تشعر الشركات العملاقة المستثمرة بالتكنولوجيا الرقمية في العالم، بأن الخناق يزداد ضيقا عليها، وأنها لم تعد تنعم بالتسامح الضريبي الذي كان، ولا يزال، يمكنها من مراكمة الأرباح المالية الطائلة بسبب قدرتها الفائقة علي التهرب الضريبي بتحايل ذكي، كان يتيح لها الإفلات من ملاحقات الأجهزة الضريبية في الدول والأقطار، لكن عهود التملص والتوطين في الملاذات الضريبية انتهت، وأضحت هذه الشركات العملاقة الأربع (غوغل، آبل، فيسبوك وأمازون) التي تسيطر علي عالم تكنولوجيا الاتصال في العالم، مجبرة علي الخضوع لما سمته أوساط ضريبية ومالية كثيرة ب»العدالة الضريبية». في الماضي القريب، سارعت سلطات سنغافورة إلي إعلان بداية مرحلة التمرد علي هذه الشركات، بأن قررت إخضاع أنشطتها الممارسة فوق الأراضي السنغافورية، إلي الضريبة المفروضة علي باقي أوجه ومجالات الأنشطة الاقتصادية، وقبلها كانت حكومة الصين قد سحبت البساط من تحت أقدام هذه الشركات، حيث لم تلجأ إلي التضريب، بل أنشأت شبكة تواصل صينية تشتغل علي سوق استهلاكي قوامه أكثر من مليار وأربعة ملايين شخص. ودخلت دول الاتحاد الأوروبي علي خط هذه القضية الساخنة، بأن اهتمت أجهزته بمناقشة فرض ضريبة أوروبية علي هذه الشركات، بعدما أدت معدلات الضرائب المنخفضة، التي تدفعها شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة في الدول الأوروبية، إلي الغضب الشديد في العديد من الأقطار، ولدي العديد من الأوساط الاقتصادية، التي كانت ولاتزال تندد بما تعتبره امتيازات جبائية تستفيد منها هذه الشركات الأمريكية. وبما أن اهتمام الاتحاد الأوروبي بهذه القضية لم يثمر أية نتائج ملموسة الي الآن، بسبب صعوبة اتخاذ القرار في مثل هذه القضايا بهذا الاتحاد، حيث يخضع القرار للإجماع، إذ يتوجب علي كل دولة أوروبية، عضو في الاتحاد التصويت لفائدة القرار، في حين أن بعض الدول الأوروبية المستفيدة من الوضع الراهن مثل إيرلاندا، التي تستضيف مقرات مجمل الشركات المعنية بالتضريب الجديد، وباقي دول الشمال الأوروبي، لا توافق علي هذا التضريب، كما أن الحكومة الفرنسية لم تعد تستحمل هذا التردد في تصحيح الوضع، وانفردت من دون باقي جميع الدول الأوروبية باتخاذ قرار يقضي بإخضاع أنشطة هذه الشركات العملاقة للضريبة المحلية، وتتوقع السلطات الفرنسية المختصة تحصيل ما قيمته 500 مليون أورو في نهاية السنة الحالية من هذه الضريبة الجديدة. ورغم أن دولا أوروبية ذات اقتصادات كبري، من قبيل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، كانت قد اقترحت علي الحكومة الفرنسية اتخاذ قرار مشترك في نفس الاتجاه، يقضي بفرض ضريبة علي هذه الشركات سُميت ب» ضريبة التكافؤ» إلا أن تأخر الحسم في الأمر دفع الحكومة الفرنسية إلي إعلان قرارها، الذي دخل حيّز التنفيذ بداية السنة الجارية. تشديد الخناق علي هذه الشركات الأمريكية العملاقة لم يتوقف عند هذا الحد، ولم يقتصر علي هذه الإجراءات والتدابير، التي تبقي محدودة الأثر في مجملها، بل تعدي الوضع ذلك بكثير، حينما انتقلت القضية إلي مستوي دولي منظم، بأن طرحت ضمن أولويات اهتمامات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ( O»DE ) حيث اقترحت في نهاية الشهر الماضي اتفاقا جديدا في نفس الموضوع، وافقت عليه مبدئيا 127 دولة، وكان مثيرا وجود الولاياتالمتحدةالأمريكية ضمن الدول الموافقة علي هذا الاتفاق الذي سيوجه ضربة مؤلمة جدا لكبريات الشركات العاملة في المجال التكنولوجي والرقمي، والتي هي جميعها أمريكية الجنسية. وتتجلي القيمة الكبري لهذا الاتفاق، في أن 127 دولة الموافقة عليه مبدئيا تقدر ب90 بالمائة من مجموع الاقتصاد العالمي. وقيل بلغة دبلوماسية لطيفة إن الاتفاق الجديد »سيحذف العيوب والمناطق السوداء في النظام الضريبي»، في حين أن المسئولين عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يقولون إن الهدف من الاتفاق الجديد، يكمن في تحقيق عدالة ضريبية بين جميع الشركات في الدول التي تُمارس فيها شركات التكنولوجيا أنشطتها الاقتصادية، وتحقق أرباحا، لكنها، إما لاتدفع الضرائب أو تسدد مبالغ ضئيلة. ويُرتقب أن يعرض هذا الاتفاق الجديد علي قمة العشرين - G 20 - التي تضم 19 دولة غنية في العالم، إضافة إلي الاتحاد الأوروبي للمصادقة عليه، ودخوله حيّز التنفيذ بداية من سنة 2020. وبذلك يرتقب أن تنتهي مرحلة السماح الضريبي للشركات الأمريكية، التي تفننت طوال السنين الماضية في استنزاف حاجيات الأفراد والجماعات فيما يتعلق بالعالم الرقمي. والحقيقة أن 127 دولة، التي قررت وضع حد لمرحلة إفلات هذه الشركات من الضرائب، لا تهمها ما ادعته »عدالة ضريبية»، بل إن هدفها الحقيقي هو تحصيل مئات الملايين من الدولارات كل سنة، كانت تلك الشركات تنجح في الإفلات من تسديدها لمستحقيها من الدول، وتهربها إلي اوعية ضريبية موجودة في دول معينة، والأكيد أن النفوذ السياسي للولايات المتحدةالأمريكية، كان يمثل حماية لهذه الشركات، لكن حينما قررت الإدارة الأمريكية الجديدة المواجهة مع الحلفاء في نزاع اقتصادي، ضعف وتراجع هذا النفوذ، ووجدت الشركات الأمريكية العملاقة نفسها في مواجهة تحديات أخري، ترتبت عن السياسة الاقتصادية الأمريكية الجديدة في العالم. • نقيب الصحفيين المغاربة