(1) كانت تخشى أن يضيع منها حلم الأمومة إلى الأبد، فعلى الرغم من أنها كانت في أشهُر الحمل الأولى فإن الكلام الشائع كان مُربِكًا؛ كانوا يؤكدون أن اليهود سحروا المسلمين فلا يُولَد لهم أطفال. في الوقت نفسه وبينما تحلم بلقب «أم»، كانت تجافى أُمَّها «قتيلة بنت عبد العُزَّى»، كانت قتيلة من المشركات، وكان أن طلَّقها أبو بكر في الجاهلية، وكانت تحاول أن تُوَادَّ ابنتها التي أسلمت، كانت تطرق بابها بالهدايا، لكن أسماء كانت تأبى أن تقابلها أو تقبل هداياها... مرةً تِلوَ أخرى، إلى أن ذوَّبَتها الحيرة فذهبت إلى النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تستشيره، فنزلت الآية صريحةً: «لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». أرسل النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في طلب أسماء، وعندما حضرت قال لها: «صِلِى أُمَّك». بعدها بشهور كان عبد الله هو أول مولود في الإسلام، ن (2) بعد أن بدأ النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وأبو بكر (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) طريق الهجرة، وما إن خرجا من مكَّة، حتى جُنَّت قُرَيش كلها. كان أبو جهل يعرف أنه سيجد الخبر اليقين عند أسماء بنت أبي بكر، ذهب إلى بيتها مع أصحابه، وحاول أن يعرف منها أين ذهب أبوها وصاحبه، إلا أنها كتمت السرَّ كما ينبغي. كان غضب أبو جهل جنونيًّا، استفزه إنكار أسماء فهوى على وجهها بكَفِّ يده. سيطر الصمت على الأرض كلها في هذه اللحظة، ولم يكُن سوى صوت الصفعة وهي تزلزل وجه أسماء. سقط قرط أسماء على الأرض من فرط قسوة كف أبي جهل، همَّت قريبة لها بأن تنحني على الأرض لالتقاطه فنهرَتها أسماء: هذا ليس موضع انحناء أبدًا. انصرف أبو جهل، وبعد خطوات التفت إلى الخلف فوجد أسماء تقف شامخة أمام باب دارها. وجدها تنظر بثبات إلى عينيه فتَعَثَّر في سيره ثم قام مهرولًا ينفض ثيابه. (3) كان زوجها الزُّبَيْر بن العوَّام (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مبشَّرًا بالجنة، لكن هذا لم يصنع منه مَلَكًا. كان زوجها شديدًا عليها، كانت تشكو إلى أبيها فيقول لها: «اصبرى»، ويقال: إن ابنهما عبد الله أرغمه على طلاقها بعد أن بلغت شِدَّته معها منتهاها. إلا أن هذه الشدة لم تُتلِف أجمل ما فيها، كانت أسماء في سباق دائم مع السيِّدة عائشة في الكرم والجود، يقال: إن عائشة كانت تجمع الشيء إلى الشيء إلى أن يصبح قدرًا بمرور الأيام فتتصدَّق به، أما أسماء فلم تكُن تدَّخر شيئًا لغد أبدًا، وكان تَصَدُّقها قرينًا لزهدها، وكانت تُوصِي مَن حولها بأن انتظار فضل الصدقة يُفسِدها: تَصَدَّقْن ولا تنتظرن الفضل. زهدت في كل شيء حتى بصرها الذي ضاع منها بمرور الزمن، ولكن حتى ضياع البصر لم يوقف مسيرة زهدها، أهداها أحدهم كسوة فاخرة من العراق، لمستها ثم قالت: « أُفٍّ، رُدُّوا عليه كسوته »، فلمَّا أحسَّت بأنه قد شق عليه برَّرَت ذلك بأن الكسوة تشفّ، قالوا لها: « لا تشفّ »، قالت: « فإنها تصِفُ »، فلمَّا يئسوا أحضروا لها كسوة فقيرة خشنة، لمستها فقالت: « مثلَ هذا فاكسُني ». لم تحزن يومًا على ضياع بصرها، بل أسعدها إذ رأت فيه هديَّةً تُصلِح الحال، كان أقلُّ من ذلك يسعدها، يصيبها الصداع فتقول: « بذنبي، وما يغفره الله أكثر إن شاء الله ». أمَّا كيف فقدت بصرها، فيقول الزُّبَيْر بن العوَّام: إنه دخل على زوجته تصلِّي وهي تقرأ: « فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ » فتستعيذ وتبكي، يقول: « فخرجتُ من البيت، وغِبتُ لا أذكر كم طالت غيبتي، ثم رجعتُ فوجدتها على الحال نفسه تبكي وتستعيذ ». كانت أسماء تفقد نور عينها بالتدريج بالمقدار نفسه الذي تمتلك به قوة الإبصار بالأنوار الإلهية، فلما كان العام المائة من عمرها هجرت الأرض إلى منبع النور. (4) بينما عبد الله بن الزُّبَيْر مشغول بمقاومة هجوم الحَجَّاج بن يوسف الثقفي على مكَّة، سرق لحظات ذهب فيها إلى أمه يشكو إليها أن معظم مَن حوله قد خذلوه، ويسألها ماذا يفعل؟... قالت له: « إن كنت تعلم أنك على الحقِّ فامضِ له، فقد قُتِلَ عليه أصحابك، وإن كنت تريد الدنيا فبئس العبد أنت ». قال: « انظرى يا أماه، إنى مقتول مِن يومي هذا، وأنا لم أتعمد إتيان مُنكَر ولا عمل فاحشة ولا الجور في الحكم ولا ظلم مسلم، إنما أقول لك ذلك لا تزكية لنفسي ولكن تعزية لأمي، فلا يشتدَّ حزنك لأمر الله ». قالت: « اللهم قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيتَ ». وقف عبد الله يودِّعها ثم قال: « قد يمثِّلون بجثتي بعد موتي ». قالت: « لا يَضِيرُ الشاة سلخها بعد ذبحها ». همّ بتقبيل يدها فعندما اقترب لمست الدرع فوقه فانزعجت وقالت: « هذه الدرع لا تُشبِه كلَّ ما قُلتَه لي ». قال: « إنما ارتديتها حتى لا تشعرى بخوف علَيَّ ». قالت: « إنما هي ما يجعلني أخاف عليك ». فنزعها. (5) كان جسد عبد الله بن الزُّبَيْر مصلوبًا في المسجد الحرام بينما رسول الحَجَّاج الثقفي يطرق بيت أسماء طالبًا حضورها، فرفضَت. عاد الرَّسُول قائلًا: « يقول الحَجَّاج لَتأتِيَنِّي أو ليبعثَنَّ لك من يسحبك من قرونك »، فرفضَت. طرق الحُجَّاج بابها، ففتحت له... قال: « إن ابنك ألحد في هذا البيت وأذاقه الله من عذاب أليم ». قالت: « كذبتَ؛ لقد كان الصوَّام القوَّام ». قال: « إنك لا تعرفين قيمة ما فعلتُه بعدوِّ الله هذا ». قالت: « أعرف.. لقد أفسدْتَ عليه دنياه، وأفسدتَ على نفسك آخرتك ». (6) بعد أن انصرف أبو جهل عن باب بيت أسماء يتعثر في سيره، دخلَت أسماء لتُعِدَّ مئونة مشوار الهجرة لأبيها وصاحبه، وبعد أن أنهت عملها شقَّت النطاق الذي ترتديه نصفين، نصف لحمل الطعام ونصف صنعت منه رباطًا لقربة الماء. وهي تخرج من دارها ليلًا حاملةً المئونة شعرت كأن قدمها قد داست فوق شيء صلب، مدَّت يدها فوجدت قرطها الذي طار منها صباحًا بفعل صفعة أبي جهل. في الطريق إلى غار ثور كانت أسماء تسلك دروبًا وعرة وممرَّات مُوحِشةً في ظلام مُطبِق دون أن تتوقف لحظة واحدة عن البكاء.