ننام مجهدين وقد تلوثت أصابعنا بالأصباغ المختلفة بالرغم من التحذير والتهديد ... فلقد أصررنا نحن الصغار علي أن نشترك في صبغ البيض بالألوان الزاهية في المساء استعدادا لاحتفال شم النسيم في الصباح التالي ... وبعد شيء من المغالبة للأرق بسبب تعجلنا انقشاع الظلام وظهور الصباح نستغرق في النوم متعبين ... وننهض علي غير العادة عند أول نداء , نرتدي ملابس جديدة ... ونحصل علي العيدية ونتجة إلي مواقع الاحتفال التقليدي بشم النسيم .. في عيد الفطر وعيد الأضحي نتيجة إلي ساحة العيد بجوار المسجد الإبراهيمي .. أما في شم النسيم فإننا نتجه إلى " الجزيرة " وإلى " النيل " ، فثمة جزيرة فى مجرى النيل أمام مدينتنا يتجه إليها أبناء المدينة عبر الكوبري القديم منذ الصباح الباكر ... وعلي شاطئها يتجمعون , ويتناولون إفطار شم النسيم التقليدي من البيض والخس والملانة ... ويشاهدون المهرجان الذي لا تعرفه المدينة إلا في هذا اليوم وحده كل سنة .. فمنذ الصباح الباكر يأتي إلي المكان شجعان المدينة من المغامرين الذين لايشق لهم غبار ولا يخشون الهلاك , فيخلعون ملابسهم , مكتفين بالشورت الداخلي أو المايوه ... ثم يصعدون إلي الكوبري وسط تشجيع الحاضرين ويتسلق الواحد منهم بجسارة متناهية " درابزين " الكوبري ويتدلي بساقية في اتجاه الماء ... ثم يقفز فجأة من ارتفاع الكوبري في مياه النهر فتنخلع قلوبنا نحن من الآثار والترقب والخوف ... ونسمع لارتطامه بالماء صوتا مدويا , ويختفي جسمه كاملا تحت سطح النهر صانعا في مكان الهبوط دوائر متسعة من المياه , فنحبس نحن أنفاسنا ... ونركز أنظارنا علي صفحة النهر إلي أن تهتز دوائر المياه مرة أخري ويبرز رأس السباح الشجاع من تحت الماء فنطمئن إلي أن القفزة قد نجحت بسلام , وتلتهب أكفنا بالتصفيق وحناجرنا بالصياح , ويخرج البطل من الماء محاطا بالإكبار والإجلال ... فيستريح قليلا ويتسلي بمشاهدة قفزات الآخرين , ثم يصعد إلي الكوبري ويكرر المعجزة , وهكذا طيلة صباح يوم المهرجان وحتي اقتراب الغروب , وعودتنا منفعلين ومشحونين بالمتعة والآثارة إلي بيوتنا , ونتساءل نحن عن هؤلاء الأبطال الذين يقدمون لنا هذا العرض المجاني المثير كل سنة .... فنعرف أنهم جميعا حرفيون وباعة متجولون وبسطاء لم يتلقوا أي تدريب علي الغطس ..... ولا علي كيفية تجنب أخطار الارتطام بالماء ... وإنما تعلموا السباحة بالممارسة في نهر النيل , ثم شاهدوا الأبطال السابقين يقفزون من فوق الكوبري إلي النيل في شم النسيم ... فخاضوا التجربة بجسارة ... واكتسبوا الخبرة بالمخاطرة ! ونعرف أيضا أن آباء معظم هؤلاء الأبطال لايرضون عن تعريضهم لأنفسهم للخطر علي هذا النحو , وأنهم يحظرون عليهم الاشتراك في هذا المهرجان , لكن الأبطال يتحايلون علي أوامر الاباء لاسعادنا , وقد يتلقي بعضهم العقاب أو اللوم بعد العودة من المهرجان ! وبين قائمة الأشاوس وا لأبطال تثبت في الذاكرة صورة واحد منهم ... كان جسمه فارعا وشاربه كثا ومظهره مهيبا وجرأته عاليه .. فكان أول من أقدم علي القفز في الماء بالرأس والذراعين إلي أسفل وليس بالقدمين , كما كان زملائه يفعلون ... فاستحق منا الإعجاب والإشادة , ومع كل قفزة جرئيه له كانت مكانته تتدعم في نفوسنا ... ومحبته والإعجاب به يستقران في القلوب , حتي ليصبح المثل الأعلي لنا جميعا في القوة والمهابة والاحترام , ويصبح من ينال منه لفته اهتمام أو نظرة محسودا من الآخرين , وكلما غادر الماء بعد قفزة ناجح التف حوله الصغار معجبين ومشجعين وهو ينظر إليهم من عل ولايرد علي أحاديثهم ... فنصاحبه في زفة إلي الكوبري استعدادا للقفز ة التالية .... ولقد فعلنا ذات يوم وهو يتقدمنا في جسارة وكبرياء ... وقبل أن يهم بارتقاء " الدرابزين " فوجئنا ببطلنا الجسور يصرخ في فزع : أيوبا !, ثم يطلق ساقية للريح , وهو لا يرتدي شيئا إلا المايوه الصوفي المتهريء .... ونري رجلا يحمل عصا غليظة قادما من الأتجاه الآخر وهو يسب ويشتم الولد الصائع الضائع الذي لم يفلح في مهنة , ويفرح فقط بالتفاف " العيال " حوله وتعريض نفسه للخطركل حين ! وتتلقي صورة البطل الجسور في مخيلتنا طعنة دامية , لكننا للعجب لا نفقد احترامنا له ونكف عن الإعجاب به حين يشارك في المهرجان التالي خفية من وراء أبيه ! وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الأولى .. الانحناء ! الحكاية الثانية .. أيام السعادة ! الحكاية الثالثة .. الاحتفال ! الحكاية الرابعة .. التواصل عن بعد ! الحكاية الخامسة .. شيء من الألم ! الحكاية السادسة ... الانتقام ! الحكاية السابعة .. فليكن ! الحكاية الثامنة ... الحب في شارعنا ( 1 ) ! الحكاية التاسعة... الحب في شارعنا ( 2 ) ! الحكاية العاشرة ... الرئيس !