ناصر والقصيدة لحظات مؤلمة وقاسية ودموع حاولت جاهدا منعها أو إخفاءها فباءت محاولاتي بالفشل في الطريق إلي نجع حمادي برفقة الصديق الشاعر علاء رسلان للعزاء في صديقنا الغالي الشاعر الراحل عبد الناصر علام الذي اختطفه الموت من بيننا وهو لم يزل في عامه الثاني بعد الخمسين. كنت ومنذ مساء الخميس 12 -4-2018م لم استوعب خبر رحيله رغم علمي بمدي خطورة مرضه لأنني لم اتخيل أنني سأفجع فيه يوما، ما بل إنني كنت أتمني أن ينعيني هو لأنني أعرف قوة إرادة عبد الناصرعلام أو ناصر كما كنت أناديه. عندما خطوت بقدمي سرادق العزاء كان في مقدمة السرادق صديقه المقرب القاص محمد شمروخ، لم أتمالك نفسي وحينما قام بتهدئتي وتنبيهي لوجود الصديق القاص حسن عبد الموجود الذي تصادف وجوده في الصعيد ليودع صاحبه والذي لم أقابله منذ فترة، وفي أحضان حسن كان انهياري ولم أشعر بعدها بشيء إلا وأنا اتشبث به وكأنني أخشي أن يفارقني كما فارقنا ناصر. لم تكن حالة حسن أو شمروخ أو علاء أفضل مني بل أسوأ فعبد الناصر علام حالة إنسانية وشعرية فريدة، وموهبة فطرية حباه بها الله فكانت مع قلبه الصافي وسريرته النقيه ودماثة خلقه هي الوزنات التي استثمرها وربح بها كل من قابله وتعامل معه، وأنا واحد من هؤلاء الذين كان من حسن حظهم أن يتعرفوا علي ناصر منذ منتصف الثمانينيات وتوطدت العلاقة بيننا مع بداية التسعينيات فقد كنت مع الصديقين القاص والكاتب الصحفي إسحاق روحي والشاعر علاء رسلان نذهب أسبوعيا لنجع حمادي التي تبعد عن فرشوط 8 كليومترات لنجتمع في نادي الشبان المسلمين، أو منزل الحاج مصطفي مروان رحمه الله رئيس جماعة آمون الأدبية، أو لنحضر ندوات وأمسيات جماعة النيل الأدبية بقصر الثقافة مع عمنا الشاعر عبد الستار سليم والشاعر عزت الطيري. كانت هذه الفترة من أزهي فترات الازدهار الثقافي والأدبي بنجع حمادي من وجهة نظري فهناك كان محمود الأزهري، وعوض الله الصعيدي، وعبد الهادي النجمي، والراحلون علي الروبي وأحمد جاد مصطفي، وأحمد جامع وعلي جامع، وعبد الجواد خفاجي، ومحمد عبد الحميد توفيق، وغيرهم، وجميعهم من نجع حمادي وأبي تشت وفرشوط. لم يكن يمنعنا من المواظبة علي الحضور لا ماديات ولا صعوبة مواصلات، كانت الندوات والأمسيات الشعرية والإبداع جل همنا، وكان عبد الناصر علام فاكهة هذه الجلسات والتي كنا نستكملها علي كازينو عبد اللاه علي النيل في ضيافة ناصر الذي كان زبونا يوميا هناك، بل هو قبلة كل من يريد مقابلة ناصر الذي لم يتخلف يوما عن الجلوس في حضرة النيل برفقة أصدقائه وشيشته، ثم كانت مقابلاتنا في المؤتمرات خارج نجع حمادي والتي كان يتألق فيها ناصر بطريقة إلقائه لشعره الذي برع فيه بروحه المرحة وخفة ظله وقوة ذاكرته الفولاذية، حيث كان يلقي أشعاره وهي طويلة دون أن يمسك ورقة أو قلما، كان يكتبها بروحه وبكل نبضة من نبضات قلبه الذي كان يسع الجميع لذا كانت روحه التي تلقي الأشعار التي تخرج من قلبه لقلوب جمهوره الذي عشقه وتعلق به وبشعره الذي كان لسان حال العاشقين والبسطاء والمهمشين والمكلومين والمجروحين. كان ناصر مثله مثل شعراء العامية يتحدث بلسان رجل الشارع معبرا عن مشاكله ومعاناته ضد الجهل والفقر والمرض والظلم والفساد ولكن مشروعه الشعري لم يكن يشبه الآخرين فله أسلوبه الذي ميزه عن غيره، كان عبد الناصر نجما من نجوم الشعر يضاهي نجوم الفن والأغاني صار له جمهوره ومحبوه الذين كانوا يتفاعلون معه بل ويطلب البعض منه القصيدة التي يحبها، وكنت أطلب مع بعض محبيه قصيدة »ديك محشي فريك» أو قصائد »بهاليل النظام» »انصراف يا كباتن» »ولاد العبيطة» أو قصيدة »العملية في النملية» التي يقول فيها: »عم سعيد.. يا عم سعيد.. قلبي في غربة وعيدي بعيد.. شوك في ايديا وخوف حواليا.. والكفين لابسين ف حديد.. العملية في النملية.. والعما فيكم مش ف عينيا». لم أصدق بأنني في سرادق عزاء عبدالناصر الثوري الجريء الذي لم يكن يخشي في الحق لومة لائم، ولم يخش إلا الله عز وجل، ففي عام 2009م كانت الفتن الطائفية علي أشدها في العديد من المحافظات وحدثت فتنة كبري في فرشوط، وفي يناير 2010م حدثت مذبحة نجع حمادي ولم أكن أدري ماذا أفعل وما هو دور المبدعين والمثقفين؟ وكنت أشرف علي صفحة أدب بإحدي الصحف الخاصة ففكرت في عمل حوارات أدبية مع مبدعين وطنيين ونخب حقيقية، وكان ناصر أحد الذين طلبت منهم المشاركة فلبي علي الفور وتحدث عن بدايته وعن دور المثقفين ودور الإبداع، وكان هذا الحوار مع بعض الحوارات الأخري دافعا لأن أنشرها في كتاب فيما بعد لأنها كانت توثق لفترة تاريخية مهمة في نهاية نظام الرئيس السابق مبارك، كما أنها كانت تؤكد علي جرأة المبدعين ورؤيتهم لما يحدث من فساد وعن ترهل النظام وانتشار الفساد وتخاذل مؤسساتنا الثقافية. لم استوعب رحيله فلا يزال صوته يرن في أذني: »ما ينفعش يا عمي نبيل» ففي مساء 15 فبراير 2018م فوجئت به في شقتي مع الصديق محمد شمروخ جاء ليعزي الصديق إسحاق روحي بمناسبة ذكري الأربعين لوفاة والده رحمه الله وحينما قلت له: احنا عارفين ظروفك يا صاحبي. قال بلهجته الصعيدية المحببة وبابتسامته وخفة ظله: ما ينفعش هي عشرة يوم. عبد الناصر ابن الجنوب الشهم الكريم يعرف جيدا أصول وعادات وتقاليد الصعيد ويحرص علي أن يقوم بواجباته الاجتماعية مهما كانت حالته الصحية صعبة وحرجة بل أنني كدت أقبل يده حتي يسمح لنا بأن يصحبه شقيق اسحاق بسيارته لنجع حمادي أو حتي لموقف السيارات رفض وقال: »دا واجب وأنا كويس.. صدقني» جاء ليودعني وها أنا في نجع حمادي وفي شارع التحرير الذي يسكن فيه أتنفس رحيق أيام جميلة مضت، واسترجع صدي ضحكات صاحبي الذي تركني ورحل في زمن ما أحوجنا فيه إلي مثله. سلام لروحك يا ناصر، وهنيئا لك ما أنت فيه الآن من نعيم.. فهناك يا صديقي لا تعب ولا مرض ولا حقد ولا كراهية ولا خسة ولا مؤامرات ولا إهمال لمسئولين يجلسون علي كراسي هي أجدي وأنفع منهم، هناك فاحص القلوب لمثل هذه الأرواح المبدعة، وهناك محبة حقيقية وصداقة منزهة عن الأغراض مثل التي كانت بيننا. إلي اللقاء يا صاحبي وإلي أن ألقاك سأسمع قصائدك كل يوم وسأعيد قراءة »انزفني - دلوقتي اقدر - روحك تنط لتحت - دق القلب - لسه ها تتحمل هزايم - عيال أخري - وسلسلة ضهري» وإلي أن ألقاك بلغ سلامي لأرواح أحبابنا محمود مغربي وصفوت البططي ومأمون الحجاجي وأحمد جاد مصطفي ولكل أرواح المبدعين العاشقين لأوطانهم وللإنسانية.