القاهرة 17 يناير 2011 .. عندما عدت من تونس قبل أقل من شهر ترددت في الكتابة -أو ربما تخوفت-، وقللت من حجم ما لاحظته هناك في الفترة من 14 وحتى 21 من ديسمبر الماضي .. عاشتها والتقطت صورها: آمال عويضة ، عندما لبيت دعوة مركز كوثر للباحثات العربيات لحضور دورة تدريبية لعدد من الإعلاميين والإعلاميات العرب ، كان الوضع صعباً، والإحباط عاماً، والأصوات تنتقد في همس، ليصبح على الزائر المشاكس مثلي إدراك مفهوم الدولة البوليسية.
كله تحت السيطرة تزامن وصولي وأمطار غزيرة غسلت شوارع البلاد، التي بدت خالية من البشر والسيارات، على أمل طقس أفضل في الغد. وفي اليوم الأول للتدريب حول قضايا المرأة والنوع الاجتماعي والإعلام، تناول مدربنا المواثيق الصحفية الواجب الاسترشاد بها عند علاج قضايا تتعلق بالمرأة والدور الاجتماعي الذي يفرضه إعلام المجتمع وعاداته على أفراده، وأِشار مدربنا إلى ميثاق قناة الجزيرة، ونصحنا بالاستزادة إلكترونياً. عندما أبحرت على الإنترنت مساء، فوجئت بأن كل ما يتعلق بالجزيرة قيد التوقيف، ولا مجال للعثور عليه عبر شبكة الإنترنت التي يوفرها الفندق مجاناً بأسلوب "الوايرليس/ اللاسلكي". ولاحظت أن بروفايلات الإعلاميين اليساريين أو الإسلاميين التوانسة على الفيس بوك غير متاحة، كما أنه هناك تعتيم وإغلاق تام لليوتيوب والفيديوهات المتداولة، بالإضافة إلى المواقع ومنها بوابة ياهو و العربية التي تنشر مجرد أخباراً عن برقيات الويكيلكس، لاسيما وإذا تناولت الفساد في أي من الدول العربية. ومن بين 40 قناة أتاحها تليفزيون الفندق الفاخر، والتي كان غالبيتها للكرة والترفيه باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، لم أتابع منها سوى الجزيرة التي عرفت أنها تحظى بجماهيرية خاصة في تونس التي تعاني من تجفيف منابع الأخبار في التليفزيون المحلي الذي فقد مصداقيته بين التونسيين لتعرضه لرقابة حكومية ملحوظة. احترس.. أنت في تونس وفي الصباح، عندما شاركت زميلاتي الإعلاميات من تونس والبحرين وسوريا ولبنان ما توصلت إليه من ملامح سجن تونسي إلكتروني تونسي، ابتسمت لنا بمرارة زميلتنا التونسية "سلمى الجلاصي" بمرارة، ولم تنس تنبيهنا بصوت خفيض إلى أن كل شيء في تونس تحت السيطرة، حتى أن دورتنا التدريبية التي لا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد يتم تسجيل جلساتها بالكامل، فقلت لها إن الأمر نفسه تم بصورة مختلفة في مؤتمر شاركت فيه بتونس عام 2005، حيث انضم إلينا وبمنتهى الجرأة شابة وشاب قدما انفسيهما باعتبارهما طالبين جامعيين قاما بتسجيل كل شاردة وواردة نطق بها المشاركون. ودعتني "سلمى" لتدخين سيجارتها في الهواء الطلق خارج قاعة الغذاء، لتتحدث بعفوية وشجن. على شاطيء البحر المتوسط، وبالتحديد منطقة "جمرث السياحية، نفثت "سلمى" غضبها مع دخان سيجارتها، بينما استرسلت في حديث عن القهر الحكومي التونسي، وتعرض زوجها الشاعر للضرب لتغريده خارج السرب. حدثتني "سلمى" المثقفة اليسارية