إنشاء 50 مدرسة.. استعدادات تعليم الشرقية لاستقبال العام الدراسي الجديد    صور | طلاب الأزهر ب"الجلباب والعمامة الحمراء" في أول يوم دراسة بقنا    تعرف على قيمة المصروفات الدراسية للمدارس الحكومية للعام الدراسي 2026    5 محظورات للطلاب مع انطلاق العام الدراسي الجديد    وكيل «تعليم الفيوم» يوجه برفع تقارير يومية عن سير الدراسة بمدارس المحافظة    سعر الذهب اليوم السبت 20 سبتمبر محليًا وعالميًا.. وتوقعات المعدن الأصفر 2026    طن الشعير الآن.. سعر الأرز اليوم السبت 20 سبتمبر 2025 في الأسواق    انطلاق المرحلة الثانية من مبادرة "سائق واعٍ .. لطريق آمن"    جوتيريش: على العالم ألا «يخشى» الرد الإسرائيلي على الاعتراف بدولة فلسطينية    ترامب يعلن عن استهداف جديد لقارب مخدرات في منطقة القيادة الجنوبية الأمريكية    برلماني: فيتو واشنطن دعم علني للجرائم الإسرائيلية    الرئيس السوري: اتفاق مع إسرائيل بوساطة أمريكية قد يوقع خلال أيام    موعد مباراة بيراميدز ضد الأهلي السعودي في كأس إنتركونتيننتال 2025    محمد صلاح أساسيا.. تشكيل ليفربول أمام إيفرتون في البريميرليج    وزير الرياضة يوافق على مشاركات دولية واستضافات عالمية لعدد من المنتخبات    الخطيب يؤدي مناسك العمرة بعد نجاح عمومية الأهلي    تقارير: ريال مدريد يفكر في بيع فينيسيوس جونيور    «مجانين المدرج».. ميدو يتغزل في جمهور الأهلي السعودي بعد مباراة الهلال    حملات موسعة للكشف عن تعاطي المخدرات بين سائقي الحافلات المدرسية مع بداية العام الدراسي    تجديد حبس المتهمين في واقعة سرقة «إسورة أثرية» من المتحف المصري بالتحرير    لعدم ارتداء الخوذة.. تحرير 1895 مخالفة لقائدي دراجات نارية بالقاهرة والمحافظات خلال 24 ساعة    الجمعية الفلكية تكشف تفاصيل كسوف الشمس 2025 غدًا وأماكن رؤيته في هذه المناطق    مهرجان الغردقة ينظم يوما للسينما الروسية.. و«الأميرة الضفدع» فيلم الافتتاح    كارول سماحة تكشف كواليس الساعات الأخيرة في حياة وليد مصطفى    أحمد السقا يكشف خضوعه لعملية جراحية بالحنجرة    قد يصلك معلومات مغلوطة.. حظك اليوم برج الدلو 20 سبتمبر    مع تغير الفصول.. أفضل 5 عصائر طبيعية ترفع مناعتك وتحميك من العدوى    بعد 14 عامًا من المعاناة.. فريق طبي بمستشفى التحرير في الجيزة ينقذ ساق شاب من البتر    الصحة العالمية: مصر نجحت في توفير خدمات آمنة تحافظ على كرامة المرضى    الأميبا آكلة الدماغ تهدد ولاية كيرالا    ضبط 108.1 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    14 طن دقيق في قبضة شرطة التموين خلال حملات على المخابز    آداب دمياط في الصدارة.. تنسيق شهادة البحرين أدبي 2025    روسيا تقصف أوكرانيا بالصواريخ والطائرات المسيرة ومقتل 3 أشخاص    بالحلوى والبالونات.. استقبال مميز لطلاب ابتدائي في كفر الشيخ (صور)    موعد صلاة الظهر.. ودعاء عند ختم الصلاة    طب الإسكندرية يتصدر نتيجة تنسيق الشهادة اليونانية 2025    الخارجية الفلسطينية ترحب بانضمام البرازيل لدعوى محكمة العدل الدولية    80 جنيها لكيلو البلطي.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور    مي كمال بعد انفصالها عن أحمد مكي: "عمري ما هسامح اللي كان سبب في خسارتنا لبعض"    سؤال برلماني عن استعداد الحكومة لاستقبال الضيوف في افتتاح المتحف المصري الكبير    آسر ياسين على بعد يوم واحد من إنهاء تصوير "إن غاب القط"    كيف تحمي نفسك من النصب في رحلات الحج والعمرة؟ 3 نصائح فعّالة    هجوم سيبراني يشل مطارات أوروبا وتأخيرات تطال آلاف المسافرين    قرار عاجل من محكمة المعارضات بحق المتهمين بسرقة الإسوارة الملكية    بتكلفة 475.8 مليون جنيه.. رئيس الوزراء يفتتح محطة ومأخذ المياه بالقنطرة غرب الصناعية بتكلفة 475.8 مليون جنيه    مهرجان الغردقة لسينما الشباب ينظم يوما للسينما الروسية    «الصحة» تطلق خطة التأمين الطبي الشاملة لتعزيز جودة حياة الطلاب في العام الدراسي 2025/2026    اليابان: لا نعتزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الوقت الراهن    ارتفاع أسعار الأدوات المدرسية في المنيا لعام 2025 (تعرف علي الأسعار)    أسعار الحديد في السوق اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الدوري الإنجليزي.. موعد مباراة ليفربول وإيفرتون والقناة الناقلة بديربي الميرسيسايد    بلال: شريف بعيد عن مستواه.. ولمصلحة من يجلس جراديشار بديلًا؟    كيف يقضي المسلم ما فاته من الصلاة؟.. أمين الفتوى يوضح خطوات التوبة وأداء الصلوات الفائتة    دعاء كسوف الشمس اليوم مكتوب كامل    ترامب: الرئيس الصيني وافق على صفقة «تيك توك».. ولقاء مرتقب في كوريا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 20-9-2025 في محافظة قنا    استشارية اجتماعية: الرجل بفطرته الفسيولوجية يميل إلى التعدد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترميم ذاكرة ساحر صندوق الحكايا
نشر في أخبار السيارات يوم 16 - 02 - 2019

استيقظتْ فزعة علي دويّ صوت مروّع. فركت عينيها بيدين مرتعشتين..تنبهت بنظرة غائبة لسقف الغرفة وهو يتداعي، لأربعة جدران تستقطبها دائرة مغناطيسية هي مركزها.. واتسقت أكثر مع الغربة الموحشة وهي تفتح جناحيها السوداوين محلقةً فوقها.
تحركت قليلًا لتشعل لمبة الأباجورة القريبة منها.. فجأة اتسعت حدقتاها.. نزلت من فوق السرير كطفلة مذعورة. لم تسعفها قدماها الوقوف طويلا، فجلست علي الأرضية الرطبة..تنفست بصعوبة، لكنها حاولت المضي قدمًا في البحث عنه في الشقة.
دلفت إلي الحمام، »ربما قد نسي نفسه في التواليت«(تمتمت). دفعتْ الباب برفق فكان فارغًا.. شيزلونج ساعة القيلولة في البلكونة مازال علي حالته بغبار السنوات، منفضة السجائر مكتظة كفوهة جحيم.. زاد قلقها حين لم تجده عند الركن الخالي بين أرفف المكتبة الذي كان يسند إليها ظهره وبين قدميه الكتب كأطفال يناجيها.. ويتطلع إلي شخوصه المنحوتة في صفحاتها بمشاعره الفياضة، بجنونه وهو يقف عاريًا أمام النافذة في البرد، وحين كانت تسأله بلطف الابتعاد عنها حتي لا يمرض، فكان يخمش جلده بأظفاره صارخًا في وجهها بلا مبرر: “إذهبي بعيدًا عني».
