الدروب في القاهرة كثيرة ، ولكل درب حكاية .. فهناك درب البرابرة الشهير بأنه شارع أفراح الأغنياء والفقراء والمركز الأول لشراء مستلزمات الأفراح بأسعار رخيصة ، وهناك درب الجماميز الذي بدأ كحي سكنه كبار القوم في قصور شامخة ثم تحول الآن إلي حي شعبي تختلط فيه البيوت القديمة مع العمارات العشوائية ، وهناك الدرب الأحمر مقر تجار العطارة والسروجية والخيامية وشارع سوق السلاح والمساجد الأثرية ، والحديث يطول عن درب الأربعين ودرب البهلوان ودرب المهابيل ودرب سعادة ودرب الغمري ودرب الأتراك .. لكن من بين تفاصيل السنين هناك قصة نتوقف معها في السطور القادمة عن درب أبو لحاف أصغر دروب القاهرة وأقلها شهرة .. لكنه أكثرها غموضاً .
الدرب يقع في منطقة السيدة زينب العريق الذي نقش الزمن في كل أركانه بصمات لا يمكن محوها .. كوكتيل عجيب من البشر، أرياف وعشوائيات وأحياء وحواري وشوارع ، المنطقة معروفة بالمساجد القديمة الأثرية مثل مسجد " كعب الأحبار " ومسجد " قايتباي الرماح " والذي تهدمت أجزاء وتم تجديده إلي جانب مسجد " الإسماعيلي " ، والحي الذي يقع فيه درب أبو لحاف غني عن التعريف .. الناصرية ..والذي يبدأ من جهة ضريح ومقام السيدة زينب مروراً بالمدرسة السنية أول مقر تعليمي للبنات في تاريخ مصر والتي أنشأها رفاعة الطهطاوي في بداية مشروعه الخاص للنهضة ، ويبدأ المشوار من حارة السايس والتي كانت مقراً لخيول الملك فؤاد ومن بعده فاروق الذي كان يعشق الفروسية والصيد، ثم نمر علي حارة الكنيسي وهي ضيقة للغاية وتلاصق درب البندق والذي يوصلك إلي شارع خيرت الشهير ومنه إلي سوق الاثنين وحارة قواوير ومسجد الحنفي الشهير ثم حارة السقايين ، والآن .. نحن في " درب أبو لحاف " ، وطبيعي أن يكون السؤال الأول الذي نوجهه للأسطي طلعت أقدم سكان المنطقة عن سبب تسمية " أبو لحاف " ، يقول : أعيش هنا منذ 60 عاماً حيث أعمل في إصلاح بوابير الجاز وأنام في كشك من الصفيح في مدخل الدرب .. وطوال هذه السنوات سمعت حكايات كثيرة عن سبب هذه التسمية ، البعض يقول إن أحد الأولياء سكن هنا وكان من كراماته إنه يطير علي بساط يشبه اللحاف ، كما ان البعض يقول إن السبب هو وجود عدد من المنجدين وتجار قطن التنجيد خلال فترات قديمة لكن لم يتبق منهم أحد الآن، وهناك فريق ثالث يؤكد أن أبو لحاف هذا كان لصا قبض عليه الأهالي قديماً وكان مشهوراً بسرقة الألحفة !
وعموماً .. هذه المنطقة شهيرة بالأسماء الغريبة لحاراتها ودروبها ، فجانب أبو لحاف توجد حارة حازق وحارة ناشد وحارة " الزير المعلق " ، لكن يبدو كما يقول سليمان رجب وهو محام شاب إن الجيل الجديد أصبح يخجل من هذه الأسماء ، ولذلك قدموا طلبات لمحافظة القاهرة لتغيير اسم " درب أبو لحاف " إلي " حارة النور " ..خاصة بعدما تم بناء عمارة عالية في بداية الدرب وهو ما اعتبروه " نقلة " في تاريخ أبو لحاف ، لكن مازال كل الأهالي يتمسكون بالاسم القديم ، بل ويعتبرون أن اسم " حارة " يقلل منهم .. فهم أهل " الدرب "، والطريف أن أهالي الحارة المجاورة " القرودي " قرروا هم أيضاً تغيير اسمها ليصبح "درب الغزالي" !
توقفنا داخل الحارة مع الحاج طلعت والذي يسكن في الحي منذ 50 عاماً ولديه " مسمط"، يقول : هناك شيء يفتخر به أهالي درب أبو لحاف .. أولا أن كوكب الشرق أم كلثوم غنت في أحد المنازل في نهاية الدرب من خلال احتفال ديني ، وكانت في بداية حياتها تلبس العقال وتردد الأناشيد الصوفية مع والدها وأخيها ، وزمان كان الدرب قطعة من الجنة .. بيوت يطل من شرفاتها الزرع الأخضر وعلاقات جميلة بين السكان ، وقد خرج من هنا محامون ومهندسون وأطباء .. لكن للأسف خرجوا ولا يعودون لأنهم " يستعرون " من اسم الدرب خاصة وأنه أصبح الآن نموذجاً للعشوائية ، فالكهرباء تنقطع كثيراً ومواسير المياه والصرف الصحي أصبحت متهالكة وتغرق الطرقات الضيقة بالدرب ، ومعظم شقق الدرب يتم تأجيرها بالغرفة .
