عزيزي القاريء: لم أكن قارئًا عميقًا، في يومٍ من الأيام. عدا الصحف. جريدة ال»ميل»، غالبًا. ليس لأنني أصدّق كل ما يُكتَب بها، ولكن لأنها تشكّل قراءةً سهلة ويسيرة. هناك بعض الحقيقة فيما تنشره: فترةُ تدريبٍ في الجيش ستحلّ مشكلات هؤلاء الفِتية، بكل تأكيد. تعلّمهم بعض الاحترام. »لا يحترمون أحدًا»، هذا ما يردده الناس عن شباب هذه الأيام. قبل شهرين، كنتُ أسير في الشارع لا زلتُ قادرًا علي الحركة رغم ما أعانيه من آلام حين شاهدتُ ثلاثة فتيان. رؤوسهم حليقة، كالجنود، لكنهم لم يلتحقوا بالجيش يومًا. أستطيع تأكيد ذلك. كان عليهم إفساح الطريق لعربة طفل، فصاح أحدهم في الأم: تريدينني أن أفسح لكِ الطريق، أليس كذلك؟ سوف أدفع تلك العربة داخل »..ك»... قال كلمة لا يمكنني تكرارها، ولا أتخيل التفوه بها في الطريق لأمٍ شابّة، لا تزال هي نفسها أقرب لسن الطفولة. لم يكن في وسعي فعل شيء، بطبيعة الحال، إلا التفكير في عدم احترامهم لامرأة، وكيف كان الوضع شديد الاختلاف في أيامي. علي كل حال، وكما قلت، لستُ قارئًا عميقًا ولا أحبّ الكتب كثيرًا، لكنني مع ذلك أستمتع بمؤلفات »همنجواي». كان يعرف كيف يكتب بطريقةٍ محدّدة، دون استفاضة. يجيد »همنجواي» تقديم أفكاره بدقةٍ ووضوح. قرأتُ كل شيء.. حتي ذلك الكتاب الأقرب لدليل في مصارعة الثيران، منه إلي قِصّة. كنتُ سأعيده إلي البائع، ولكن كيّ أكون صادقًا ومنصفًا كان ذلك مكتوبا، بشكلٍ أو بآخر، علي الغلاف الخلفي. بالإضافة لذلك، كانت حبيبتي »روز» هي التي اشترته لي. لطالما داعبتُ »روز» بالقول بأنني سألجأ لطريقة »همنجواي»، إن هي رحلتْ قبلي. كنتُ أمزح، لكنني في الوقت ذاته كنتُ أعني ما أقول. »إرنست» العزيز.. أنهي كل شيء بطلقتين من بندقيته عيار 12. ذلك قرار، وليس صرخة استغاثة. لكن المسألة هي أن الأمور تختلف عند وقوعها فعليًا، عمّا كنتَ تتخيلها عليه. حين توفيت »روز» المسكينة، كنتُ متعبًا من كل تلك الليالي التي اضطررتُ فيها للجلوس محنيّ الظَهر إلي جوارها؛ وكان هناك الكثير مما ينبغي عليّ ترتيبه والإعداد له، لأجد الوقت الكافي للتفكير بنفسي. كل ما استطعتُ التفكير فيه حينها، هو عُمرٌ كاملٌ من الذكريات. »روز» لم تكن متأكدة من مشاعرها تجاهي، حين رأتني من جديد في الحفل الراقص، الذي توافق مع إجازتي. كنا قد بدأنا نتراسل، خلال وجودي في معسكري بكوريا. طلبتُ من صديقٍ لي أن يذكّرها بي. كنا قد التقينا مرةً واحدةً، في حفلٍ راقصٍ آخر، وقام هذا الصديق بتعريف أحدنا إلي الآخر. الحقيقة أنني لم أكن أجيد الرقص. هذه الأيام، يكتفي الناس بهزّأجسادهم، ولكن في أيامنا كان ينبغي عليك أن تعرف كل ما تفعله. لم أكن أعرف ما ينبغي علي فعله، وكان جلدي رقيقًا ومصفرًّا كتلك