عن البطالين - العاطلين- الذين لايجدون فرصة عمل بينما ينعم أفراد العائلة الرئاسية بكل الخيرات، وتمارس الداخلية تكميم الأفواه المعترضة بكل ضراوة ممكنة. كانت تتكلم بأسى امرأة عجوز، اختصتني بآلامها وهي واثقة أن ثالثنا البحر على بعد نحو 25 كم من وزارة الداخلية في العاصمة. سائق التاكسي الطيب وعلى الرغم من بعدنا الجغرافي عن العاصمة فيما يشبه "المنفى التدريبي" كأعضاء المنتخب القومي، إلا أن الزيارة للعاصمة كانت واجب وفرض عين لرؤية أصدقاء منهم الروائي العزيز "وحيد الطويلة" بالجامعة العربية، الذي جاء بصحبة صديقه الروائي سمير "بن علي" الذي يتشابه في الاسم مع رئيس البلاد، وقد ِأشار سمير ضاحكا إلى أنه يحاول الاستفادة من اللقب في حماية نفسه من المضايقات، ولكن أشد ما يخشاه هو ما سيتعرض له من لعنات بعد سقوطه. كانت القفشة لاذعة، والأجواء تنذر بأمطار بينما نتبادل ما نعرف عما حدث في سيدي بوزيد، أذكر المقهى والشاي بالنعناع وحبات اللوز ومخاوف مثقفين عرب يأملون في مجتمعات أفضل. شاركت الجالسين قصة سائق التاكسي المسن الذي أقلني ومجموعة الزميلات الإعلاميات من تونس والبحرين واليمن والسعودية وسوريا، إلى العاصمة التونسية، إذ فطن السائق للهجتي المصرية وبدأ كمعظم سائقي التاكسي في الحديث معنا دون انقطاع مشيداً بمصر الستينيات وريادتها وفنها وفنانيها، وعبد الناصر الرجل الذي راودته أحلام وهزمته وقائع، فوجدت الفرصة سانحة لسؤاله عما يحدث في "سيدي بوزيد" فلم يشأ الرجل الطيب استكمال حديثه مؤكداً أنهم بضعة مشاغبين صغار، وانتقل مؤثراً السلامة للحديث عن أزمة السير في شوارع تونس العاصمة فيما بعد الخامسة، ثم لفنا صمت طويل !!!. المرأة الحديدية رغم وجودي في تونس، لم أعرف بانتحار" محمد بوعزيزي" سوى عبر تقرير قصير بثته الجزيرة مساء الثامن عشر من ديسمبر، وهو شاب من ولاية "سيدي بوزيد"، إحدى ولايات الجمهورية التونسية، التي تقع وسط البلاد على بعد 210 كم من العاصمة. و"بوعزيزي" -26 عاماً- حاصل على شهادة جامعية، أشعل النار في نفسه احتجاجاً بعد أن صفعته شرطية أصدرت أمراً بمنعه من بيع الخضر والفاكهة دون ترخيص من البلدية، ولرفض المحافظة مناقشة شكواه ضد الشرطية، وهو ما اعتبره بوعزيزي إهانة أخرى لكرامته التي تآكلت منذ ظل عاطلا لسنوات قبل أن يتجه للعمل كبائع خضار لكسب لقمة العيش التي أصبحت بعيدة المنال في السنوات الأخيرة ، وهو ما يكشف عن قوة وهيمنة جهاز الشرطة الذي أصبح أداة الحاكم في زرع الخوف في قلوب المحكومين. وهكذا، فشلت في العثور على أنباء أو تعليق على الحادث في الجرائد التونسية التي وقعت في يدي على مدار يومين، إذ لم يكن هناك ما يشير من قريب أو من بعيد للأمر سوى إشارات عابرة وقصيرة إلى حالة شغب تم السيطرة عليها كما جاء في جريدة "الحرية"، وفي الصفحة الرابعة الداخلية، وذلك بعد ثلاثة أيام من إشعال "بوعزيزي" لنفسه. شخصياً، لفت نظري أمران: قوة الشرطة والمرأة في تونس، إذ تحظى النساء بقوة ملحوظة