الدكتور محمد الهاشمي المحترم ، السلام عليكم ورحمة الله وبعد . لا أريد أن أُفقِدك نشوة حلمك العربي ولا (سبقك) في هذا التوجه ، ولكن كنت اتمنى أن يُذكر الذي خط كلمات حلم الولايات العربية المتحدة بقلمه منذ عشرات السنين ، وهو الشاعر (محمد بسيم الذويب) ،كنت أتمنى ذلك لا سيما بعد أن بعثت إليك سابقاً بالنص المنشور في كتيب الشاعر (محمد بسيم الذويب) (انعتاق) وهذا النص الذي يرجّح أنه كتب منذ نحو ثمانين عاماً ،ولم ينشر بعد ذلك في كتيبه (انعتاق) إلاّ بعد ثورة 14 تموز عام 1958 ، وهذا الكتيب من توزيع شركة فرج الله للمطبوعات ، وطباعة شركة التجارة والطباعة (ذ.م.م.) شارع الأحرار الصالحية بغداد .. ويمكن لك أن تطلب الخبر اليقين من زملائك وضيوفك الكرام من العراقيين ، مثل الأستاذين نبيل وعباس الجنابي ، فغالباً هم يعرفون هذه المعلومة ، أو قد يكونوا قد اطلعوا عليها من سنين بعيدة ، وها أنا أبعث إليك بالنص الذي يثبت أن حلم الولايات العربية المتحدة سبق إليها الشاعر (الذويب) قبل ما يقارب الثمانين عاماً يشاركه فيه صديقه وزميله في السلاح (محمد سلمان الجنابي) وزير النفط في عهد (عبد الكريم قاسم) يشاطرهما في ذلك على الأرجح زميلهما رئيس مجلس السيادة الفريق (محمد نجيب الربيعي) ومنذ أن كانوا ضباطاً في عشرينيات القرن الماضي ، لهذا فإني أرى أن من الإنصاف أن تفصح عن هذه الحقيقة عبر منبرك الكريم ، بعد أن تستوثق من هذا الأمر ، لا سيما بعد أن تطرّق إلى علمك مفاد هذه المعلومة ، وسأسوق إليك مجدداً النص الذي يثبت أن هذا الحلم الذي تفضلت به في برنامجك هو حلم اثنين ، أو ثلاثة من الضباط ، قبل نحو ثمانين عاماً ، أحدهم الشاعر (الذويب) ، الذي صاغ الحلم بقلمه وبعنوان (حلم يقظة) ، وسيأتي نص ذلك حينما أنتهي من توضيحي هذا ، وسأورد بعض السطور من مقدمة كتاب (انعتاق) ، ليس لإثبات شيء ، ولكن ليفهم القاريء شيئاً عن طبيعة وتوجه الكتيب قبل أن يقرأ النص الذي يتعلق ب (الولايات العربية المتحدة) .. كتب الشاعر (الذويب) في مقدمة (انعتاق) : (كان 14 تموز سنة 1958 فاصلاً بين عهدين في العراق ، عهد الطغيان والإستعباد وعهد الحرية والسيادة الكاملة للشعب ، فلا عجب إذا هرعت إلى صندوق صغير كنت قد أخفيته في حرز حريز منذ عشر سنوات أو تزيد لأخرج منه أوراقاً كاد أن يعفى عليها البلى ، فبدت صفراء اللون قد تمزقت بعض حواشيها ، فأبعث بها إلى المطبعة لتجدها بين يديك أيها المواطن العزيز ، فقد آن أوان نشرها) .. ثم في موضع آخر من مقدمة (انعتاق) يرى الشاعر (الذويب) أن العراق كله في عهد الملكية سجناً كبيراً يضم سبعة ملايين سجين ، هم تعداد سكان العراق آنذاك . يقول : (. . . . . . . . نزلاؤه هذه الملايين السبعة من النساء والرجال والشيوخ والشباب المحرومة من متابعة الحركة الفكرية في العالم بسبب منع الصحف والكتب العربية والأجنبية من دخول العراق ، إلاّ ما يتفق ومصلحة الفئة الحاكمة ، ومن ورائها الإستعمار ، ثم في موضع آخر يقول : فالصحف الوطنية عرضة للإنذار والتعطيل بسبب وبدون سبب ، والإمتيازات الجديدة ( إجازات إصدار الصحف) لا تمنح إلا للأنصار والمقربين ، ونقابات العمال تغلق بالجملة ، والأحزاب تلغى بجرة قلم ، والجواسيس تحصي على الناس أنفاسهم ، والمواطنون يساقون إلى المنافي النائية زمراً ، فإذا لم تكن هذه صفات السجون ، فكيف تكون السجون إذاً ؟ ) . ثم في ختام مقدمة (انعتاق) يتحدث عن أوراقه المصفرة من طول عهدها ، والتي لم يخرجها من (سجنها) خشية جلاوزة العهد الماضي ، ثم يشيد ويمتدح عبد السلام عارف ورفيقه عبد الكريم قاسم . ((بعد انحراف الثورة عن مسارها الصحيح يأمر عبد الكريم قاسم بإرسال الشاعر (الذويب) منفياً إلى سجن الكوت ، ثم يعود فيطلقه ويسند إليه منصباً حكومياً مدنياً في وزارة النفط)) . ثم يشرع الشاعر (الذويب) بامتداح (جمال عبد الناصر) ويصفه بخالق القومية العربية . يقول في ختام المقدمة : (وهذا الذي ستقرأه في هذه الأوراق المصفرة من طول عهدها في البقاء رهينة (السجن) خوفاً من انتقام الطغاة يقصد النظام البائد ليس أدباً قصصياً كما هو مفهوم القصص في هذا العصر ، وإنما هو شيء كتبته ونفسي ثائرة ، وقلمي ثائر ، وشاء ربك أن يخرج إلى الوجود ويرى النور في عهد ثورة يقودها الثائران (عبد الكريم قاسم) و (عبد السلام عارف) ويرأس مجلس جمهوريتها نجيب الربيعي ((كان الربيعي رفيق سلاح الشاعر الذويب ومن أعز أصدقاءه)) فإن وجدت فيه أيها المواطن الكريم شيئاً يستحق أن يسمى أدباً ، فهو أدب ثائر ينتجه جيلنا الذي نشأ في ظل الإستعمار والكبت والحرمان ، فاقنع به مؤقتاً منتظراً أدب الثورة الذي سينتجه الجيل الجديد الناشيء في ظل الثورة المباركة ، وفي عهد الوحدة العربية التي سيتم تحقيقها على يدي (جمال عبد الناصر) قاهر الإستعمار وخالق القومية العربية ، وباعث نهضتها وقائد الثورة هو وصحبه الأكرمين) . ************************************************** ********************************** الولايات العربية المتحدة .. حلم يقظة أم حقيقة بقلم / محمد بسيم الذويب من : م . س . (1) إلى : ب . ذ . بغداد في 25 1 1928 ... لنبدأ العمل الذي اقترحته ولنجمع ما استطعنا جمعه من نفثات صدرينا ، فنبرزه للملأ على شكل رسائل ممزوجة بالضحك والدموع .... الحقيقة والخيال ... الغبطة والحزن ... التعقل والجنون ... ولربما تخلل مشروعنا هذا فترات قصيرة بسبب انشغالي في الدراسة ... ولكنه سيأخذ مجراه الطبيعي بعد تخرجي ... وإليك الآن حلماً من أحلامي ... في الشارع العظيم المعبّد ، المتراصفة على جهتيه الأبنية الفخمة الجميلة ذوات الحدائق الغنّاء المتدلية أغصانها على حافة الرصيف بثمراتها الناضجة، تفوح منها روائح عطرة يحملها النسيم الذي يداعب وجنات الفتيات والفتيان وشعورهم وهم يسيرون ، وعلائم الصحة بادية عليهم تنم عن الرخاء الذي يعيشون فيه. ************************************************** ******************************************** (1) م . س : هو الوزير والضابط الأسبق ( محمد سلمان الجنابي) شقيق الشهيد (محمود سلمان) قائد القوة الجوية في حركة مايس 1941 ، وهو زميل سلاح ومن أصدقاء (محمد بسيم الذويب) كاتب هذه السطور . ************************************************** ********************************************* على رصيف ذلك الشارع الفخم الذي يخترق (بغداد) عاصمة (الولايات العربية المتحدة) كان شيخ طاعن في السن يمشي الهوينا ، جللت وجهه المتجعد لحية ناصعة البياض ، وكان ذا عينين غائرتين ولكنهما حادتان ، ورأس متساقط الشعر تكاد تبرق صلعته تحت أشعة الشمس الحارة ، وهو يتوكأ على عكاز غليظ ، تبدو عليه آثار القوة ، فقد كان في شبابه يعشق الرياضة ، ويأخذ نفسه بالخشونة والصرامة ، فعاش حتى بلغ أرذل العمر ولم يتقوس ظهره او يحدودب . وبينا هو يسير متمهلاً وعيناه ترمقان الجماهير المسرعة إلى الميدان الكبير ، إذ أبصر باعة الصحف يتراكضون وهم يصرخون (أخبار الصباح ... أخبار الصباح) فمد الشيخ يده المرتعشة إلى جيبه وأخرج قطعة من النقود مسدسة الشكل كتب على أحد وجهيها كلمة (درهم) وعلى الوجه الآخر عبارة (الولايات العربية المتحدة) ونادى على أحد باعة الصحف ، واشترى نسخة من جريدة (الفوز) فقرأ على صفحتها الأولى خبراً جعل وجهه يتهلل فرحاً ، وكان الخبر منشوراً بأحرف بارزة ، وهذا نصه : ( تقام في الساعة الواحدة من بعد ظهر اليوم 18 تشرين الثاني سنة 1999 حفلة إزاحة الستار عن تمثال القائد العظيم ، المناضل الذي كافح الإستعمار دون هوادة ، حتى أعاد بزعامته إلى الأمة العربية مجدها المفقود ، وحريتها المغتصبة ، ألا وهو الفريق ( . . . . . )(2) . . . . . . . . وذلك في الميدان الفسيح الذي يتوسط سبعة شوارع والمسمى بإسمه ، فبرقت عينا الشيخ حينما تذكر صديق صباه ، وأيام الدراسة الممتعة ، وما أعقبها بعد ذلك من جهاد مشترك متواصل ، ضحّى صاحب التمثال بنفسه في سبيل الحصول على الظفر النهائي ... فأشار إلى إحدى سيارات الأجرة وصاح بالسائق أن اسرع إلى مكان الإحتفال . جمع غفير ، جماهير محتشدة ، جنود من مختلف الصنوف واقفون بنظام الكتلة ، بكل خشوع ... العيون شاخصة إلى نصب شامخ مغطّى بستار حريري يتوسط الميدان . ما أزف الوقت حتى وقف أحد الزعماء خطيباً فقال ( أيهاالجمع الحافل ... لا شك أنكم تذكرون ما كابدته هذه الأمة المجيدة من الإستعمار البغيض سنين طوالا ... وكيف كانت تمر الأيام ثقيلة يكتنفها الظلام ، يرزح خلالها شعبنا العظيم ، تحت وطأة الظلم ، تنخر الفاقة أجسام أفراده ، وتفتك الأمراض بهم ، مشتت الأوصال ، تعبث بكيانه الأيدي ، وتتقاذفه الأهواء . فلئن جهل الشباب منكم ما كنتم عليه قبل سبعين عاماً ، فإن في هذا الجمع الحاشد شيوخاً تحدثنا عن الفظائع والويلات والعَسَفَ والإرهاق الذي ارتكبه المستعمرون ضد الشعب العربي العظيم ... تُحَدِّثُنا عن الأيام السود والليالي المظلمة ، والعيش المر الأليم ... ) . وهنا تململ الشيخ وأراد أن يتكلم لو لم يسترسل الخطيب قائلاً : (أمّا اليوم فنحن أحرار ، رافلون بأثواب السعادة والرفاه ... لا ينكد علينا عيشنا مستعمر دخيل ... أنظروا إلى هذا الشعب العظيم الذي اتحد وائتلف ، وعاد نجمه الآفل إلى التألق ، وصفت سماؤه التي كانت متلبدة بالغيوم ، هذا الشعب الذي انتفض بعد أن استكان للمستعمرين مدة طويلة ، ولحق ركبه بقافلة الشعوب التي سبقته في التحرر ، فعاد إلى بلادنا العزيزة عصر آخر من عصورها الذهبية ... وها نحن نحتفل اليوم بإزاحة الستار عن تمثال قائدنا العظيم الذي قاد الجماهير الشعبية إلى النصر ، وطرد بقايا جيوش الإستعمار التي كانت تدنس أرض الأجداد المقدسة) . هنا وثب الشيخ صارخاً بصوت كالرعد (أيها الخطيب مهلاً ... أيتها الجماهير معذرة ... اسمعوا كلمة جندي قديم زامل في الجهاد ...) . أيقظت تلك الصرخة الهائلة جميع النائمين من أهل البيت واستيقظ هو نفسه وأسرع إليه والده مذعوراً ، وهو يقول (مالك يا ولدي ؟ وأي خطيب تريد ؟ وأي جمع حاشد تخاطب .... ومن هو الجندي القديم ؟ فما أنت إلاّ جندي حديث لا تزال في ريعان الشباب .... وميعة الصبا) . اجتمع اخوته وأهلوه جميعاً يلاحظونه وعيونهم مغرورقة بالدموع ، فقد كان عزيزاً عليهم ، فخافوا أن يكون قد ألمَّ به طائف من الجن ... فأخذوا يجاذبونه أطراف الحديث وهو مطرق لا ينبس ببنت شفة ، وعاد فأغمض عينيه لعله يعود ليستمتع بما رآه في الحلم اللذيذ قبل لحظات . وفيما هو كذلك إذ أقبل الخادم بجرائد الصباح ، وإذا بأخيه الأكبر يقرأ فيها خبر مفاده (أن سيجري الإحتفال غداً بإزاحة الستار عن تمثال القائد الكبير ... الجنرال (مود) الذي فتح (بغداد) فصرخ الفتى صرخة ارتجت لها أركان الدار ... وكاد أن يقع مغشياً عليه ، فما أعذب وألذ ما رأى في منامه ... وما أشد وأقسى ما سمعه الآن ... فعجب أبوه وإخوته لأمره ... فما أن قص عليهم ما رآه في المنام حتى شاركوه في ألمه . وفي اليوم التالي كان الفتى يسير في شارع من شوارع الكرخ في بغداد القديمة ، قرب الجسر المسمى بإسم صاحب التمثال (مود) رأى جند الطغاة يحتفلون بإزاحة الستار عن تمثال فاتح بغداد ، وطياراتهم تحلق في سماء بغداد ، أزيزها يكاد يصم أذنيه ، وصفوف جنودهم تدوس قلبه وتدوس أحشاءه ، رأى وجوهاً كالحة ، ليست كالوجوه التي رآها في حلمه ، صبيحة مستبشرة ، فتألم وتمرمر، وتأوه وتضجر ، ولولا بقية أمل لديه لما استطاع الثبات . (2) قد يستشف من ذلك أن هنالك شبه تلميح ومنذ العام 1928 إلى رغبة قديمة وطموح عند هؤلاء الضباط الشباب الثلاثة الربيعي والجنابي والذويب في أن يكون أحدهم هو البطل والقائد العظيم المذكور ، الذي حقق حلم الولايات العربية المتحدة ، وفعلاً أصبح أحدهم رئيس مجلس السيادة (رئيس جمهورية) في العراق والثاني وزيراً للنفط والآخر تسنم بعض المناصب المدنية والعسكرية ، ولكن دون تمكنهم من تحقيق هدفهم الأسمى . ************************************************** ****************************************** من ب . ذ . (3) إلى م . س . بغداد في 25 1 1950 عشرون سنة مرت على كتابك ذاك وازدادت اثنتين ، اثنتان وعشرون من السنوات العجاف انقضت على كتابك وهو قابع في ركن من أركان مكتبتي الواسعة ، تطبق عليه دفتا كتاب قديم كنت أطالع فيه أيام الصبا وأنا مستلق في فراشي استجلاباً للنوم ، فلا يستجيب النوم لنفسي ، أو لا تستجيب نفسي للنوم ، إلاّ لماماً ، فقد كانت نفوسنا في تلك الأيام ، تواقة إلى العمل ، تستعجل قدوم الصباح لنبدأ العمل ، العمل الذي نتذوق لذته ، فلا نريد أن ينقضي النهار ليسلمنا إلى ليل مظلم ليس فيه إلاّ استلقاء على الفراش ، وأحلام كبيرة تراودنا في منامنا ويقظتنا ، في ليلنا ونهارنا ، فقد كنا نحلم دوماً خلال أيامنا تلك بآمالنا وأمانينا ، وآمال الشعب وأمانيه ، نحلم بما سوف نقدمه في قابلات الأيام لوطننا التعس المنكوب بالإستعمار من خدمات وتضحيات ... تلك الأيام ... أتذكرها ، أتذكر ساحة التدريب