وكل بيوت درب أبو لحاف تقريباً تملكها الأوقاف ، وبمناسبة كلامنا عن الإيجار ..أحمد فرغلي ولد هنا منذ 66 عاماً ومازال يعيش مع أولاده وأحفاده، يقول : هناك مشكلة في المكان .. فدرب أبو لحاف مساحته صغيرة جداً لكن عدد الساكنين فيه كبير جداً لأن معظم الشقق يتم تأجيرها بالغرفة خاصة للمغتربين .. بل ويتم تأجير حتي " فيشة " الكهرباء ... بمعني أن الغرفة مثلاً إيجارها 150 جنيهاً شهرياً ولو كانت بها فيشة كهرباء واحدة يرتفع إيجارها إلي 180 جنيهاً مقابل فاتورة الكهرباء .
الحاجة حكمت كانت تتكلم بفخر عن درب أبو لحاف رغم اعترافها بأنها تعيش في مكان عشوائي لا يملك سوي حكايات عن سنوات ماضية ، والغريب أنها عندما تتكلم عن الدرب قديماً تساوي في فخرها بأشهر أبنائه بين القاضي والفتوة ، تقول : كان يعيش هنا منذ سنوات مستشار كبير .. لكن من أشهر أبناء المنطقة أيضاً الفتوة سلامة أبو خطوة والحاج كامل الدجال، زمان كانت طرقات الدرب من البلاط وكل السكان يعرفون بعضهم وكأنهم عائلة واحدة، لكن الآن .. الناس أصبحت تشبه بيوتها .. لا علاقة لأي بيت بما يجاوره .
وربما يبدو اسم أبو لحاف أهون كثيراً من اسم الشارع الخلفي للدرب وهو " العربخانة " ، والغريب أنك لكي تمر بين المنطقتين عليك أن تحني رأسك لتمر من فتحة في أسفل منزل تشبه مدخل كهوف الجبال لتمر منها للجانب الآخر ، والمشكلة الرئيسية هناك هي عدم توافر مياه نظيفة بشكل دائم رغم أنها تقع في قلب القاهرة ، لكن بعيداً عن ذلك .. ليس غناء أم كلثوم عندهم هو فقط ما يفتخر به أهالي درب أبو لحاف .. لكن هناك أيضاً مقام سيدي الريدي.. ولهذا المقام حكاية غريبة جداً ، فهو عبارة عن مبني بسيط من دور واحد مساحته لا تتعدي 40 متراً، وهو تقريباً الوحيد بين مقامات الأولياء في مصر الذي ينقسم لجزءين .. الأول به ضريح والثاني تم تحويله لمحل خرداوات وبقالة ، وعندما دخلنا إلي جزء الضريح كان يبدو وكأنها مقبرة فرعونية يتم فتحها لأول مرة ، فقد فوجئنا بكميات كبيرة من الأتربة إلي جانب غابات العنكبوت المتراكمة علي الحوائط المتهالكة ، كما ان المكان نفسه – بخلاف مكان المقام - تم تحويله تقريباً لمخزن للصناديق القديمة ، بقية الحكاية يرويها مجدي قرقر أحد سكان الدرب ويقول : كثيراً ما نقوم بتنظيف المكان لكن الأتربة تملؤه دائماً بهذا الشكل لأن الحوائط قديمة ومتهالكة، ومقام سيدي محمد الريدي له شهرة كبيرة بين كل الصوفيين في مصر وليس أهالي الناصرية ودرب أبو لحاف فقط ، ويقام مولد له كل عام قبل شهر رمضان بأسبوع ويحضره الآلاف من كل محافظات مصر، وكل سيدات المنطقة " تتبارك " بهذا المقام ويعتبرون أن له كرامات .. والطلبة قبل الامتحانات يمرون من هنا لقراءة الفاتحة لصاحب المقام ..
الغريب أننا عندما سألنا كل أهالي المنطقة عن تاريخ بناء هذا المقام كلهم قالوا إنهم ولدوا ووجدوه في مكانه هكذا .. وعلي سبيل المبالغة في وصفه بالقديم جداً .. قال لنا سيد سليمان عمر وهو موظف ولديه شهادة عليا إن هذا المقام من زمن الهكسوس !! وحتي تزيد حكاية هذا المقام غموضاً .. لابد من الإشارة إلي أن كتب التاريخ الإسلامي تؤكد ان هناك عارفاً بالله اسمه محمد الريدي لكنه مدفون بمسجد شهير بقرية ريدة بمحافظة المنيا ، وبالتالي : من هو المدفون في مدخل درب أبو لحاف ؟! الله وحده يعلم .