في المجتمع التونسي، ويبدو أن "بو عزيزي" الذي تقبل لسنوات قهر رئيسه "بن علي" و قسوة رجال الشرطة وفساد رجال البلدية وغيرهم، أصابته الغصة عندما تضاءل موقعه الذكوري في واقعة صفع المرأة الشرطية له، ربما ليتذكر هو وغيره "ليلى" زوجة بن علي، وصفعات إقالة عدد من المسئولين الذين قيل إنهم تعرضوا لغضبتها. الخروج المفاجأة في نحو 29 يوماً اكتشفت الداخلية التونسية ضعفها الحقيقي بعد أن أطلقت الرصاص الحي ليصيب العشرات في مقتل، ليخرج التونسيون إلى شوارع العاصمة وعلى رأسها شارع الحبيب بورقيبة الذي سرت فيه قبل أسابيع مغسولاً بالمطر ليستعد الشارع الذي يضم وزارة الداخلية لمئات الآلاف من التونسيين –تعدادهم نحو 10 ملايين- الرافضين لما يحدث. اللافت للنظر أن "بن علي" لم يستطع الصمود مع رفض قائد الجيش إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وخاصة بعد خطاب ليلة الخميس 13 يناير، الذي أعلن فيه "بن علي" مجموعة من الترضيات، مدعياً عدم علمه بما يحدث. وفي أثناء الخطاب وبعده، استمرت الشرطة في حصد أرواح المحتجين، في الوقت الذي حاول فيه من صدقوه الهتاف باسمه. ولكن جاء صباح صباح الجمعة بما لم يتوقعه "بن علي" بمطالبة الغالبية برحيله، مرددين بينما يمزقون صوره: "اعتصام اعتصام.. حتى يسقط النظام"، و"تونس حرة.. بن على بره". مظاهرات التونسيين وكانت المفاجاة الكبرى، في ذلك الخروج المباغت للرئيس "الفار" كما وصفته قناة "العربية"، دون نصير في الداخل، أو في الخارج حيث حاول أن يؤذن في مالطة فلم يجد مئذنة، وأراد أن يرتاح في باريس فلم يجد أذرعاً مشرعة، بل رفض واضح لهبوط طائرته أو استمرار بقاء أفراد عائلته أو أصهاره فضلاً عن تجميد الحسابات المشبوهة، وعلى مدار ليلة 15 يناير دارت طائرة "بن علي" تبحث عن مكان حتى استقبلته السعودية على الرغم من ماضي "بن علي" المعروف بتقييده للتيار الإسلامي، ونفيه لرموزه. قطع الدومينو وهكذا سقطت دولة "بن علي" البوليسية في أقل من شهر، لتضافر مجموعة من الأسباب التي كانت تنذر بسقوطه مع الرهان على الزمن، وهو مصدر المفاجأة إذ لم يتخيل أشد المتابعين تفاؤلاً سقوط أحجار الدومينو التونسية بتلك السرعة، وهو ما يشكل عبئاً حقيقياً على أهل تونس في تجاوز صدمة الحرية المفاجئة التي منحت أتباع الرئيس السابق وميليشيات أصهاره فرصة قلقلة الاستقرار والمشاركة في حرق مبان تابعة للعهد البائد ربما احتوت أسراراً لم يرغبوا في الكشف عنها، فضلاً عن استغلال بعض الرعاع للأمر نفسه، وهو ما يجعل من تونس في مفترق طرق يؤمن محبوها في أنها ستسلك أفضلها في أقرب فرصة قبل أن يقفز على منجزات ثورة فقرائها يمين أو يسار. إن تونس في سعيها نحو مستقبل أفضل إنما استلهمت كلمات شاعرها الثوري الذي قضى نحبه شابا "أبو القاسم الشابي"، التي تم تعديلها من: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" إلى "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب .. "بن علي" أو أي طاغية آخر"!. .