في تلك البقعة من الأرض التي كنا نتدرب فيها على استعمال السلاح ، وعلى الكر والفر ، وغيرها من فنون الحرب وأساليب القتال ... أتذكر تلك البقعة من الأرض ... التي أصبحت قصوراً شامخة ، وحدائق مزهرة ، تتخللها الشوارع المنسقة البديعة ، تدب عليها هذه (الباصات) الضخمة الحمراء ، التابعة لمصلحة نقل الركاب ، الممتلئة أبداً في غدوها ورواحها ، لا تكاد تقف عن السير ، إلاّ لتستأنف سيرها من جديد ، يتصايح من داخلها الركاب ، فيرد على صياحهم (بائع التذاكر) متذمراً من ندرة القطع الصغيرة من هذا المعدن المصنوع من النيكل حيناً ومن النحاس أحياناً . إنك لا تذكر كل هذا الآن .... لأنك لا تعرف عنه شيئاً فقد طالت غيبتك عن وطنك العزيز فلم تكن موجوداً حين أنشئت هذه المصلحة ، مصلحة نقل الركاب ، أو لم تُنْشأالمصلحة المذكورة حين كنت في وطنك ... ولكنك لا بد ذاكر تلك الأيام ، حين كانت هذه البقعة من الأرض ، المنشأة عليها اليوم هذه القصور الضخمة ، والحدائق المزدهرة ، حين كانت ساحة للتدريب ، وإنك لتذكر ولاشك ، ذلك الضابط البريطاني، فارع القامة ، عريض المنكبين ، عصبي المزاج ، الذي كنا نتندر في غيابه عن بعض تصرفات شاذة ، كان لا يأتيها رجل يتمتع بكامل قواه العقلية ، منها ثورته الكبيرة ، على العصفور الصغير الذي دخل غرفته دون استئذانه وكيف رماه بساعته الثمينة فحطمها دون أن يصيب ذلك العصفور بضر ، وكيف كان يأخذنا بكثير من الشدة والحزم ، فيسوقنا إلى ميدان الألعاب كما تساق الأغنام إلى حظيرتها في المساء ، وكيف كنا نعدو أمامه ، وهو يهوي على ظهورنا بإحدى العصي المستعملة في لعبة (الهوكي) .. ذلك الرجل (الوحشي) الذي نصبته (الحكومة الوطنية) مفتشاً علينا أو مدرباً لنا ، أو الذي نصب نفسه فأقرت الحكومة تعيينه مكرهة لا (بطلة) . أتذكر يوم جاءنا في ساحة العرض ، او ساحة التدريب ، ممتطياً جواده الأصهب ، وكنا في حالة الإستراحة آنذاك ، فالنظام العسكري يمنح الضباط والجنود عشر دقائق استراحة بين كل ساعة وأخرى من ساعات التدريب ... وقد وقف ذلك (البريطاني) الخشن لحظة على صهوة جواده ، ثم ترجل عنه فطلب ضابطنا (الوطني) الموكل إليه تدريبنا أن يسرع أحدنا فيمسك بعنان الجواد ، ريثما يتفضل (الصاحب) فيتفقد صفوفنا ، ويشرف على كيفية تدريبنا . أتذكر كيف امتنعنا جميعاً ، أن نطيع الأمر الصادر إلينا بذلك ، إذ اعتبرناه ماساً بكرامتنا ، لأننا لم نكن خدماً ، وسائسين للخيول البريطانية . أتذكر كيف خجل ذلك الضابط (الوطني) فصرخ بأقربنا إليه (أن اذهب إليه أنت يا فلان) وكيف امتنع هذا (الفلان) بإباء وشمم ، فأصبح الموقف في أشد الحراجة ، حتى كاد أن يذهب ذلك الضابط بنفسه ليقوم بدور (السائس) لولا أن (نذلاً) واحداً من بيننا خرج على ذلك الإجماع ، فهرول إلى جهة (رجل الإستعمار) ولكن هذا رفض تسليمه الجواد ، وعاد إلى قواعده خزيان أسفاً . أتذكر تلك الأيام السود ؟ أم قد أُنسيتها لكثرة ما أصابك من محن وإحن في ديار الغربة ، طوال هذه السنوات العشرين . إن كنت قد نسيتها فإني لمذكرك بها ، فلقد كانت أياماً مملوءة بالظلم والإرهاب ، وبهيمنة الإستعمار على كل مرفق من مرافق الدولة ، وفي كل شأن من شؤون الشعب ، ولكنها مع كل ذلك كانت أياماً (حلوة) مليئة بالكفاح والبطولة ، والإيمان بالنتيجة الحتمية ، ألا وهي النصر العظيم ، النصر للشعب والخزي والعار للإستعمار . كانت هذه الملايين السبعة تعداد نفوس العراق آنذاك من الجماهير الشعبية لا تستنيم لحكم الدخيل ، إلاّ نفر ممن غضب الله عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة ، على أنهم قلة لا يكادون يُسمِعون أصواتهم الضعيفة ، بين تلك الملايين من الأصوات العالية .. كان كل فرد من أفراد الشعب يأبى أن يقوم بدور (السائس) الذي يمسك بعنان الجواد . أمّا اليوم وفي دور (الإستقلال) التام الناجز ، فكم هو عدد الذين يتسابقون لتمثيل ذلك الدور يا ترى ؟ .. أتذكر تلك الأيام ؟ أتذكر موقفي وإياك ورفيقنا (فلان)(4) تجاه (علج) آخر من أبناء (التايمز) وكنا نحمل من الرتب العسكرية أقلُّها شأناً، أتذكر كيف غَيَّرْنا أسلوبه (الفظ) نحو زملائنا من ذوي الرتب العالية ؟ وأجبرناه على الإعتذار . عشرون عاماً منذ ذلك العهد الموغل في البعد ، تبدلت الأرض خلالها غير الأرض ، وتغيرت نفوس الناس غير التي كانت ، وجرت حوادث وأحداث عصفت بالوطن الحبيب أو كادت ، فما وهن الشعب ولا استكان ، ولكن الخطوب أسلمته إلى شيء من الهدوء الذي يسبق (العاصفة) التي لابد ان تهب يوماً، فتندلع النار الكامنة تحت الرماد ، وتأزف الآزفة ، ليس لها من كاشفة ، فتزحف الجموع الغاضبة ، وويل يومئذ لمن يقف في طريقها ، ليسد عليها المسالك ، فيمنعها من الوصول إلى هدفها النهائي ، وهو القضاء على الإستعمار ، وضعضعة أركان من يسنده (من الوطنيين) الذين جربوا هذا الشعب جيداً ، وعرفوا أن مؤامراتهم وما حاكوه من شباك طوال تلك السنين ، قد انهارت في شتاء من هذه الأشتية التي مرت على البلاد قبل سنين ، يوم انتبه (السادرون) من غفلتهم ، وفرائصهم ترتعد هلعاً على أصوات الجماهير وهي تصرخ معلنة شجبها لمعاهدة (5) الذل والعبودية ، فعادت لا ترهبها دمدمة الرصاص ، ولا لعلعة الرشاش ، بالرغم من كونها عزلاء إلاّ من الإيمان بالنصر المبين . لقد زحفت جموع الطالبات والطلاب والعمال ، الرجال والنساء على اختلاف طبقاتهم متلقية الرصاص بصدورها ، كلما سقط منهم فوج أعقبه آخر ، حتى أذن الله للشعب بنصره ، وقضى على المؤامرة التي لم تكن الأولى من نوعها ولا هي بالأخيرة .. إن الشعب لن ينسى الإساءة أبداً ، لن ينسى الشعب مذبحة (كاور باغي) ولن ينسى معركة (جسر الشهداء) ولن ينسى مأساة فلسطين أو (مهزلتها) .. سيذكر الشعب بألم ممض تلك الأيام المظلمة . يوم سيرت الجيوش لتحرير البلد المقدس من براثن الصهيونية ، وأعلنت الأحكام العرفية بحجة المحافظة على (مؤخرة) الجيوش المحاربة في خطوط القتال الأمامية ، فسيق أفراد الشعب بتهمة الترويج للمباديء الشيوعية والتجسس للحركة (الصهيونية) وكوفحت الحياة الحزبية في البلاد ، وعطلت نقابات العمال ، أو أصبحت بحكم المعطلة ، وقضي على النشاط (الطلابي) وفصل الأساتذة وطرد الطلاب الذين ضحوا بدمائهم الزكية في سبيل (تربة الوطن) من مدارسهم ، وقمعت الحركات (التحررية) بقسوة ما بعدها قسوة ، وتعطلت القوانين ، وصودرت الحريات ، وألغيت إمتيازات المئات من الصحف (بجرة قلم) وعنت الوجوه للحي القيوم ، وخفتت الأصوات فلا تسمع إلاّ همساً . ************************************************** ************************************************** (3) ب . ذ : هو محمد بسيم الذويب كاتب هذه السطور . (4) غالباً هو الفريق الركن (محمد نجيب الربيعي) رئيس مجلس السيادة (رئيس جمهورية) في عهد (عبد الكريم قاسم) وزميل (الذويب) و (محمد سلمان) في الكلية الحربية الملكية، ومن أخلص أصدقائهما. (5) المقصود على الأرجح معاهدة بورتسموث التي أبرمت مع بريطانيا في عهد رئيس الوزراء الأسبق (صالح جبر) . ************************************************** ************************************************** ******** جرى كل ذلك في سبيل المحافظة على (عروبة) فلسطين المظلومة أو (الأندلس) الجديدة ، التي كانت آمنة مطمئنة ، يأتيها رزقها رغداً ، فكفرت (الدول السبع) بأنعم الله ، وجردت جيوشها الجرارة ، وحكمت شعوبها بالنار والحديد . تلك الشعوب التي ظلت (صابرة) على الهوان ، مضحية بحريتها الغالية ، مرخصة دماء أبنائها العزيزة ، باذلة النفس والنفيس في سبيل إنقاذ مهد المسيح وأولى القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين ، مما يبيت لها في الخفاء من أمور (دبرت بليل) . فماذا أثمرت تلك التضحيات الجسام ؟ الدماء التي سفكت ، والسجون التي امتلأت ، والأموال التي استنزفت ، لم تثمر واأسفاه إلاّ خيبة مريرة . وليتك كنت معي يا صاحبي ، يوم عاد جيشنا العراقي (الباسل) وهو باسل حقاً رغم كل ما حدث ، إذ ليس الذنب ذنبه ، وإنما الذنب كل الذنب ، والجرم كل الجرم ، يقع على عاتق المسؤولين عن قيادته حينذاك و (رئاسة) أركانه . أقول ليتك كنت معي حين مرت أرتال الجيش الباسل بين صفين من أفراد الشعب ، بينهم أمهات وزوجات وأخوات الجنود العائدين من معركة تحرير فلسطين لترى كيف كن يتطلعن إلى ذلك الرتل الحبيب بلهفة ، ويتصفحن الوجوه متسائلات عن ابن أو زوج ، مشفقات من سماع الخبر (المشؤوم) ، خبر استشهاد زوج هذه وولد تلك في ديار الغربة ، فيعلو هناك النشيج . من الرفيق الذي يدلي بالخبر (المفجع) وتتعالى صرخات الأم (الثكلى) والزوج (الأرملة) المفجوعة هذه بزوجها وتلك بولدها الذين ماتا في سبيل .... في سبيل قيام (دولة) في قلب (الوطن الأكبر) . عشرون عاماً تصرمت منذ رأيت يا صاحبي فيما يرى النائم حلمك ذاك اللذيذ ، ولم يبق لتحقيقه سوى خمسون سنة أخرى ، لا بد ان نشدد خلالها (النضال) لتحقيق حلمي وحلمك ، وحلم الشعب الذي نذرنا له نفسينا ، ولكننا سنحقق (أحلامنا) في وقت أقرب من هذا ولن نقف عن السير حتى النصر النهائي ، ونحن نعلم أن الطريق لتحقيقه شاقة وعرة ، وأنها ستدمي أقدامنا قبل الوصول إلى غاياتنا المثلى ، فما كانت طريق المجد يوماً مفروشة بالورود والرياحين ، فستوضع في طريقنا العقبات ، تلو العقبات ، ولكننا سنجتازها ، إن طريقنا محفوفة بالمخاطر ، وإن علينا أن نكافح كفاحاً رهيباً مضنياً ، وأن نتذوق طعم النضال ، وإن وجدناه مراً كالعلقم ، ولكننا سنستسيغه بالرغم من مرارته وسنجده في فمنا أحلى من الشهد ، وألذ من أطايب الآكال، ولا بد أن نحقق النصر لهذا الشعب في النهاية ، فإرادة الشعب من إرادة الله . إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ب . ذ .