وصفه بعض النقاد بأنه حطم الحاجز التقليدي الصلد بين الكاتب والمحارب، ووصفه أرشيبالد مكليش بأنه «مقاتل خاض الحروب قبل ان يبلغ العشرين من عمره، وجعل منه نقاد آخرون ثلاثة في واحد: الإنسان، الكاتب، الأسطورة! عاش حياته كلها علي خط الموت، ففي العاشرة من عمره، حمل بندقيته، وراح يصطاد الطيور في ميتشجن، وفي السابعة عشرة، أصبح جندياً متطوعاً في الجبهة الإيطالية، وفي السابعة والعشرين مارس رياضة الملاكمة، ثم شغف بمشاهدة مباريات مصارعة الثيران في إسبانيا، وفي الأربعين عمل في المحيط مقاتلاً ضد الغواصات النازية. بدأ همنجواي حياته محارباً قبل ان يبلغ العشرين تطوع أثناء الحرب العالمية الأولي في الجبهة الإيطالية، وأصيب فيها، وفي 1930، كاد يلقي مصرعه في حادث سيارة، وأنقذه الأطباء بخياطة خمسين غرزة في وجهه. لما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية، خاضها بلا تردد، ثم شارك في الحرب العالمية الثانية مرافقاً للجيش الأول في فرنسا وألمانيا عامي 1944- 1945، ثم دخل باريس المحررة علي رأس فرقته في 1945، وفي العام نفسه سقطت به طائرته في وسط أفريقيا أثناء جولة صيد داخل الأدغال، وانقطعت أخباره عن العالم حوالي أسبوع، قبل ان يعود سالماً إلي نيروبي علي الشاطئ الشرقي لأفريقيا، وحين قرأ همنجواي نبأ مصرعه في الصحف العالمية التي تصورت أنه قد مات بالفعل، قال بهدوء: إن الرجل الذي ظل يبحث عن الموت طيلة حياته، لا يمكن ان يموت في سن الرابعة والخمسين! علي قيد الحياة لكن همنجواي ظل علي قيد الحياة بعد تلك الحادثة سبع سنوات، قبل ان يضع فوهة مسدسه في فمه، ويطلق النار! لماذا؟ قيل انه أصيب بالفزغ، حين تبين له ان قدرته علي الإبداع خانته! وقيل إنه عاني الاكتئاب، فلم يجد خلاصاً إلا ان ينهي حياته. وقيلت تفسيرات أخري مقنعة وغير مقنعة.. لكن المحارب مات واقفاً! طفولة شقية كان إرنست همنجواي هو الابن الثاني لستة إخوة، رزقهم الدكتور كلارينس، همنجواي، الطبيب في أول بارك بمقاطعة الينوي، وهم: مارسلين، إرنست، يورسيلا، مادلين، كارول، ليكيستر. وقد تزوج أربع مرات: الأولي الصحفية هاولي ريتشارد سون، وأنجب منها ابنه الأكبر جون، فلما ضاقت هاولي به، وبحيوته الزائدة- والتعبير له!- طلقها، وتزوج صحفية أنجب منها ابنه إيريك، ثم تزوج الكاتبة مارثا جيلهورن، أما زوجته الرابعة التي ظلت معه حتي انتحاره، فهي ماري ويلش، وقد أنجب منها آخر أبنائه جريجور. وكما يقول همنجواي، فقد كانت طفولته شقية جداً، وخاصة في علاقته بأبيه، وهو ما ينعكس في تصويره لعلاقة نيك آدمس- بطل الكثير من أعماله!- بوالده، ان آدمس هو همنجواي بدرجة، أو أخري! وداعاً للسلاح ويروي همنجواي ان ولعه بالحرب كان وراء شعوره بالسعادة، عندما استقل السفينة عبر المحيط الأطلنطي في آخر مايو 1918. كانت آماله قد تحققت أخيرا: هأنا ذاهب إلي الحرب!.. وبلغ شعوره بالسعادة ذروته حين علم ان السفينة تسير بمفردها دون أي حراسة، وكم كان ذلك الأمر حافلاً بالأخطار، وبالتحدي، وتيقظت أمنياته بأن تظهر سفينة للأعداء، لكن السفينة وصلت بسلام إلي ميناء ميلانوا وأرسل في كانساس يقول إنه سعيد، لأنه سيتوجه غداً إلي ميدان القتال! وفوجئ همنجواي ان عمله بعيد عن القتال الفعلي، وقدم طلباً بالعمل في «بوفيه» الصليب الأحمر، وكان البوفيه الذي التحق به قريباً من مصادر نيران العدو، لكنه انشغل بتوزيع الشيكولاتة والسجائر علي الجنود، دون ان يشغله الرصاص المتساقط من حوله. وفي اليوم السادس، انفجرت قنبلة بالقرب