راهب أفنى عمره في محراب الإبداع، ومضى ينقب بعدسة "جواهرجي" على المواهب المهمشة، مد يده لجيل كامل من المبدعين، قدمهم ودعمهم ورعى بذور مواهبهم إلى أن أثمرت. هكذا تحول مكتب "عبدالفتاح الجمل" في جريدة المساء، إلى قِبلةٍ يقصدها الأدباء، ومن الملحق الثقافى الذي كان يصدره قدم لنا عظماء جيل الستينيات بهاء طاهر، إبراهيم أصلان، عبدالرحمن الأبنودي، سعيد الكفراوى وغيرهم. وبمناسبة مرور عشرين عامًا على رحيل الأديب المعطاء عبدالفتاح الجمل، أقام المقهى الثقافى، أمس الأربعاء، احتفالية شارك فيها كوكبة من أصدقاء الراحل: الشاعر زين العابدين فؤاد والشاعر فتحى فرغلى والقاص سعيد الكفراوي، وإدارة الشاعر شعبان يوسف. في مستهل الاحتفالية قال الشاعر شعبان يوسف، إننا اليوم بصدد الاحتفاء بذكرى عطرة لراهبٍ أفنى عمره في محراب الإبداع، إخلاصه لدوره في الحياة الثقافية جعله يكرس حياته لاكتشاف المواهب الأدبية الناشئة ويتيح الطريق لها لترى النور. وتابع، "كان إشرافه على الملحق الثقافى الذي يصدرعن جريدة المساء أشبه بملحمة تهز الساحة الأدبية بأفواج المبدعين الجدد الذين قدمهم عبدالفتاح الجمل، عنه نتحدث الليلة في الذكرى العشرين لوفاته، مبدعًا وإنسانًا عظيمًا ترك في قلوبنا أثرًا لا يمحه رحيل أو وداع". وأضاف شعبان: "أعتقد أن كل كاتب من جيل الستينات يحمل في قلبه مساحة بيضاء للعظيم عبدالفتاح الجمل الذي اهتم بتقديم هؤلاء المبدعين أكثر من اهتمامه بمشروعه الأدبى الخاص في مشهد عجيب لإنكار الذات". وعلى الرغم من قلة الأعمال الأدبية التي قدمها، إلا أن ما كتبه يتمتع بقدر كبير من الأهمية، فكتاباته متفردة في لغتها، وتعد روايته «محب» إحدى أهم ما كُتب عن القرية والريف المصري. وأحدثت هذه الرواية ضجة في الأوساط الثقافية عند طباعتها أول مرة وهى سيرة قرية بدمياط اسمها "محب" ولد وعاش بها الجمل. ومن أهم أعماله الأخرى رواية الخوف، حكايات شعبية من مصر، كتاب الرحلات، آمون وطواحين الصمت وكتاب وقائع عام الفيل. المؤسف كما يرى "شعبان"، أن "الجمل" رغم عظيم ماقدم للحركة الأدبية والثقافية لايكاد يعرفه أحد من الأجيال اللاحقة، فإن كانت أعماله المنشورة قليلة إلا أنه كان غزير الكتابة أبدع في فن المقال الذي كتبه بشكل شبه يومى في جريدة المساء، حيث بدأ فيها من سنة 1958 ولم يحاول أحد جمع ماكتب عبدالفتاح الجمل من نصوص ومقالات أدبية ونقدية إلا محمد كامل القليوبى الذي كون من كتابات الراحل عدة مجلدات وأعطاها لسمير سرحان كى ينشرها، ولكن للأسف أسرته لم توافق على النشر، حيث يرى شقيقه السلفى أن كتاباته بها كفر وإلحاد. أما الشاعر زين العابدين فؤاد، فيصحبنا في رحلة ذكرياته مع الراحل عبدالفتاح الجمل، وفى شهادة حميمة يخبرنا أنه تعرف عليه عام 1958، عندما ذهبت لزيارته مع صديقى الناقد فوزى سليمان وكلانا نسى هذا اللقاء العابر وبعد ثلاث سنوات أجريت حديثًا صحفيًا معه، إلا أن التحول الحقيقى في علاقتنا بدأ داخل مكتبه في جريدة المساء الذي تحول فيما بعد إلى قِبلة للمبدعين المغمورين الذين يبحثون عن بصيص أمل يوارب لهم باب الولوج إلى الساحة الأدبية، وكانت جريدة المساء توزع آنذاك أكثر من توزيع الأهرام، الكل يتلهف إلى الملحق الأدبى العظيم الذي كان يقدمه الراحل. وتابع: أذكر هذا الصباح بدقة حين ذهبت بشكل خجول إليه ووضعت قصيدة على مكتبه دون أن أتحدث أومأ إلى فمشيت، كان ذلك يوم الاثنين وفوجئت يوم الأربعاء بالقصيدة منشورة بطول الصفحة كلها، أذهلنى ذلك الرجل وقلت لعلها نشرت بطريق الخطأ، أعدت الكرة وذهبت له مرة أخرى وفوجئت أيضًا بأنه نشر قصيدتي، وفى المرة الثالثة قبض على يدى قبل أن تفلت القصيدة على مكتبه وقال لي: يا ابنى إحنا مش في سينما صامتة سمعنى صوتك اتكلم!. وأشار إلى أن "الجمل" لم يكن يعنيه شيء على الإطلاق إلا العمل الجيد لاتربط بينه وبين من ينشر لهم إلا علاقة النص، فقدم الجمل العديد من أسماء جيل الستينات، نشر لأهم شعراء العامية عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وفى مجال القصة القصيرة نشر ليحيى الطاهر عبدالله وبهاء طاهر كما أنه أول من نشر لجمال الغيطانى ويوسف القعيد وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي. ولم يقتصر على ذلك بل قدم العديد من الفنانين التشكيليين إلى الساحة وكان أول من نشر مقالات صلاح عيسى بعد خروجه من السجن. ويطلعنا "فؤاد"، على مشهد آخر اقتطعه من ذكرياته مع عبدالفتاح الجمل، ففى عام 1967 قرر الراحل أن يحول الملحق الثقافى الأسبوعى إلى صفحة يومية في جريدة المساء ودعانى أنا وإبراهيم أصلان والبساطى ومحمد كامل القليوبى وفتحى فرغلى لنحرر معه هذه الصفحة كنا نعمل ككتيبة نحل، احتوانا بحبه الدافق ونصحه الدائم كنا نتحلق حوله لنستمد الدفء من روحه، ورغم أن جميع كتاباتنا في هذه الصفحة كانت دون توقيع أحببنا العمل معه وحرصنا عليه إلى آخر أيامه. وأضاف: "كان الجمل شجاعًا لا يرهبه رقيب عسكري أو قيود تفرض عليه ليتراجع عن قراره بنشر عمل ما ولمست هذه الشجاعة بنفسي، فبعد أن نشرت قصيدة "ولسا الحرب في أول السكة" صدر قرار بمنعى من النشر وكان الوحيد الذي أقدم على نشر قصائدى هو عبدالفتاح الجمل، وبسبب موقف المساء التي كانت لسان اليسار أيام فترة حكم عبدالناصر كان لها النصيب الأكبر في حملة الاعتقالات التي حدثت سنة 1959 وحبس خلالها الجمل وخالد محيي الدين وكل من في الجريدة بما فيهم عمال المطابع. لم تنحصر آثار الجمل في ميدان الإبداع وحده كما أشار فؤاد، ولكن مالا يعرفه الكثيرون أن له خارج هذا الإطار إسهامات كثيرة قدمها خدمة للثقافة والمعرفة. دفعه حبه الجارف للفن إلى تأسيس جمعية الفن وكان أحد أول المؤسسين أيضًا لنادي السينما الأول كذلك مسرح الجيب الذي كان يقام في نادي السيارات، ويبقى أثره الأهم "دار الفتى العربي"حيث كان يشغل منصب المستشار الفنى لها، تلك الدار التي تعنى بثقافة الطفل ونشر أهم ماكتب للأطفال. "كان فلتة لايمكن تكرارها" هكذا بدأ الشاعر فتحى فرغلى استحضار صورة الجمل وروحه التي تشعر بها تحوم في سماء المقهى الثقافى من شدة امتنان أصدقاءه لمروره في هذا العالم. وقال فرغلي: الحديث عن قديس الثقافة الراحل في ذكرى وفاتهأمر محير وموجع في نفس الوقت، لأن خسارة العالم فادحة بفقد نبل هذا الرجل. يمكن ببساطة أن تشعر بقيمته إذا ألقيت نظرة سريعة على الساحة الثقافية وتحديدًا على العصابات التي تقف على بوابات النشر في أغلب الوسائل المتاحة، تحكمها الشللية والمجاملات وكل ما يبتعد عن معيار القيمة الأدبية للإبداع. وتابع: تعرفت على الجمل عن طريق صديقى المخرج محمد كامل القليوبي، وقتها كنت أكتب بعض القصائد على استحياء في نوتة صغيرة أحملها دائمًا في جيبي، شجعنى القليوبى أن أقصد الجمل لينشر لى قصائدى ولم أكن متحمسًا للفكرة وقتها لكنى ذهبت إليه في مكتبه، وطلب منى أن أتلو بعض من أشعاري، كنت أرتجف من الخوف، ابتسم وقال لى "سيب النوتة" وفوجئت بعد أيام بقصائدى في جريدة المساء. كما نشر ل"على الحمامصى"، قصة قصيرة أرسلها في جواب من سوهاج، دون أن يراه، كان أسطورة بكل ماتعنيه الكلمة. وأشار "فرغلي"، إلى أن علاقة عبدالفتاح الجمل بالمبدعين كان على عكسها تمامًا مع المدعين أو المنافقين لم يكن يطيقهم لأنه يقدس الإبداع، أذكر كلما كان يرى سمير رجب يشتمه، وبعد أن جاء رئيسًا لتحرير المساء تقدم الجمل باستقالته فورًا لأنه لايقبل على نفسه التعامل مع مثل هذه الشخصيات. أما الأديب الكبير سعيد الكفراوى فبدا عليه التأثر حين استهل حديثه عن الراحل بقوله: "كم هو زمن جاحد ينسى العظماء بمجرد رحيلهم وكأن الفناء هو الأصل ووجودهم في هذه الحياة كان نوعًا من العبث.. رحم الله عبدالفتاح الجمل الذي مد يده لنا وكنا أحوج مانكون لهذه اليد الحانية، حنوه على البشر جسده في روايته الخوف وطواحين الصمت". وتابع، "دائمًا ماكنت أنظر إليه على أنه أحد كهنة مصر القديمة، يدرك الخامات الأدبية الجيدة يفرزها بحرص مؤمن بأن الإبداع الحق لايحمل المجاملة.. شكل هو ويحيى حقى أعظم البنائين في جيل الستينات، ولاأبالغ إن قلت إن هذا الجيل خرج من معطف الجمل". وتذكر "الكفراوي"، أول لقاء جمعه ب"الجمل"، قائلًا: "دخلت عليه المكتب لابس جلابية فلاحي، شاب صغير جاء من القرية ولايفقه شيئًا عن القاهرة.. استقبلنى بحنو ومحبة باذخة واحساس بأن الكاتب الجيد قيمة لابد من رعايتها، داعبنى وقال لي: اقعد يافلاح، قرأت عليه القصة التي أتيته بها فكانت ابتسامته سابقة، أما تقييمه لها فكتبه أسفلها وقد نشرها في الصفحة الثقافية.. شعرت ساعتها بسعادة غامرة وتوطدت صداقتى به لاحقًا". أما عن علاقته ب"الجمل" كأديب استفاد من إبداعه، قال الكفراوي: "كان مبدعًا يحمل موهبة فذة ويتميز بخبرة مرعبة بالحياة والكتابة واللغة وبناء العمل الأدبي، تعلمت منه الكثير رغم أن إنتاجه القليل لم يتعد أربع روايات ومجموعتين قصصيتين، فعندما أكتب عن القرية كنت أراه وأسمع رنه صوته تشكل إحساسى وأشعر به على أطراف أصابعى ينبهنى إلى هوامش المشهد القروى الذي التقطها ببراعة في أعماله، فمن أروع ماكتب رواية "محب" جمع فيها عالم القرية الثري، وجسده في مزج بديع بين الفصحى والعامية التي تقترب من الشعر، فأنا أصف نفسى بأنى كاتب فلاح من تلامذة الجمل". وأشار إلى أن "الجمل" كان من أشد الناس تواضعًا، فحين أصدر "محب" شغفت بها ونظمت لها احتفالية كبرى وأخذتها للنقاد جابر عصفور وصلاح فضل ليكتبوا عنها، ويومها فوجئت به يتصل بى الساعة 2 صباحًا، ويطلب منى أن الغى كل مافعلت لأنه لايجيد الظهور الإعلامي ولايحبه، فعرفت قيمة هذا الرجل.