القناديل الورقية الكورية. كان السفر الطويل، وشفائي القريب من مرض الملاريا، قد أنهكاني. »روز» لم تكن متأكدة من مشاعرها. ولكننا حظينا بأوقاتٍ ممتعةٍ، سويًا. يكفي أنني كنتُ متيقنًا من ضرورة امتلاكها. يكفي أنها وافقت علي لقائي مرة أخري، في إجازتي التالية. واصلنا تبادل الرسائل. كانت كلمات »روز» بمثابة القوة والدافع لأستكمل خدمتي. كلماتها، وبعض تلك الأمور التي كنت أمارسها مع تلك الممرضة العسكرية الصغيرة.. »إميلي»، ومسدسي بطبيعة الحال. إن امتلاك الرجل لمسدس، يمنحه شعورًا خاصًّا بالفخر. كنت أستطيع تفكيك سلاحي وإعادة تركيبه، في الظلام. لا يمكنك التوقف عن تنظيف وتزييت مسدسك، عليك فعل ذلك باستمرار، وبكثرة. إن الوقت الذي تنفقه في فعل ذلك، لا يعدّ وقتًا ضائعًا. يمكن لهؤلاء الفتية أن يستفيدوا من معلومةٍ كهذه، بدلًا من تسكعهم في الطرقات، وهم يضعون مسدساتهم في ملابسهم الداخلية الفاخرة، ويتبخترون بزهو، ويتحدثون بكلماتٍ غامضة، غير مفهومة. رأيتهم في الحيّ. رؤيتي لهم لا تهمهم. يعتقد الناس بأنك غير موجود، ما إن تشيخ. لا احترام. علي كل حال، عودتي التالية لم تكن إجازة. كنتُ قد عدتُ للاستقرار. في أول فرصة، درتُ ب»روز» في ساحة الرقص، بخفةٍ ومهارة، كما لو كنتُ »فريد آستير». لم تصدّق ذلك. ابتسمتْ، وضحكتْ كالمجنونة. تلك ال»إميلي» كانت متزمتة، كراهبة، لكنها أجادت تعليمي الرقص. ما يكفي لأكسب قلب »روز» علي الأقل، وذلك كل ما كنتُ أريده. ولكن بعد وفاة »روز» العزيزة، لم يعد لديّ شيء، مرة أخري. كل تلك الأعوام السعيدة، ثم لا شيء. لذلك، قررتُ أن أحصل علي مسدس. شيءٌ أهتم به. شيءٌ يمنحني إحساسًا بالفخر. وإذا ما قررتُ اللجوء لطريقة »همنجواي»، سيكون قريبًا مني. ظننتُ أن إدراكي بأني صاحب القرار، سيمنحني شعورًا بالارتياح. هناك كرامةٌ في ذلك، واحترام.. لقدرتك علي اختيار الوقت الذي يلائمك. لا كرامة في الانتظار. يريدونك أن تعاني، لمجرد أن المسيح قد مرّ بمعاناة. كنتُ أعرف أين يمكنني البدء بالبحث عن مسدس. كما قلتُ سابقًا، هناك عددٌ لا بأس به من الأسلحة في الحيّ. لم يأخذني أحد علي محمل الجد، في باديء الأمر، لكنهم رأوا النظرة في عينيّ، ورأوا نقودي. عيناكَ لا تشيخان، ليس من الداخل، ونقودك لا تزال صالحة. الاثنان اللذان قالا بأنهما سيبيعاني سلاحًا، كانا في حوالي الثانية والعشرين، أو الثالثة والعشرين، أو ربما أكبر قليلًا. من الصعب الجزم بذلك، جميعهم يبدون صغارًا. يقولون بأنك تصير مُسِنًا حين يبدو رجال الشرطة شبابًا. حتي القُضاة يبدون شبابًا في نظري. يمكنني القول بأن هذين الاثنين قد عُرِضا أمام قاضٍ أو اثنين، حتي الآن. أرادا الحصول علي المال أولًا، لكنني طلبتُ منهما رؤية المسدس