منه، فغاب عن الوعي، ولم يفق إلا في المستشفي بميلان. وقد ضمن همنجواي تلك الحادثة روايته «وداعاً للسلاح»، وكتب في 1952، متذكراً وقائع الحادثة: إن أي تجربة يمر بها المرء في الحرب تشكل فائدة مهمة للكاتب.. لكن تلك التجربة لو كانت قد زادت عن الحد، فإنها كانت ستصبح تجربة مدمرة! وبلغ عدد الجروح التي سببتها شظايا القنبلة في جسم همنجواي 227 جرحاً، وقد أجري له العديد من العمليات الجراحية لاستخراج الشظايا. ثم أعفي من العمل في الصليب الأحمر في 4 يناير 1919، فلما وصل إلي نيويورك، كتبت جريدة «صان» عن سجله الحافل في الحرب، والجروح التي ملأت جسمه! ويروي ليكيستر همنجواي أن أخاه إرنست عمل أثناء الحرب العالمية الثانية موظفاً في المخابرات المركزية الأمريكية، وأنه كان يفيد من سفينة الصيد التي كان يملكها في استكشاف المياه داخل الحدود الإقليمية الأمريكية وخارجها ومعرفة مواقع سفن العدو، وإبلاغ القيادة العسكرية الأمريكية بما يتوصل إليه. ألوان من .. الحرب! ان اقتصار أعمال همنجواي علي ساحات المعارك، أو حلبات مصارعة الثيران، أو في أدغال أفريقيا، ليس وليد ذاته ولا مصادفة، تلك الأعمال تعبير عن رؤيته للحرب في أكثر من زاوية، فثمة حرب الإنسان دفاعاً عن حياته ومصيره وحريته كما في «وداعاً للسلاح» وحرب الميتادور والثور ينفذ مشيئة القدر، وحرب الصياد العجوز نشداناً لرزقه، كما في «العجوز والبحر»، ويخفق مرة ومرات، لكنه يظل يحتفظ بأمله إلي غير نهاية. الحرب هي شاغل إبداع همنجواي، وشاغل فكره أيضاً، لكنها ليست حرباً شريرة، ولا مدمرة، إنها تحاول ان تنتزع الخلاص من عدمية الموت والانتصار من براثن الهزيمة. لذلك، كره همنجواي الحرب كمعني، رفضها كقيمة سلبية، لكنها إذا فرضت علينا، فلابد ان نخوضها بشجاعة، وأن ننتصر فيها. قصص البطولات بلغ من انشغال همنجواي بالحرب، انه جمع سبعاً وثلاثين قصة قصيرة، أو مقطعاً روائياً، من آداب العالم، علي مر العصور، وأصدرها في مجلد ضخم تقارب صفحاته الألف بعنوان «رجال في الحرب».. وكتب لها مقدمة طويلة، اعتبرها النقاد انجازاً أدبياً مهماً، لا يقل عن انجازاته الروائية! يصف أحد الجنود شخصية همنجواي إبان احتدام معارك الحرب العالمية الثانية: «لقد كان يحارب كأي جندي محترف، وكان يتصف بشجاعة نادرة، لم أر لها مثيلا في حياتي، فهو يسبق طلائع الجيش دون تردد أو خوف، وكان يضرب المثل- بعفوية- في روعة التضحية ونبل الفداء». وقد صدرت الطبعة الأولي من كتاب همنجواي في 1942، فأقبل عليه القراء الذين كانوا يعانون ويلات الحرب التي تشنها بلاده ضد بلاد المحور. ويختلف دور الكاتب المحاور، عن دوره القائد، في الفقرة الأولي التي يبدأ بها همنجواي مقدمته، فهو يخاطب قراءه قائلا: «لا لن يقول لكم هذا الكتاب كيف تموتون، فذلك شيء في مقدور بعض زعماء الحرب العظام ان يفعلوه بمجرد إصدارهم منشوراً في أي وقت يتضمن أنجع السبل المؤدية إلي انجاز هذا العمل الصغيرة، الذي لا مناص منه في نهاية المطاف، وليس من المستبعد ان يكون قائد الجيش قد أصدر هذا المنشور في الإصدار الخاص بيوم الأحد، مرصعاً ببعض الصور، بل انهم قد يجعلون ذلك المنشور علي شكل ملحق مرفق بالإصدار الذي أتيح لي ان اطالعه في نوفمبر من عام 1941، بعنوان: كيف يمكننا ان نهزم اليابان في ستين يوماً؟! لا، ان هذا الكتاب لن يقول لكم كيف ستموتون، لكنه سيحدثكم عن الكيفية التي حارب بها الرجال وماتوا منذ أقدم العصور، عندما تفرغون من قراءته، ستعلمون ان ليس ثمة من الأحداث التي تمر بكم، ماهو