»ولكن السرطان كان أقوي من ساكي ودفنت معها أوراق طائر الكركي» زيارة اليابان كانت فوق مستوي أحلامي، فإذا بي أزورها مرتين في عامين متعاقبين سبحان الله، مرة مرافقاً لمعرض »الحياة الأبدية» وهو معرض فريد يتضمن 79 قطعة أثرية مصرية، وقام باعداده الأثري الياباني عاشق مصر، ساكوجي يوشيمورا مدير معهد المصريات في جامعة واسيدا.. وهو معرض مهم طاف بمدن اليابان، فوكوكا وطوكيو وكيوتو وأوهتيا، وأوكاياما، ونجازاكي، وكان نصيبي زيارة محطة المعرض في نجازاكي في فبراير 2009 كما زرتها مرة ثانية عندما كانت مصر ضيف شرف معرض طوكيو للكتاب أيام العظيم الراحل د.ناصر الانصاري رئيس هيئة الكتاب المصرية الأسبق، ومدير معهد العالم العربي في باريس لعدة سنوات. »نجازاكي» اسم عالق بالذاكرة رنان له شهرة، محفوظ عن ظهر قلب.. يُنطَق مرة واحدة »هيروشيما ونجازاكي» حيث أول وآخر مرة استخدم فيها السلاح النووي الفتاك لإخضاع اليابان وكسر هامتها وإجبارها علي إلقاء السلاح والإستسلام في الحرب العالمية الثانية وهو ما حدث عندما خرج لأول مرة الأمبراطور هيروهيتو ليعلن استسلام اليابان غير المشروط. في يوميات سابقة كتبت ربما أكثر من مرة عن كوكب اليابان، اصطلاح ربما سبقني إليه كل من كتب له زيارة هذا البلد القصي وبقيت تفاصيل زيارتي لنجازاكي تحديداً محفور في عقلي ووجداني لأنها ببساطة تمثل زيارة إلي جهنم، والعياذ بالله، علي الأرض.. كيف؟ يوم 9 أغسطس الجاري مرت 73 عاماً علي ذلك اليوم المشئوم في تاريخ الانسانية.. يوم فتحت خلالها أحد أبواب جهنم لثوان معدودات فوق سماء نجازاكي، ومازالت آثارها إلي يومنا هذا. كنت هناك في 2009 قبيل الذكري ال 64 لالقاء القنبلة الذرية الثانية علي نجازاكي لقهر اليابان العصية.. كنت هناك في نفس المكان الذي ارتطمت فيه قنبلة »الرجل البدين» كما أسماها الأمريكان بالأرض وأحالت المدينة إلي قطعة من جهنم حيث وصلت درجة الحرارة إلي 4 آلاف درجة مئوية.. كانت كفيلة باقتلاع كل مظاهر الحياة في طريقها. مشاعر صعبة وصلت إلي هناك، اليابانيون حرصوا علي تخليد الأحداث وتوثيقها للأجيال القادمة، ولهم بالدرجة الأولي حيث تلتزم اليابان ربما أكثر من أية دولة أخري علي وجه الأرض بعدم امتلاك السلاح النووي أو تصنيعه أو دخوله إلي أراضيها.. الأمر يتلخص في المقولة التي تزين النصب التذكاري في هيروشيما التي سبقت كارثتها نجازاكي بثلاثة أيام.. »ارقدوا بسلام.. لن نعيد الخطأ مرة أخري». ساحة مفتوحة تأخذ شكل الدائرة الكبيرة نصف قطرها يتجاوز ال 300 متر حسب تقديري.. وتقسم إلي دوائر خضراء من النجيلة، ثم دوائر رخامية عبارة عن ممشي رخامي بالتبادل حتي منتصف الدائرة، حيث شاهد أشبه بالمسلات الفرعونية في نفس نقطة ارتطام القنبلة بالأرض الأمر يأخذ شكل الدوائر المتداخلة اذا ألقيت طوبة مثلا في مياه نهر. وفي أطراف هذه الحديقة الغناء المفتوحة توجد لوحات مصنوعة علي أعلي مستوي، توثق الأحداث.. متي سقطت القنبلة، وعدد من ماتوا فوراً، وعدد من أصيبوا، وعدد من ماتوا لاحقاً من آثار الإشعاع.. الخ. ماكان لي أن أفوت هذه الفرصة التاريخية، وفعلت مثل الآلاف من الزوار وقمت بالتقاط صور لي منفرداً وخلفي الشاهد الذي يؤرخ لمكان سقوط القنبلة النووية.. وبالصدفة البحتة وجدت مجموعة من النسوة اليابانيات يرتدين زي »الكيمونو» ويتجولن في المكان ويلتقطن أيضا صوراً لهن.. استخدمت لغة الاشارة ووافقن علي صورة تذكارية لي ولزملاء الرحلة معهن. شعور يصعب وصفه أن تقف في نفس النقطة التي سقطت فيها ثاني قنبلة نووية في تاريخ الإنسانية.. وأنت مدرك أنه هنا مات قرابة 40 إلي 75 ألف بني آدم زهقت أرواحهم فور وصول »الرجل البدين» إلي الأرض.. بل قبل أن تصل