرين فهو سليم، وكذلك نانسى عجرم، وتامر حسنى واليسا، ولكننى أعتب على تامر انه راكب الموجة. الشروق: هل لو طلب منك أحدهم التلحين له سوف تفعل؟ سلطان: أنا ألحن لأى صوت حلو، لكننى لن اسير خلف موجة غلط. الشروق: لكن هذا الجيل يحتاج إلى شكل مختلف فى الألحان؟ سلطان: جيلنا كان سابق عصره، وأنا لحنت أغنية لسعاد محمد «أوعدك» الكل يغنيها الآن فضل شاكر ووائل جسار، وقبلهما جورج وسوف. ولفايزة «يا ما انت واحشنى»، وغيرها. الشروق: ما الذى يفتقده هذا الجيل؟ سلطان: التوجيه فقط. فالأغانى ليست مقاما واحدا «الكورد». لذلك فالأغانى هذه الأيام لا تعيش. والتلحين مثلا ليست أغانى معلبة فى الأدراج أخرجها لأى صوت فى أى وقت. لأ اللحن يعنى اختيار كلمة جيدة ودورى كملحن معرفة ابعاد الصوت، ومساحته لكى امنحه ما يناسبه. لذلك سوف تجد ان كل من لحنت لهم أصواتهم جيدة. لاننى لا أمتلك لحنا جاهزا. الشروق: هل الفجوة الموجودة بين جيلك وجيل الشباب الآن سببها الهجوم عليهم؟ سلطان: نحن نتعامل معهم بشكل جيد. ونحن كملحنين كبار لن نفتح معاهد ونجبرهم على التعليم بالعافية. مع احترامى الشديد لهم. فالجيد منهم قليل. وأطالبهم دائما بعدم الاعتماد على مقام موسيقى واحد. فالتشابه افقدهم الاستمرارية فى النجاح. الشروق: فى رأيك ما أهم شىء يجب أن يتوافر فى الصوت؟ سلطان: الشخصية. زى نادية مصطفى مثلا. جلست معها سنة وشوية قبل لحن «مسافات». وبالمناسبة أنا اخترتها من الراديو بالصدفة. المذيعة كانت تريدنى أن أسمع صوتا معينا. وأثناء بحثها فى الشريط عن هذا الصوت اسمتعت لنادية قلت لها هى دى. وفعلت نفس الشىء مع هانى شاكر وأصالة ومدحت صالح وسميرة سعيد. الشروق: لكن هانى شاكر يقال ان الموجى الذى اكتشفه؟ سلطان: الموجى قدمه فى أول أغنية مسجلة. وأنا قدمته للجمهور لأول مرة بأغنية «سيبونى احب» فى حفل لفايزة أحمد. الشروق: كيف كان لقاؤك به؟ سلطان: ارسله الموسيقار محمد عبدالوهاب، مع مأمون الشناوى الذى كان مستشارا لشركة صوت الحب، والذى كان قد اصطحب هانى إلى عبدالوهاب لتلحين عمل له. وكان رد موسيقار الأجيال لمأمون الشناوى.. عاوز المفيد اذهب لمحمد سلطان. وبالفعل كلمنى هاتفيا الأستاذ عبدالوهاب. ولحنت له «سيبونى أحب». الشروق: وكيف قدمه لك عبدالوهاب؟ سلطان: قال لى.. فى صوت حلو.. سوف يدق بابك الآن. انا عاوزه ينجح. الشروق: ولماذا اختارك عبدالوهاب؟ سلطان: أولا كان يرى فى اننى أقدم ألحانا وكلمات مختلفة. وكنت سببا مباشرا فى تغيير مسار فايزة أحمد لأننى كنت اخطط لها. الشروق: كيف غيرت مسار فايزة؟ سلطان: عندما ألتقيت بها كان يطلق عليها «مطربة العيلة». لأنها كانت قد غنت «ست الحبايب»، و«الهى يحرصك من العين» وغيرها وقلت لها يجب ان تغنى كل الألوان. الشروق: لِمَ لم تتعاون مع عبدالحليم؟ سلطان: عبدالحليم كان مطربا ذكيا، وكان يجيد اختراق الناس، ويجعلك كيف تحبه. وطوال معرفتى به. لا أنا قادر ألحنه له ولا هو قادر يغنى لى. لأننى كنت مشغولا مع فايزة، وهو كان يتعامل مع الموجى، وبليغ. وكان هناك تنافس بينهما لذلك كان عملى معه صعبا فى البداية. لكن قبل سفره الأخير للندن كان هناك عمل سوف يجمعنا. الشروق: كيف جاءت هذه الخطوة؟ سلطان: فوجئت بجرس الباب يدق فى الرابعة صباحا وكانت فايزة نائمة بجوارى وانزعجنا من الأمر. وعندما ذهبت لأستطلع من القادم فوجئت بعبدالحليم على الباب. وإذا به يعرض علىّ كلمات أغنية أحلى طريق فى دنيتى مسجلة بصوته على شريط كاسيت. وقال لى.. اليوم يبدأ مشوارى معك. وطلب منى العود وبداية العمل فورا. وبالفعل لحنت المذهب ونال رضاه وجاء على المقطع الذى يبدأ وفى عز الحلم صحينا.. أتارى الناس حولينا.. وطلب منى عدم تغيير لحن هذا المقطع. وبالفعل توفى عبدالحليم فى لندن بعد هذه الجلسة. واسندت غناء الأغنية لفايزة. وصممت ان يخرج هذا المقطع دون تغيير بناء على طلب حليم. خاصة اننى تأثرت فعلا بأدائه لهذا المقطع وبكيت من شدة تأثرى. الشروق: لكن التعاون جاء بعد فوات الأوان ما سبب التأخير هل كان بسبب رفض فايزة؟ سلطان: فايزة كانت تحب لى الخير. لذلك لم يكن لديها مانع. لكننى كنت مصمما على ضرورة التفرغ لها لأن كل الملحنين انشغلوا بحليم، ونجاة وصباح ووردة تركوها. وفايزة لم تكن تحب ان تكون رقم 2 لأن فايزة كانت طيبة لحد «الهبل». الشروق: لكن عبدالحليم كان يرى ان بليغ أمل مصر فى التلحين؟ سلطان: هذا صحيح لكنه «طبطب» على فى برنامج أوتوجرف وقال ان مستقبلى كبير. وفى نفس العام طلب التعاون معى. الشروق: قلت ان فايزة كانت طيبة لكن هناك مشاكل كثيرة لها مع الفنانين أبرزها مع وردة والبعض قال انها غيرة وصلت لحد العداء؟ سلطان: فايزة كانت عصبية. لكنها لم تكن تكره أحدا وكانت تجيد تقليد الفنانين، وكان عبدالوهاب يحب أن يستمع إليها، وهى تقلد. وأحيانا التقليد يجعلك تبرز بعض سلبيات من تقلده. كما ان فايزة من النوع الذى عندما يرى الغلط يواجهك به وكانت تفعل هذا حتى معى، فلو لحنت جملة ضعيفة تقول لى دى وحشة. الشروق: بصراحة هل كنت تشعر بالغيرة من بليغ حمدى؟ سلطان: بالعكس احب بليغ جدا وأحب أى فنان حقيقى. والدليل اننى جعلت فايزة تتعاون معه. واعتقد انا وبليغ لم يكن بيننا أى نوع من الغيرة. الشروق: كلامك عن فايزة يؤكد انك مازلت تحبها إذن لماذا تم الانفصال بينكما؟ سلطان: أمام الله أشهد اننى كنت السبب. انا كنت دائم الخروج، والسهر. وبالتالى تركتها كثيرا وحيدة. وكنت أعود وأجدها فى انتظارى. دون أن تعتب على كانت تقول فقط.. انتظرتك لكى اطمئن عليك. وحدث ما حدث رغم اننى قليل الخطأ. واعترف اننى اهملتها. وتعاملت معها على انها ست عادية. وهى استحملت كثيرا. لكننى حتى الآن مازلت أدعو لها. الشروق: هل أعدتها كزوجة قبل رحيلها؟ سلطان: فايزة ماتت على ذمتى. وبين يدى، وإلى الآن لم حتمل فراقها. الشروق: كيف كانت اللحظات الأخيرة فى حياتها؟ سلطان: اتصلت بى قبل وفاتها بأسبوع وانا عند أولادنا فى باريس، وسألتنى عن موعد عودتى. قلت لها سوف اعود يوم الأربعاء المقبل. واذا بها تطلب منى التبكير بالحضور، والا لن أراها ابدا حاولت ان أهدئها. وإذا بابنى يطلب منى مغادرة فرنسا فى أول طائرة لانه حلم بأن أمه ماتت. وبالفعل حضرت. ودخلت المستشفى ويوم الثلاثاء 20 سبتمبر 1983 الساعة 5.20 المغرب. ناديت علىّ وطلبت منى ان تجلس بجوارى.. ساعدتها، وقالت لى.. أريد ان اغنى وأرجوك. احكم على صوتى بجد، ولا تجاملنى، اريد ان اعلم هل تأثر صوتى من المرض. وبالفعل غنت ايوه تعبنى هواك. وجاءت عند كلمة تعبت تعبت.. ودخلت فى نوبة بكاء وقالت المرض تغلب علىّ. خلاص فايزة انتهت. وبالفعل فى نفس الليلة طلبوا نقلها للعناية. وهنا قالت لى خلاص كل سنة وانت طيب. زى ما قلتلك. الشروق: آخر حوار دار بينكما قبل دخولها الغيوبة الأخيرة؟. سلطان: سألتنى عن عمرها. وعندما اندهشت.. قال عمرى 17 سنة هى الفترة التى عشتها معاك. الشروق: هل كان لها وصية خاصة؟ سلطان: طلبت المرور على البيت قبل دفنها. الشروق: بعيدا عن حالة الشجن التى بدت عليك خلال الحديث عن فايزة أعلم ان هناك علاقة صداقة ربطتك بالرئيس الراحل السادات؟ سلطان: فوجئت فى أحد الأيام بمكالمة منه. وطلب منى ان التقى به 11.30 صابح اليوم التالى بالقناطر. وهناك قال لى.. تعرف انا بحبك ليه؟ ورد لأنك كافحت مثلى، وعملت من فايزة نجمة كبيرة. الشروق: هل الجلسة كانت فنية؟ سلطان: بالطبع بمجرد جلوسى. سألنى عن العود. احضرته، واعتقدت انه سوف يطلب منى الغناء. وإذا به يطلب منى أن أصاحبه على العود لكى يغنى أغنية «العيون الكواحل».