في الوقت الذي أنزل فيه الفلسطينيون علمهم من فوق مبني بعثتهم المغلقة في واشنطن، لا يمكن لأحد أن يتكهن بموعد عودتهم إلي المدينة التي شهدت قبل ربع قرن انتصارا دبلوماسيا تم الاحتفال به في حديقة البيت الأبيض، حينما استضاف الرئيس الأمريكي، آنذاك، بيل كلينتون الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، في 13 سبتمبر 1993، للتوقيع علي أول اتفاقيات أوسلو، التي كان الهدف منها التوصل إلي اتفاق سلام دائم خلال خمسة أعوام يفضي إلي إقامة دولتين تعيشان جنبا إلي جنب. في العام التالي فاز عرفات ورابين ووزير الخارجية الإسرائيلي، في ذلك الوقت، شيمون بيريس بجائزة نوبل للسلام ولكن لم يكتب للرجال الثلاثة العيش ليروا أي سلام في عهدهم، وحتي لو كان الأجل طال بهم، فلا شيء تحقق. كثير من النخب الفلسطينية، ومنها الكاتب المعروف عبد الباري عطوان، تري أنه ما كان يجب علي قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله الانتظار حتي يقْدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علي إبلاغها بقراره إغلاق البعثة الفلسطينية في واشنطن الذي صَدَر اليوم، كان عليها اتِّخاذ القرار بنفسها قبل ستة أشهر، وبالتحديد عندما قررت الإدارة الأمريكية نقل سفارتها إلي القدسالمحتلة، والاعتراف بها كعاصمة أبدية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ولكنها تظل "سلطة رد فعل"، وليس"سلطة الفعل"، وهو ما يفسر التراجع الكبير في مكانة القضيّة الفِلسطينية عربيا ودوليا. ويري عطوان أن الرئيس ترامب، وبتحريضٍ من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، واللُّوبي اليهوديّ الداعم له في أمريكا، أعلن الحرب علي الشعب الفِلسطيني، واستخدم سلاح التجويع، وأوقف المساعدات المالية، في محاولة لإذلاله وتركيعه وفرض صفقة القرن عليه، وكان من المفترض أن يأتي الرد عليه من خلال إغلاق السفارة في واشنطن مبكرا، ووقف كل أشكال التنسيق الأمني مع إسرائيل، وسحب الاعتراف بها، وتحريك الشارع الفلسطيني في الأرض المحتلة وخارجها لتفجير انتفاضة غضب جديدة. أما الدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين فيري أن الذِّهاب إلي محكمة الجِنايات الدولية لمطاردة مجرمي الحرب الإسرائيليين، يجب أن يتم سواء اتخذ ترامب قراره بإغلاق سفارة فلسطين أو لم يتخذ، فمن العيب، بل من العار السكوت علي قيام الرئيس الأمريكي بوقف مساعداته لوكالة غوث اللاجئين »أونروا» لاجتثاث حق العودة، ويتصدي لمسيرات حق العودة بالرصاص الحي، ويقتل 160 من خيرة شبابها، ويصيب الآلاف. نقطة الانهيار والآن وبعد أن وصلت العلاقات بين الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب والفلسطينيين إلي نقطة الانهيار، فإن اتفاق أوسلو لا يبدو أكثر من حبر علي ورق، أو أثر من عهد مضي. وينظر الفلسطينيون إلي ترامب علي أنه حليف وثيق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بل إن بعضهم لا يري مبالغة في القول إن نتنياهو هو الحاكم الفعلي للبيت الأبيض. وبعد مرور 25 عاما أصبحت القضايا التي تم تأجيلها لقرار لاحق هي التي تهيمن حاليا علي المشهد مرة أخري. هذه القضايا تشمل وضع القدس التي يصفها كل جانب بأنها عاصمة له ومصير ملايين اللاجئين الفلسطينيين من الحروب التي تعود إلي عام 1948، والمستوطنات الإسرائيلية المقامة علي الأراضي المحتلة التي يريدها الفلسطينيون لإقامة دولتهم عليها والترتيبات الأمنية المقبولة من الجانبين وأخيرا قضية الحدود المتفق عليها. وقال السياسي الفلسطيني ووزير الإعلام الأسبق ياسر عبد ربه، إنه يعتقد أن اتفاقات أوسلو "ماتت". وكان عبد ربه ضمن الدائرة الصغيرة للسياسيين الفلسطينين الذين أطلعهم عرفات علي السر الخاص ببدء اجتماعات بين مفاوضين فلسطينيين وإسرائيليين في النرويج عام 1992. تويقر عبد ربه، البالغ من العمر 73 عاما، أكد أن الجانب الفلسطيني ارتكب أخطاء. والآن لم يعد هناك من يتحدث حتي عن عملية السلام سوي قلة قليلة. وفي الشهر الماضي تراجع