فكرتْ في الاتصال بأصدقاء قدامي قد ترك أرقام هواتفهم مدونة في ورقة خارجة عن طيّ النسيان- وجدتها بالصدفة في وعاء خزف لم يصبه دور السرقة بعد!- ربما قد تذكر أحدهم فجأة فاتصل به ليصطحبه إلي مكان ما افتقد زيارته، أو ليشعره ببعض الضجيج الغائب عن ذاكرته.
كل الأسئلة التي ستطرحها عليهم تقفز إلي مخيلتها، لكنها في الأخير وضعتْ السماعة علي خيبة أمل صوت الآلة البغيض يخبرها برفع الخدمة عن الهاتف. فتحاملت علي آلام ساقيها، واندفعت للنزول متاهة المدينة لالتقاطه!
في الشارع الذي ابتلع صخب مريديه في جوفه البارد، كانت غيوم السماء تنذر بسقوط الأمطار.. بعض المحلات في الجهة المقابلة تجاوب أصحابها مع تغير الطقس المحتمل فأغلقوا أبوابها.. في محل الحلاقة أسفل العمارة، سألت صاحبه، فأشار صبيه أنه ربما لمحه يسير متجهًا إلي الشارع العام..
- ولمَ لم توقفه؟ بتوبيخ سألته
- كنتُ مشغولاً بتنظيف المحل! ببلاهة مدهشة نطق
تركته ودلفتْ إلي محل بقالة لجلب علبة عصير قبلما يُسقطها الإعياء أرضًا، شربته مرة واحدة، وحين أحست بتوازن خطواتها بعض الشيء، تابعت الرحلة....
كانت تقضي كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة في متابعته كما لو تسهر علي طفل رضيع تلقمه ثدييها. فترة مرضه الطويلة أفقدتها شهيتها.. تُعد طعامًا ثم تتركه، حتي أنها كادت تهمل نظافتها، وتنسي مواعيد أدويتها. فيما كان الجلوس وسط كتبه المبعثرة يهوّن عليها بعض الشيء، تفعمها قراءة قصصه بحيوية مفتقدة.. روح المحبة في رسائله لأصدقائه، في مكاتباته التوجيهية لكتّاب حديثي العهد بحرفة الأدب، حتي رسالة التعزية الخاصة بأمه التي شُيعتْ لمثواها الأخير قبل أن تراه، والتي وضع نسخة منها قرب جثمانها وجدت فيها عبق الافتقاد. وكان طنين الموسيقي المنبعثة من مسجل قديم -لا زالت تحتفظ به وأشرطة الترانيم المفضلة في درج خاص- يعيدها إلي مربع كينونة امرأة تحيا رغم كل شيء.
كانت في كل مرة تسترجع فيها ذكريات الماضي تفقد شعورها بالزمن. من وقفتها أمام ابتسامته الصافية، نظرته الساحرة، وتلك الذراع القوية وهي تضغطها، في صورة معلقة بمشبك علي رفّ فارغ تتأملها بشوق عارم لأيام جميلة لن تعود. إلي يأسها من الاتصال مرارًا بالمحرر الأدبي بإحدي دور النشر.. وكان قد أخذ منها أوراقًا مخطوطة لمذكرات لم يبق منها غير فصل صغير، ومقدمة لببلوغرافيا لأدباء مشهورين في الصين ذاك الجانب الأدبي المعتم في التغطية النقدية، بالإضافة لمخطوطات روايات لم تطبع.. حتي يتسني لها استلام آخر دفعة من قيمة عقد النشر. هي لم تهتم أبدًا بمعرفة كم مليم اكتسبه من الكتابة أو أين أنفقه، لكن مع عزلة أُجبرتْ عليها جاء وقت التفتيش في الدفاتر القديمة.