إلي الأرض ب 500 متر. في نفس هذه البقعة تولدت حرارة لم تعرفها الأرض من قبل بلغت 4 آلاف درجة مئوية حولت كل شيء إلي محرقة كبيرة.. وتناثرت الجثث المحترقة في كل مكان.. تخيل حرارة ناتجة عن انفجار 22 ألف طن من مادة »تي ان تي» شديدة الانفجار.. أدت إلي تدمير كامل لكل معالم الحياة في المدينة.. وحولت 6٫7 كليو متر إلي انقاض ومما زاد من قوة التدمير وقوع نجازاكي في واد ضيق بين الخيال. من مات استراح، ومن أصيب تعذب لفترة ومات من جراء الإصابة، ومن هول مارأي ومن تأثير الاشعاع النووي وبلغ عددهم 60 ألف إنسان في نجازاكي وحدها ولكن هناك من تعافي ونجا ويعيش إلي الآن. متحف المأساة بجوار ميدان السلام يوجد المتحف الذي يؤرخ للكارثة الإنسانية التي حلت بنجازاكي.. هنا كل شيء تم تأريخه.. حيث يستقبلك فيلم وثائقي يعرض لك أسباب دخول اليابان الحرب العالمية الثانية ومجريات الحرب إلي مرحلة إلقاء قنبلتي »الولد الصغير» و»الرجل البدين» علي هيروشيما ثم نجازاكي. صور للضحايا، للجثث المحترقة في كل مكان، وللناجين وللاشلاء المتناثرة.. أهم ما أعجبني هو أنهم نقلوا إلي المتحف بقايا سلالم، نعم سلالم ذابت من قوة النار.. وتوقفت كثيراً أمام ساعة تعطلت في لحظة سقوط القنبلة وتعطلت لتبقي شاهدة علي هذه الجريمة الانسانية واشارت عقاربها إلي الساعة الحادية عشرة ودقيقتين.. كما قاموا بعمل مجسم بنفس الحجم »للرجل البدين» مع شرح واف للمكونات، ولقلب القنبلة وآلية عملها.. كما تجد فوق رأسك أيضا مجسم للطائرة الأمريكية »بي29» التي طارت من قاعدة »تينيان» برفقة المجموعة 509 حاملة »الرجل البدين» لإلقائه فوق مدينة نجازاكي جنوبي اليابان،وقد استخدمت مظلة لتسيطر علي سقوط القنبلة وتنفجر قبل ارتطامها بالأرض بنحو 500 متر وتحقق أقوي تدمير ممكن في البشر والحجر، نتيجة الأشعة الحرارية والضوئية التي تولدت لحظة الانفجار، ونتيجة النيران التي اشتعلت في كل مكان، إضافة إلي الصدمات الميكانيكية، وموجة الضغط الهوائي الرهيبة التي نتجت عن الإنفجار. توثيق أمريكي في سبتمبر 1945 نجح صحفي أمريكي يدعي جورج ويلز في كسر الطوق الأمني الذي فرضته قوات الاحتلال الأمريكي حول نجازاكي ودخل المدينة ووثق تفاصيل الكارثة الإنسانية والأهم أنه وثق شهادات الذين شهدوا الكارثة الفريدة في حياة الجنس البشري، وكتب لهم أن يعيشوا، لينقل لنا هؤلاء، بشاعة مارأوا حتي لاتنزلق الإنسانية لتكراره مرة أخري.. هؤلاء الناجون يسمون بال »هيباكوشا» وهم الاشخاص الذين تضرروا من القنبلة النووية، ولكنهم بقوا علي قيد الحياة، وهؤلاء بلغ عددهم 235٫5 ألف »هيباكوشا» حسب احصاء 2009 منهم 149٫2 الف تم تسجيل اسماءهم علي النصب التذكاري في نجازاكي. »ساداكو ساساكي» طفلة يابانية كان عمرها عامين لحظة القاء قنبلة هيروشيما، وكتبت لها الحياة لتصبح أشهر ال »هيباكوشا» ولكنها عندما بدأت تكبر وبلغ عمرها عشر سنوات اكتشف أنها أصيبت بالسرطان جراء الاشعاعات التي خلفتها القنبلة، ولسنوات عشر فرضت أمريكا حصاراً حديدياً منعت من خلاله ذكر أي شيء يتعلق بهذه الكارثة. ودخلت ساكي المستشفي للعلاج، ومن زميلها سمعت لأول مرة عن اسطورة يابانية تقول أن من يطوي ألف طير »كركي» ورقي ستحق أمنيته، واليابانيون مولعون بفن الورق، والكركي طائر خرافي وبدأت ساكي العلاج، ومعها رحلة طي أوراق طائر »الكركي» حتي تحقق أمنيتها في الشفاء من السرطان، وتفاعل معها زملاؤها في المدارس اليابانية كلها، ولكن السرطان كان أقوي وماتت ساكي ودفنت معها أوراق طائر »الكركي» الألف التي ساهم زملاؤها في طيها، لتتحول إلي ايقونة ضد استخدام النووي من جديد كما أصبحت طيور الكركي الورقية رمزاً لما حدث يومي 6و9 اغسطس عام 1945.