" لا تربية ولا تعليم " عنوان كتاب يستحق القراءة لأنه يطرح ويكشف أبعادا خفية ومزعجة فى قضية مهمة وهى أن الأوضاع وصلت إلى أنه لم يعد لدينا لا تربية ولا تعليم فالكتاب يحمل فى مضمونه ما يفوق عدد صفحاته وحقق توزيعا لافتا يكشف عن أن قضية التربية والتعليم صارت هما مصريا خالصا.. والكتاب هو التجربة الأولى فى الكتابة لمؤلفته الدكتورة هناء وهبة والتى أمضت مشوار حياتها فى التعليم ومع تدهور الأوضاع قررت أن تطرح على الرأى العام صورة ما وصل إليه حال التعليم المصرى. وفى مقدمة الكتاب تقول الدكتورة هناء وهبة ببساطة شديدة وبكلمات عامية مقبولة: " قضيت الجزء الأكبر من حياتى فى التعليم.. عملت بالتدريس منذ تخرجى فى الجامعة.. عشقت التدريس والطلبة ودنيا المدارس.. دنيا النجاح والفشل.. الطموحات والتحديات.. الحق والظلم.. الشقاوة وتجارب الشباب.. دنيا واسعة وكل يوم بيعدى بيحكى حكاية.. وجيل وراء جيل الحكايات بتتعاد مع الأخذ فى الاعتبار تطور الدنيا تطوراً سريعاً جداً ". وتضيف: " أما فى السنوات الأخيرة فقد انقلبت الدنيا رأساً على عقب والقيم والمثل اتلخبطت إلى درجة مفزعة.. المشكلة ليست فقط فى التعليم المتوسط الذى يحصل عليه الطلبة حتى وإن كانوا فى أفضل مدارس مصر وإنما أيضاً فى التربية اللى ضاعت تماماً فى زحمة الاعتبارات الأخرى. زمان كان التزمّت ميزة فمثلاً كان الناس بيفتخروا أن أولادهم وبناتهم فى مدارس الراهبات أو أن ناظرة زى الأستاذة العظيمة مربية الأجيال رضا سلامة - رحمها الله- بيعمل لها الطلبة وأولياء الأمور ألف حساب ولا يجرؤ أحد على التعدى عليها أو حتى رفع نبرة صوته فى المدرسة وكان التعليم تعليما بجد وكان المدرس مثلاً يحتذى به وسط الطلبة والعلم له قيمة للفرد والأسرة والدولة واهتم مديرو المدارس بهيئة المعلم وأخلاقياته قدر اهتمامهم بقدراته العلمية وموهبته.. والمدارس المحترمة كان عندها مجموعة من النظم واللوائح لخدمة المنظومة التعليمية والكل يحترم هذه القوانين أما الآن فبقدر وزن ولى الأمر تكون قدرة تأثيره على قرارات المدرسة والرؤية العلمية والأنشطة الثقافية والاجتماعية ". وتقول الدكتورة هبة وهبة: " كنت أسمع والدتى وهى تحكى عن المدرسة الأمريكية التى تربت بها فى القسم الداخلى والضبط والربط والالتزام بالمواعيد والإجازات ومراعاة آداب المائدة والعلاقات بين الطالبات والمدرسات التى يسودها الاحترام الشديد. ولما ذهبت أنا للمدرسة كانت الدنيا لسة بخير( إلى حد ما ) وكانت الراهبات متشددات قدر ما سمح لهن الوقت والجهد مع الأعداد المتزايدة من الطالبات ومع ذلك اهتموا بالعلم والتربية وتشددوا حتى فى لون التوكة اللى فى الشعر وموديل الحذاء وأن تكون الجونيلة تحت الركبة ومفيش طبعاً طلاء أظافر وخلافه ولكنهم شجعوا فى الطلبة حب القراءة وقيمة الآداب والشعر بألوانه.. تعلمنا قيمة العمل وحسن الأداء وأحببنا التفوق وسهرنا الليالى فى طلب العلم ولم نكتف بالنجاح. ولكن الدنيا اتغيرت كتير زى ما المجتمع كله اتغير وتغيرت القيم واتلخبطت الكروت والجيل الجديد أصبح يسخر من جيل الآباء فالشباب أجيال الكمبيوتر والتليفون الموبايل والألعاب الالكترونية والتكنولوجيا التى يتعاملون معها بيسر ومن هنا كانت فكرة أنهم بيعرفوا أكتر من الآباء ومع أن هذا الجيل هو جيل العولمة إلا أن الاهتمامات أصبحت مادية بحتة فكل حاجة قيمتها هى المادة يعنى كتير من الطلبة ومع الأسف أولياء الأمور أيضا شايفين أن المدرس النهارده بيشتغل عند ابنهم أو بنتهم لأن المصاريف اللى بيدفعوها هى اللى بتغطى مرتبات الأساتذة والطلبة مهتمون بالقشور والمدرس الشاطر هو اللى يسهل المنهج ويبسطه لأن القيمة لم تصبح " الطالب بيتعلم إيه إنما هو راضى عن المدرس ومش بيشتكى ولا مش مبسوط من أدائه "!! وشوية شوية المدارس بقت استثمارية وأصبح شعارها " الطالب اللى بيدفع دايماً على حق واللى بيدفع أكتر على حق أكتر!!". واهتم أصحاب المدرس بالمظهر وتنوعت المدارس وتنافست وخصوصاً فى المبانى الفاخرة والملاعب التى تعتبر أفضل بكثير من ملاعب الأندية العريقة وفيه مدارس مصروف على الريسبشن بتاعها كتير أوى فالأرضيات والسلم من الجرانيت والحوائط مغطاة بالخشب إنما أول ما الواحد يعدى الباب الذى يفصل الريسبشن عن منطقة الفصول يقابل منظر تانى خالص ويدخل مجتمع العشوائيات شكلاً وموضوعاً. ومشروع بناء مدرسة مربح جدا ومدرسة اللغات أصبحت هدفاً متواضعاً جداً.. وأصحاب المدارس بيخططوا يبنوا والمقاولون بيشتغلوا وأولياء الأمور بيدفعوا والشاطر ياخد من أولياء الأمور على خوانة ويدفعهم أكثر بس بشرط يكون على قلبهم زى العسل. فى زحمة الاستثمارات والقروض والبنوك والتوسعات والأسهم والمكاسب أغفلت رسالة التعليم وضاعت الرؤية وتغير الهدف وهزلت الجودة. وكتير أوى أقابل ناس بتقول: " هو إيه اللى حصل للتعليم فى مصر؟". والإجابة هى أنه نفس اللى حصل للمجتمع المصرى كله.. الدنيا لم تتغير وينقلب حالها فى يوم وليلة إنما المستحيل أصبح عيبا وبعدين العيب أصبح غير مستحب وبعدين غير المستحب أصبح ما يصحش وبعدين تغاضينا حتى عن القدرة على " الشجب" فأصبح واقعاً فمثلاً النهارده كان عندى حصة وفى أثناء الحصة ضرب التليفون الموبايل لأحد الطلبة فأخد المكالمة واتكلم كلمتين وقفل ثم تذكر شيئاً ما فاتصل سريعاً وقال كلمتين وقفل وبعدين صديقه تذكر شيئاً آخر فكلمه كلمتين وقفل!!!! فلما عنفته قال لى بهدوء شديد: " حضرتك زعلانة أوى كده ليه؟.. دى ماما كانت بتطمئن على". القيم راحت والغلط والصح اتلخبطوا والكدب الأبيض مفيش منه ضرر والأمرّ والأدهى إن والدة الطالب كلمتنى علشان تشرح لى أنه اضطر يكلم صاحبه لأن عندهم درس خصوصى بعد المدرسة ومش عارف عنوان المدرس! هو ده بالضبط اللى حصل للتعليم.. وهو نفس اللى حصل للمجتمع كله. فالمدارس تعكس صورة المجتمع.. وهى المرايا اللى بتورى صورة الحاضر وصورة المستقبل التى يراها التعليم فاسدة ومشوهة لمجتمع عشوائى. نعذر مين ونغلط مين؟ نحن أمام مجتمع متلخبط والكل فيه ضحايا والكل مذنبون. وبغض النظر الخطأ فين ومن المسئول؟ فإن المجتمع كله يدفع الثمن ". وتختتم مقدمتها قائلة: أتمنى أن يفتح هذا الكتاب عيون من يهمهم الأمر فيبدأوا بأنفسهم وأولادهم ثم أصدقائهم وجيرانهم لنتخلص معاً من الاختباء خلف المبررات والأعذار ونخلع الأقنعة ونواجه التراخى الذى أصبح سمة من سمات مدارسنا ومجتمعنا وننهض بالتربية والتعليم وبذلك ننهض بمصر كلها.