هذا هو الشيء الذي ميَّز هذا المخلوق، المخلوق الطيني، المخلوق الترابيّ، المخلوق الصَّلصاليّ، المخلوق الحَمَأي، هذا المخلوق من الأرض، هذ الذي ميَّزه، هو آية: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}... {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} خلق آدم عليه السلام: (إذ) قال العلماء: معناها اذكر، {إِذْ قَالَ}، أي: اذكر - يا محمد - حينما قال ربُّك للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين} [ص:77]، وهنا في آية الحِجْر: {خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}، إذ قال ربُّك: خطابٌ للنبيِّ صلى الله علية وسلم بهذا اللفظ، ربُّك الذي يُربِّيك ويرعاك ويُرقِّيك في صفات الكمال لا يتخلَّى عنك. الملائكةُ الكرامُ من العالم غير المنظور: الملائكة: مخلوقات نورانيَّة معصومةٌ مطهَّرة، وهم أيضًا نوعٌ من الخلق المستور من العالم غير المنظور، هناك - كما قلنا - عالم منظور نشهده بأعيننا، وهناك عالمٌ مستور غير منظور لا نراه بأعيننا، كما قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:37، 38]، ومالا نُبصره أضعاف أضعاف ما نُبصره، حتى قال علماء الكون وعلماء الطبيعة: إنَّ الكون الماديّ الذي نعيش فيه، نحن لا نُبْصر منه إلا ثلاثة في المائة، وسبعة وتسعين في المائة من هذا الكون المادي لا نعرفها. يُسمُّونها الأعماق السوداء، لا نعرف عنها شيئًا، فنحن نرى القليل، فما بالك بالكون غير الماديّ، هذا في الكون الماديِّ، إنَّما الكون غير المادي، مثل: الجن. مثل: الملائكة، الذين خُلقوا من نور، كما في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها، في صحيح مسلم: "خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم". أي: من طين، ومن صلصال من حمإ مسنون، إلى غير ذلك ممَّا جاء في القرآن الكريم. فالملائكة مخلوقات نورانية رُوحانيَّة، الله سبحانه وتعالى فَطَرها على الطاعة: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]، فُطروا على الطاعة، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}. تسوية الإنسان ونَفْخ الرُّوح فيه: هؤلاء الملائكة قال الله تعالى لهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، هذا البشر المخلوق من الصَّلْصَال، من الحمأ المسنون، أو من الطين المنتن، أو الطين اليابس، من صَلْصَال كالفخار، هذا المخلوق، إذا سوَّيتُه وَنَفختُ فيه من رُوحي، تَسْويةً تهيِّئه لما يُعدُّ له، للوظيفة التي يقوم بها بعد مرحلة الخلق، ومرحله التَّسوية، كما قال عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الإنفطار:6- 8]، ثم بعد الخلق التَّسوية: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1- 3]، فالتسوية فرعٌ عن الخلق، تكملةٌ للخلق: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}، من تمام الخلق: التَّسوية، ومن تمام التقدير: الهداية. تمييز المخلوق بنفخ الرُّوح فيه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، هذا هو الشيء الذي ميَّز هذا المخلوق، المخلوق الطيني، المخلوق الترابيّ، المخلوق الصَّلصاليّ، المخلوق الحَمَأي، هذا المخلوق من الأرض، هذ الذي ميَّزه، هو آية: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}. جهل الإنسان بحقيقة نَفْخ الرُّوح فيه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، كيف تمَّ هذا النفخ من الرُّوح؟ بعض الناس يتساءل: كيف يتَّصل فانٍ بالباقي، كيف يتَّصل المخلوق بالخالق، أو الخالق بالمخلوق، كيف يتَّصل هذا بذاك؟ في الواقع لا نعرف كُنهها، يجب أن نقف عند حدودنا، من سعادة جَدِّك وقوفك عند حدِّك. {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، إذا كنَّا لا نعرف بعض حقائق هذه الحياة، لا نعرف ما معنى الحياة الحقيقي، إنما نعرف آثار الحياة، ومن آثارها: النمو، التنفُّس، التكاثر، ولكن ما هي الحياة نفسها؟ لا نعرفها، كما لا نعرف حقيقة الكهرباء، ولكن نعرف آثارها. إذا كنَّا لا نعرف كُنْهَ الحقائق المادِّيَّة، فكيف نَتَطاوَل إلى ما يتعلَّق بالربوبيَّة، يجب أن نُوفِّر طاقتنا العقليَّة، بدلاً من أن نفكِّر في هذه المسائل، التي تستنفذ منا جهودًا ولا نحصل على شيء، ولا نصل إلى شيء إلا التعب والمعاناة، ثم نعود بخفي حنين، أو بغير خفين، أو بلا شيء نهائيًّا، الأَوْلى أن نوفِّر هذا، نعمل في الكون، نتأمَّل في الكون، نكتشف قوانين الكون، هذا ما وجَّهنا الله تعالى إليه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف:185]. كلُّ ما خلق الله مَجَالٌ للنظر والتفكُّر والتأمُّل، فنحن نقول: الله نفخ في هذا الإنسان من رُوحه، كما شاء، وكيف شاء..