قبل ذلك. كان جميلًا. ليس في جمال »روز»، ولكن في جمال سيارتكَ الأولي. مسدسٌ بزناد سَحب، وقرصٍ دوّار، من نوع »سميث آند ويسون»، فوهته مرتفعة بعض الشيء، مغطي بالنيكل، وخشب الجوز. وهكذا، أعطيته المال في نفس اللحظة، لكنه رفض تسليمي السلاح. سوف تؤذي نفسك به يا جدّي. والآن، اختفِ من أمامي! حسنًا.. كنتُ سأؤذي نفسي به، بطبيعة الحال. هذا هو الهدف من شرائه أصلًا. لكن لا ينبغي لأمثاله أن يكونوا أصحاب القرار. الاتفاق اتفاق. لا يحترمون أحدًا. هذه هي المشكلة. ولذلك، تقدمت وانتزعتُ المسدس منه. وقف في مكانه، مستغرقًا في الضحك، وكأنه غير مصدّق. لم أكن مجرد جندي، إنني أجيد بعض الحِيَل. قمتُ بلَيّ ذراعه. تذكرتُ كيف علّمنا »فيربيرن» ذلك في الجيش، وكأنه البارحة. خلال لحظات، كان المسدس في يدي، وكان هو الذي يحاول استعادته مني. ثم جاء صديقه، وهاجمني. ضربني في ضلوعي بقوة، حتي كدتُ أن أقع أرضًا. ولذلك، أطلقتُ عليه النار. بمنتهي الهدوء. كأمسية عيد كريسماس هادئة. كأنما كان »فيربيرن» يهمس في أذني: حرّك المسدس وكأنه امتدادٌ لذراعك؛ والآن، اضغط علي السلاح بأكمله، وليس علي الزناد فقط. رائع! ثم سقط. دون حركة. دون اختلاجة. ليس مثل ذلك المسكين الذي قتلته في كوريا. لا صوت، سوي ذلك الذي شَقّ الهدوء، والذي لا يزال صداه يتردد في أذني التي أسمع بها. كأنه شارة لبدء شيء جديد. كانت شارة بدء، بالفعل. الشاب الآخر، تراجع علي الفور. قلتُ له: لمَ لا تعود إلي البيت يا بُنيّ؟ يمكنك الاحتفاظ بالمال. لم أسرق شيئًا في حياتي، ولن أبدأ بذلك الآن. عُد إلي البيت. راح يردد: نعم يا سيدي. شكرًا يا سيدي. لو طلبتَ رأيي، فهكذا يجب أن يكون الوضع. بعض الاحترام للأكبر سِنًا. يقول الناس بأن الشباب لا يحترمون أحدًا. ربما كان ذلك صحيحًا، ولكن ما إن تطلق رصاصة علي أصدقائهم الملاعين، حتي ينصتون إليك كما يجب. اتخذتُ طريقي إلي بيتي، أنا أيضًا. مرّت بي بضع سيارات شرطة، لكنها لم تتوقف. تصبح غير مرئي، تدريجيًا. كلما تقدم بك العُمر، تصبح بشرتك أكثر رقة وهشاشة، إلي أن يتوقف الناس عن رؤيتك تمامًا. لا أظن بأنني سأستخدم هذا المسدس الآن. ليس لبعض الوقت. أمرٌ غريب، لكن قتل شخص منحني عقدًا جديدًا للحياة. الآن، عليّ أن أستمع إلي جميع نشرات الأخبار، وأن أشتري جميع الصحف المحلية. هذا يعطيني نوعًا من الأهداف، إلي حدٍ ما.. أن أتابع لأري ما إذا كنتُ سأستطيع الإفلات من المسألة. لكنني أكتب هذا، تحسبًا لاتخاذي ذلك القرار؛ ولأشرح الوضع بعض الشيء. من باب الاحترام، مثلًا. إن كنتَ تقرأ هذا الآن، فهذا يعني بأنني ذهبتُ لأتناول المشروبات مع السيّد »همنجواي». كمياتٌ صغيرة. لا أريد أن أترنح، لأنني أرغب في الرقص مع حبيبتي »روز».