رحب البعض بنهاية الحرب الباردة، بسقوط أحد القطبين. حسبوا أن الخاسر الأوحد هوالنظام الذي تهاوى، لكنهم لم يفطنوا إلى أنهم سيكونوا أشد الخاسرين، حتى وإن لميكونوا طرفاً في الصراع بين القطبين، وحتى لو لم يكونوا أداة من أدوات الحربالباردة. إستأسدت أميركا التي عدّت نفسها منتصرة على العالم، وتعقبت من كانوا حلفاءللإتحاد السوفيتي، أو من أعلنوا صداقتهم له، أو إعتمدوا على وجوده لخلق هامش لهمللمناورة، فكان أن صفت اصدقاء السوفيت وأعداء أميركا في آسيا وأفريقياً، وإوربا،وكان آخر من صفتهم في أوربا يوغسلافيا الإتحادية، التي كانت وللغرابة، غير متوافقةمع السوفيت وعلى علاقة حميمية مع أميركا وأوربا، ثم صفيّت الحكومات الثورية فيأميركا الوسطى والجنوبية بإستثناء كوبا. أما في الجانب الآخر، فقد تحوّلت روسيا من دولة عظمى إلى دولة من العالم الثالث،لا بل من أكثر دول العالم الثالث إنعدام أمان، وفساد، وفقر، ووساخة بالمعنى الحرفيوالمجازي للكلمة. تحولت محطات المترو في موسكو، تلك التي كانت الأرقى والأجملوالأنظف، تلك المتاحف المدهشة إلى مزابل، ومسكن للمتسكعين والعاطلين عن العملومتعاطي المخدرات. وأُذل ماريشالات الإتحاد السوفيتي وعلماؤه عبر إستهداف مقصود،وأُهينت كرامة الروس كلهم بعد أن أُُهينت كرامة دولتهم. كان هكذا هو الوضع طيلة حكميلتسين. قلة هم أولئك الذين أشاروا إلى خطورة هذا المنحى، مذكرين بإن إذلال المنتصرينلألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى تسبب في ظهور هتلر، و النازية الألمانية،ومن ثم الحرب العالمية الثانية، اما الأغلبية الساحقة فقد كانت تحاول إرضاء السيدالأوحد، الذي بات حاكم وقاضي وشرطي الكون. بعد أن كان الإتحاد السوفيتي يصدر الخبراء ومشيدي الجسور وبناة المصانع،والمدربين المهرة، بات يصدّر المافيات، والعاهرات، وتجار المخدرات وغاسلي االأموال. وهذه كانت أحد النتائج العرضية لإنهيار وإذلال دولة كانت عظمى. هل كانت القوة العظمى التي عدّت نفسها منتصرة عظيمة حقاً؟ وقويّة للدرجة التيتستطيع لوحدها التحكم بالعالم ؟ ستجيب على هذا السؤال أحداث الحادي عشر من أيلول، وما أعقبها؟ لقد أصاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كرامة أميركا بالصميم، فأندفعت برعونةالثور الهائج لتضرب شمالاً ويميناً. لقد وجدت ضالتها أخيراً. هاي هي تصرخ كما صرخغاليلو "وجدتها".. الحرب على الأرهاب، تلكم هي الجملة السحرية التي ستوّحد الأمة،وتحوّل ضعفها قوّة.. كانت كل الدلائل تشير إلى أن أميركا ليست بالقوّة التي يعكسها إعلامها، باتالكثيرون يتساءلون: هل كان ماو مصيباً عندما قال "الأمبريالية نمر من ورق"؟ ولقد أثبتت حرب العراق، وحرب افغانستان صحة ما قاله ماو. هاهي ذي أقوى دولة فيالعالم تشرب من الكأس الذي جرّعته للآخرين. أميركا ليست بمواجهة الصين، ولا روسيا، إنها بمواجهة طالبان، والمقاومةالعراقية، والإثنان لا يملكان صاروخاً ولا طائرة، لكنها، بكل جبروتها، وبكل الدعمالذي حازت عليه من دول وجيوش العالم، لم تستطع لا القضاء على طالبان، ولا إنهاءالمقاومة العراقية. وقد كشفت هاتان الحربان اللتان أرادت أميركا عبرهما تدشينهيمنتها الكلية على العالم طبيعة قدراتها، والحجم الحقيقي لقوتها. ومقابل هذا كانتروسيا تنهض من كبوتها بقيادة عقيد الكه جي بي بوتين، فتعيد تنظيم الجيش الروسيالإتحادي، وتعيد الصناعة العسكرية إلى سابق عهدها، لا بل تجرّب من الأسلحة ما لاتستطيع أميركا اللحاق به حتى بعد عدّة عقود، وتلم شتات دول الإتحاد السوفيتيالسابق، وتستبعد النفوذ الأميركي من جمهوريات القوقاز، وتعيد الهيمنة على ثروتهاالنفطية والغازية، وتقوي صلاتها وعلاقاتها بالصين التي أصبحت حليف ثابت وحقيقي،وتشكل منطومة دول بحر قزوين، وترفع من وتيرة تصيدها للهيمنة الأميركية. وإذا كانت قوّة روسيا تتصاعد فإن قوّة أميركا وهيبتها تتضاءل، وصولاً إلى الأزمةالأقتصادية الحالية، والتي ستكون نتائجها خطيرة جداً على مستقبل أميركا، فلحد كتابةهذه السطور أعلن 48 مصرفاً أميركياً عملاقاً إفلاسه، كما أعلنت العديد من الشركاتالعملاقة أفلاسها ومن بينها فخر شركات الصناعة الحربية الأميركية. لم يعد بمقدور أميركا الآن الإدعاء بإنها القطب الأوحد في العالم، ولعل أقصى ماتطمح إليه أن تكون القطب الثاني، مع روسيا الإتحادية، وحتى هذا الطموح فهو غيرمضمون التحقق في قابل الأيام. زيارة أوباما لموسكو، تعني من جملة ما تعنية إعلان وفاة مرحلة القطب الأوحد،والعودة إلى مرحلة القطبين، إلا أن الذي لم يعرف لحد الآن، هو جواب التساؤل الذيسيكون الشغل الشاغل للكتاب والمحللين السياسيين: هل سيتصارع القطبان، أم سيتفقان؟