ظلت ماضية في طريقها لا تفتر عزيمتها، حتي لو أمضت ليلتها تبحث عنه في طقس مشحون ببرودة تنخر عظامها. هي متعلقة بخيط الأمل الرفيع، وقد كان حيث وجدته بعد شارعين يجلس علي الرصيف في وضع القرفصاء، تظلله هالة الكشاف الضوئية.. رأته ممسكًا بسيجارة يعصرها بشفتيه وينفخ دخانها بغلّ.. مُستندًا لعمود كهرباء مكشوفة أسلاكه، فجفلت وتقدمت منه، كما لو تقترب من جحيم يبتلع جثة هامدة.. طوحت السيجارة من فمه، فغمغم مشيرًا لرجل يجلس جواره يمط شفتيه بابتسامة بلهاء:
«هذا.. المعتوه.. الصغير.. صديقي. يدخن.. الحشيش!»
وأخذ يضحك حتي أسقط فكي أسنانه.
جمعتهما، ثم رفعته في محاولة لتجعله يقف علي عكازه.
- أخبرتُك ألا تنزل الشارع بمفردك! عاتبته كطفل مهمل
تأفف، مغاضبًا:
- اتركيني ... أعبد إلهي...كما أري..!
تأبطته بصعوبة، فيما كانت كل خطوتين تقف للحظات تلتقط أنفاسها، وتهدئ من ألم قدميها المروع.
في البيت ساعدها في الصعود به للدور الثالث جارهما المحامي.. تطوعت زوجته الشابة بإزاحة الستارة وفتح النافذة قليلا ليتجدد الهواء. رفعت بعض الكتب بعيدًا عن الأرض.. وانتظراها حتي لحقتْ بهما، وكانا قد وضعاه برفق شديد علي السرير. بمودة شكرتهما علي تعاونهما، وربما قد تجد وقتًا ترد لهما الخدمة. تصنّعا ابتسامة متواضعة، وما انفكا يُلحّان عليها الاتصال بهما حال تعرضها لموقف مشابه. وعند الباب الذي ودّعتهما عنده، لمحت الزوجة الشابة تضع ظرفًا صغيرًا تحت قاعدة الساعة الخشبية العتيقة.
عادت إلي غرفة النوم وقد اطمأن قلبها بعودته، فكرت في صنع كوب شاي دافئ، لكنها حين وضعت نفسها في المقعد الهزّاز ارتخت كدِبة منهكة. وبينما كانت تتأرجح بالمقعد تذكرت وجه رجل الرصيف. كان قبل عدة أيام، فوجئت به علي طاولة الكتابة وأمامه الأطباق يتناول منها الطعام كقرد مزقه الجوع، هلع حين رآها واختفي بلمح البصر. بعدها، في المرات النادرة التي قد تخرج فيها لتقضي حاجياتها الضرورية، وكانت تجد شيئًا مفقودًا حين ترجع.. يتأكد لها أنه اللص.
وكانت قبل أن تغفو قليلاً، انتبهت لصراخ مكتوم يطرق أذنيها. نظرت إليه بعينين كليلتين..إلي مشهد حقيقي من مأساة مسجاة علي فراش موت منتظر. بشغف وضعت أذنها علي صدره فشعرت بذبذبة طفيفة تتردد في محيطه الضيق. مدت يدها تحت رقبته ورفعته قليلاً. كانت الملاءة ملتصقة بمؤخرته، سحبتها برفق، ثم وضعت المسندين خلفه. دقائق وقد قامت بتنظيفه كما يجب، ضمته إلي صدرها، مسحت علي رأسه، ربتت علي كتفه.. فركته في جسمها، بمثل ما كانت عليه في ليلة أولي، حين خرجا من حفل الزفاف إلي غرفة التزاوج بفندق صغير يطل علي بحر الإسكندرية العريق.
وفيما كانت تنظر بعمق في عينيه وتبكي بحزن جليل علي مدي واسع من الهلامية الكئيبة، تراقص ظل الضوء المتوهج من رأس العذراء المبجلة في المجسم الصغير، الموضوع بعناية فائقة علي ترابيزة الكتابة كحلم رائع لم يطفئه الزمن بعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.