هذا شاعر يكتب بالسكين والخنجر .. ويخوض معركته من "بيت إلي بيت"! كان محمود درويشاً، ولكنه لم يعد كذلك، فقد خرج من عالم الدراويش سياسيا وشعرياً منطلقاً في مداره الخاص، الذي ابتعد به وفيه عن دراويش السياسة ليصبح من أهل الفكر إن كنتم لا تعلمون .. التقيت به والتقيت معه "والتقيت فيه" كما يقول الفلسطينيون من عرب أهل الشام، فكان هذا الحوار الذي لا أعتذر عن طوله، بل أعتذر لأنه لم يكن طويلا بطول قامة هذا الرجل، فهو شاعر طويل القامة.. قصير الإقامة كانت هذه السطور مقدمة كتبتها لحوار أجريته مع الشاعر العربي الفلسطيني الأشهر محمود درويش في القاهرة عام 1997 ، حين التقيته بأحد الفنادق الكبري بالقاهرة، وكنت قد التقيت درويش لأول مرة قبلها بعشرين عاماً أثناء مرحلة الشتات لكلينا بأحد مقاهي "الروشة" الشهيرة علي ساحل المتوسط في بيروت ، لم نلتق بعدها حتي علمت أنه موجود بالقاهرة وقد سأل أحد الأصدقاء عني وهل استقر بي المقام في القاهرة أم لازلت في غمرة الشتات؟ سارعت بالاتصال به وطلبت منه موعداً للقاء، فقال لي: مرحباً "الآن لو تحب"، قلت له: "الآن"، ولكن بدون "لو" فأنت تعلم أنني أحب لقاءك وأسعد به، خاصة بعد سنوات طوال لم أسعد فيها بالجلوس إليك، كان اللقاء بأحد صالونات الفندق بعد أن انتهيت من الحوار الذي استغرق أكثر من ساعتين، سألني: ألم تلاحظ أن معظم أسئلتك كان سياسيا ولم نتطرق فيها إلي الشعر إلا قليلا ؟ قلت له: لقد فرضت السياسة نفسها علي الجميع هذه الأيام، ثم ألست أنت السياسي المهموم بالشعر، أم أنك "شاعر" جرفته هموم السياسة ؟ ضحك قائلا : إن أكثر شىء كان يذكرني بك فى سنوات الفراق هو ملاحظتك التي تتسم بالذكاء في ردودك، ثم أضاف لقد أعجبني هذا منك، أسعدتني ملاحظته رغم شعوري بالخجل، كان درويش حينها نجماً في مضمار السياسة بجانب نجوميته في مضمار الشعر، بعد أن أعلن معارضته علانية لاتفاقية "أوسلو" التي أبرمها عرفات مع الجانب الإسرائيلي، ووصلت معارضته لها أن قدم استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مضحيا بذلك بلقب "الوزير" الذي تمنحه اللجنة تلقائياً لأعضائها، كان درويش معترضاً علي الحكم الذاتي الذي يجعل استمرار السيادة علي الأرض لإسرائيل، وكان يري في الاتفاقية تجزيئا لجغرافية فلسطين بين الضفة الغربية وغزة، وقال حينها: إن الاتفاقية تعني بالنسبة له خروج المحتل من غرفة النوم إلي الصالون، مع استمرار البقاء في بقية البيت. بعد أن سافر محمود درويش عائداً إلي بيروت قمت بنشر الحوار في مجلة "سطور" الثقافية التي كانت تصدر في القاهرة ذلك الوقت، تلقيت بعدها رسالة منه فيها كلمات قليلة: "شكراً أيها الحبيب، لقد كنت حكيماً" .. كان موقفه الرافض والمنطقي من اتفاقية أوسلو هو سبب اختياري لعنوان واحد وحيد للحوار: محمود الذى كان درويشاً!