تحمل كارمينا بورانا كملحمة موسيقية ومتتالية غنائية في طياتها أغاني الحب والغزل واللهو بما فيها من أجواء سحرية تخلب الألباب والعقول وتسيطر على المشاعر والأحاسيس، من أعظم الألحان المترجمة للملكات الشعورية الدينية والدنيوية على حدٍ سواء، سيمفونية الآمال والآلام والأقدار ففيها السيوف التي تتبارى والانفجارات المدوية، ورغم ذلك فهي المشاعر الفياضة في جميع مناحي الحياة، واهبة الإيحاءات النفسية التي تبحر فى خضم الذكريات حين تشعرك بمخاطبة الذات، كما أنها تتفاعل وتسرى فى العروق كالدماء، إنها تلهب الوجدان، وهى وإن جاز التعبير أم الألحان، إنها الموسيقى التى تشعر بقدسيتها إن باتت تشدو، وقد تعتبرها تكبيرات صلاة أو تراتيل كنسية، فهى تمثل هذا الكون الذي اختزل فى بعض الأصوات والنغمات، بل هى فلسفة الحقيقة التي صرنا نسمعها؛ أصوات ملائكية قادمة من العالم الآخر وتصلح لكل زمان ومكان، وإن كنا نبحث عن مؤلفة موسيقية يجتمع عليها الكون مهما اختلفت أجناسه وانتماءاته ودياناته فستكون هى كارمينا بورانا، وتعنى "أغاني دنيوية" باللاتينية، وهى مخطوطات تضم المجموعة الكاملة للقصائد العلمانية اللاتينية القديمة والتي خطت فى العصور الوسطى، وترجع بالتحديد إلى القرن الثالث عشر الميلادي حوالي عام 1280، وقد تم اكتشافها في دير بندكتين في مدينة بورين في إقليم بافاريا، والتي تقع على بعد 30 ميلا من مدينة ميونيخ، في شكل مجلد يتضمن 119 ورقة تحوى 228 قصيدة صيغت معظمها باللغة اللاتينية وبخليط من الألمانية البافارية الجنوبية والعامية الفرنسية، ويعتقد أن هذه المجموعة من وضع "الجوليارد" وهم جماعة من الرهبان والطلبة البافاريين الثائرين على سلطة الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الزمن، وتضم هذه القصائد الكثير من الأغاني التي تتجه إلى نقد الحياة بأسلوب ساخر، وتعلن احتجاجها على أسلوب السلطة ونفوذ الكنيسة وسلطة المال وزوال العلاقات الأخلاقية بتقاليدها الطيبة؛ فهى تتحدث عن كثير من الأمور الشديدة الدنيوية متمثلة فى الحب والطعام واللهو والنساء، وقد حجبت الكنيسة هذه الأغاني بسبب دنيويتها المفرطة إلى أن أفرج عنها عام 1847، حيث جمع الشاعر الألماني يوهان أندرياس شميلر المجموعة كاملة وطبعها فى نفس العام، وتوجد هذه المخطوطات فى مكتبة الدولة فى مدينة ميونيخ الألمانية. وقد كتب المؤلف كارل أورف (1895-1982) موسيقى كارمينا بورانا فيما بين عامى 1935 و1936 وقدمت لأول مرة في مدينة فرانكفورت عام 1937 وقد لاقت نجاحاً منقطع النظير كما تسببت في ضجة كبيرة وشهرة وشعبية واسعة لمؤلفها، والذي كتبها فى صيغة الكانتاتا والتي هي مقطوعة موسيقية ذات طابع غنائي فردى أو جماعي بمصاحبة مجموعة من الآلات، ولم يكتبها فى الشكل المعتاد للأوبرا وكان هذا سبباً لتميزها ونجاحها عن التناول التقليدي.. وتتكون الملحمة الموسيقية من خمسة وعشرين مقطعاً شعرياً ونثرياً تشمل المقدمة والتي تتضمن مناجاة لربة الأقدار فورتونا ربة الحظ والثروة والانتقام وسيدة القدر عند الرومان، ثم الثلاثة أقسام الرئيسية وهي "الربيع" ويدور حول ما يحمله الربيع من حب ولهو ورقص للشباب، ثم "في الحانة" ويعبر فيه عن تقلبات الحياة بما فيها من متع حسية وملذات دنيوية، وأخيراً "محكمة الحب" ويوضح فيها العلاقة الغزلية بين الرجل والمرأة التي تزداد تدريجيا لتصل إلى درجة من الابتهالات لفينوس إلهة الحب، والتي يتبدل ظهورها بتجلي إلهة الحظ فورتونا بعجلتها المصيرية لكى تتلاعب بأقدار البشر، وتعكس الحالة الشعورية من الفرح والسعادة إلى التعاسة والشقاء حتى في أقصى لحظات الهناء، من خلال إعادة المقدمة لكي تكون هي خير الختام.