التأييد لقرار الدولتين إلي 43 ٪ بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك في استطلاع واحد للرأي . وكانت هذه هي النسبة الأقل خلال عشرين عاما تقريبا في استطلاع مشترك للرأي للفلسطينيين والإسرائيليين. وقال عبد ربه لرويترز، إنه يجب وضع استراتيجية جديدة تتمثل في عدم التخلي عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعدم التخلي عن الحق في بناء دولة فلسطينية مستقلة ومحاولة إيجاد السبل والوسائل للوصول إلي ذلك الهدف بشكل مختلف عن الوسائل التي اعتاد الفلسطينيون استخدامها في السابق. غير أن يوسي بيلين أحد المفاوضين الإسرائيليين خلال محادثات أوسلو قال إن معالم الاتفاق النهائي معروفة. وقال بيلين (70 عاما) لرويترز: "لن يستغرق الأمر طويلا للتوصل لاتفاق بمجرد أن يكون الأشخاص المناسبون في مواقعهم". وأضاف "ترامب لم يغير اللعبة بل أفسدها.. لكنه لن يظل في مكانه للأبد. وأنا أعتقد أن الأمر يرجع في نهاية المطاف إلي الطرفين مثلما كان الحال في أوسلو. إذا أردنا نحن والفلسطينيون أن نصنع السلام فسنصنع السلام". تحديات مبكرة وبعد أن تصافح رابين وعرفات، وقد بدا عليهما الارتباك في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، تبددت الآمال المبكرة في إحلال السلام سريعا وتحولت اتفاقات أوسلو إلي ذكري يكاد يطويها النسيان. بعد الاتفاق بعامين، اغتيل رابين علي يد شاب يُدعي إيجال عامير وهو إسرائيلي قومي متطرف معارض لسياسات السلام، التي تعرضت بالفعل لاختبارات صعبة بسبب مذبحة قتل فيها 29 من المصلين الفلسطينيين علي يد مستوطن يهودي في مدينة الخليل بالضقة الغربية، إضافة إلي عمليات تفجير انتحارية نفذتها حركتا المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي وأسفرت عن مقتل 77 مدنيا وجنديا في إسرائيل وقطاع غزة المحتل. وعلي مر السنين، شابت عملية صنع السلام اتهامات من الجانبين بعدم الوفاء بالوعود ومزيد من هجمات النشطاء الفلسطينيين واستمرار التوسع الاستيطاني والقيود علي التحركات والاعتقالات والتوغلات العسكرية التي قامت بها إسرائيل. وبنهاية 2017 قالت الأممالمتحدة إن هناك 611 ألف إسرائيلي يعيشون في 250 مستوطنة بالضفة الغربيةوالقدسالشرقية اللتين احتلتهما إسرائيل في حرب عام 1967. وتعتبر معظم الدول هذه المستوطنات غير مشروعة لكن إسرائيل ترفض ذلك. وانهارت محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية في 2014. وتعهد ترامب بإبرام "صفقة القرن" لإنهاء الصراع المستمر منذ عقود. من جانبه قال نتنياهو إن أي دولة فلسطينية في المستقبل ينبغي أن تكون منزوعة السلاح وأن تعترف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي وهي شروط يقول الفلسطينيون إنها تظهر أنه ليس جادا في مساعي إحلال السلام. وثار غضب الفلسطينيين عندما اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر 2017، ثم نقل السفارة الأمريكية إلي هناك من تل أبيب في مايو من العام الجاري. ودفعت هاتان الخطوتان القيادة الفلسطينية لمقاطعة مساعي واشنطن للسلام بقيادة جاريد كوشنر، كبير مستشاري ترامب وصهره. وشملت التحركات الأخري التي اتخذتها إدارة ترامب حجب مساعدات بقيمة ملايين الدولارات عن وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ولمستشفيات في القدسالشرقية، وكذلك الأمر بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن الذي افتتح عام 1994 توفي قطاع غزة الذي تحكمه حماس منذ عام 2007 بعد عامين من انسحاب القوات الإسرائيلية والمستوطنين الإسرائيليين، قال أحد قادة الحركة وهو محمود الزهار إن اتفاق أوسلو لم يكن معاهدة للسلام لكنه كان "استسلاما بواقع 100٪" بالنسبة للفلسطينيين. وقالت لوسي بار-أون (60 عاما) وهي ممرضة إسرائيلية إن الفشل في المضي قدما علي مسار السلام المحدد بالاتفاقات المؤقتة لم يؤد إلا لتقوية شوكة المتطرفين. وأضافت "لقد فاز المتطرفون علي الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني".