كنا نترقب مجيئه فى موعده السنوى على أحرّ من الجمر ، ونستطلع مقدماته وبشائره بنفس اللهفة التى يستطلع بها القوم هلال شهر رمضان استعداداً لبدء الصوم . فلقد كان فى المدينة الصغيرة التى نشأت بها ساحة واسعة .. تخصص كل عام للاحتفالات المصاحبة لمولد العارف بالله سيدى إبراهيم الدسوقى ، فإلى جوار الاحتفالات الدينية ، وخيام الطرق الصوفية التي تقام فيها الأذكار وتمتد الموائد بالقرب من المسجد ، كانت هذه الساحة تختص بالجانب الترفيهى من احتفالات المولد .. وتدخل بنا كل عام إلى عالم سحرى خلاب . ففيها تنصب فرق السيرك الأربع التى تأتى للمدينة كل سنة خيامها ، وتتلألأ أنوارها ، وتزأر وحوشها ، وتصدح فرقها الموسيقية ، وتقدم ألعابها العجيبة .. وفيها كذلك تنتشر تلك المسارح الغنائية المتواضعة التي تقدم عروضاً للمنوعات الغنائية ، ومن أشهرها بالنسبة لنا مسرح هدى صابر ، وحمام العطار ، وحسين المليجى وغيرهم ، وإلى جوارها " تلعلع " ميكروفونات العروض السحرية القصيرة فى مسارح لا تعدو أن تكون محلات صغيرة مستأجرة كمحلات البقالة والعطارة تقام فيها منصة خشبية .. يتراص الجمهور أمامها ليشاهد العرض واقفاً .. ولا يزيد عدده على 20 أو 25 مشاهداً فى كل مرة .. يدفع كل منهم قرشاً واحداً أو قرشين ليستمتع بمشاهدة عرض لا يستغرق أكثر من 20 دقيقة ، لأعجوبة من أعاجيب هذا الزمان السعيد ، كالفتاة الكهربائية التى يوصل مقدم العرض التيار الكهربائى إلى جسمها أمامنا فلا تتأثر به ! ..ويضع على ذراعيها " لمبة نيون " فتضيء على الفور ! ..أو تلك الأعجوبة الأخرى التى تثير فينا – إلي جانب الانبهار – الإشفاق ، وتندى عيوننا الصغيرة بالدمع تعاطفاً معها .. وهي تلك " الرأس " البشرية الموضوعة على مائدة أمامنا ، ويكشف لنا مقدم العرض غطاء المائدة فلا نجد لها جسداً .. ويحدثنا صاحب الرأس عن " مأساته " المؤلمة ..وكيف أنه كان ابناً عاقاً لوالدته فغضبت عليه ودعت ربّها أن ينتقم منه ، فقضى عليه بأن يحيا رأساً بلا جسد ، ليكون عبرة للآخرين .. ويبلغ بنا التأثر مبلغه ونسأل صاحب الرأس : كيف يأكل وهو بلا ذراعين وكيف ينام ؟ وكيف .. وكيف ؟ .. ويجيبنا على أسئلتنا راجياً منا ألا نغضب أبوينا لكيلا نلقى سوء المصير ، وطالباً منا أن ندعو له بالصبر على بلواه .. ونخرج من العرض متعجبين ومتألمين ، فلا يمضى بنا العمر طويلاً حتى ندرك أن هذه الرأس التى طالما استدرت دموعنا لم تكن سوى حيلة تستخدم فيها المرايات وخداع البصر لإيهامنا أنها بلا جسد ! . ومع ذلك تبقى ذكراها أثيرة فى النفوس .. برغم الخداع وابتزاز العواطف ، أو تلك الفتاة المعذبة التى يأمرها أمامنا الساحر الجبار بالدخول إلي صندوق كبير فتمتثل لأمره .. وما أن يغلقه عليها حتى يغرس في الصندوق السيوف الباترة من كل جانب فتئن لوقعها أحشاؤنا ونحن نتخيل غرسها فى جسدها .. ثم تنتهى الفقرة بين صيحات الخوف والإشفاق بظهور الفتاة سالمة لم تسل منها نقطة دم واحدة ! البقية غداً إن شاء الله .. وأقرأ أيضاً : الحلقة السادسة عشرة .. الباب !