أسوأ مما مر به أناس قبلكم، فإذا قرأتم وصف الحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع، أدركتم أنه لا يمكن ان تتعرض حملة من الحملات لشيء أسوأ مما تعرض له رجال هذه الحملة. نحن نفعل ذلك وقد أدان همنجواي في مقدمته، نظرة الأمريكيين المعجبة بموسوليني، لسبب غاية في الطرافة والسذاجة، انه جعل القطارات تسير في أوقاتها المحددة، وتناسوا ان بلادهم فعلت الأمر نفسه دون حاجة إلي فاشية. أما نجاح الألمان في سني الحرب الأولي، فلأنهم خاضوا الحرب بروح عملية، احترافية، أهملوا النظريات والاستراتيجيات القديمة، وطوروا في التكتيكات، وفي نوعيات الأسلحة واستخداماتها. أما المقولة التي أراد همنجواي ان يعبر عنها، ويؤكدها في كتابه، فقد جاءت في كلمات ضابط انجليزي، التقاه همنجواي في مستشفي، أثناء الحرب العالمية الأولي: لست آبه لما يحدث، فالمرء يموت مرة واحدة، ونحن مدينون لله بالميتة التي يعدها لنا، فليكن ما يكون فمن يموت هذه السنة يكون قد أعتق من هذا الدين في السنة القادمة. وكما يقول همنجواي، فإن هذا القول هو أفضل ما يتضمنه كتابه، فبذلك وحده يستطيع المرء ان يواصل مسيرته. ويقول همنجواي: ان مهمة الكاتب لا تدعو قول الصدق، وأما مقياسه لهذا الصدق فينبغي ان يكون من السمو بحيث يؤدي إبداعه النابع من تجاربه إلي إنتاج أصدق مما يمكن ان تكون عليه الحقائق ذاتها، ذلك لان الحقائق قد ينظر إليها بطريقة سيئة، أما الكاتب المجيد فهو إذا توفر علي إبداعه، وخصه بالوقت وشمول النظرة، فقد ارتفع به إلي الحقيقة المطلقة، وإذا حدث ان لم تتهيأ للكاتب- خلال حرب من الحروب- تلك الظروف المواتية لنشر الحقيقة، بسبب ان نشرها قد يلحق الضرر بالدولة، فيجب عليه حينئذ ان يكتب دون ان ينشر، وإذا كان غير قادر علي تحصيل رزقه، ان لم ينشر، فبإمكانه ممارسة أي عمل آخر. قلب الرجل! ثم يشير همنجواي إلي ما يعتبره بديهية، يجب ان يعيها الكاتب والقارئ في آن معاً، وهي ان الحصان يحمل الرجل في معركته الأولي إلي حيث لا تستطيع رجلاه ان تذهبا به. أما العربة الميكانيكية فهي تحمله إلي أبعد مما يحمله الحصان.. لكن العربة الميكانيكية لن تكون أفضل من قلب الرجل الذي يتولي القيادة، لذلك فإنه من المهم ان نتعرف إلي القلب الإنساني والعقل البشري في الحرب، ويذكرنا همنجواي بالصورة التي رسمها ستاندال للشاب فابريزيو، في معركة واترلو. هذا الوصف هو أقرب الأشياء إلي حقيقة الحرب، ومعناها، ثم وصف فيكتور هوجو عن المعركة نفسها. ويتوقف همنجواي عند معني مهم في الحرب، سواء أكان ذلك في معركة بحانة، أو في حرب حقيقية. ان أفضل ما يمكن للمرء ان يفعله هو ان يكيل لخصمه اللكمة الأولي، وان يضرب بأعنف ما يمكن، وكان ذلك هو الخطأ الذي ارتكبه القادة الأمريكيون، لقد تصرفوا كقوة دولية مسئولة، ونظروا إلي العدو النظرة نفسها، في حين كان العدو يحشد قواته وامكاناته، ويعد للضربة المقبلة، وكانت لهم سابقة في ضرب الاتحاد السوفييتي دون إنذار. أسوأ من الحرب أخيراً، ينهي همنجواي مقدمته بالتأكيد علي المقولة التي بدأ بها: لقد رأيت الكثير من الحروب في حياتي، وإنني لأبغضها بغضاً شديداً، غير ان هناك مع ذلك ما هو أسوأ من الحرب، وهي نتائج الهزيمة، فكلما ازددت كرهاً للحرب، عرفت انك إذا أرغمت علي الدخول فيها، بغض النظر عن السبب، فعليك ان تكسبها، نعم، ان عليك ان تكسبها. علي حافة الموت ان العنف يسيطر علي جميع إبداعات همنجواي، وعالمه- كما يصفه أحد النقاد- هو ذلك العالم الذي لا تنمو فيه الأشياء، وتحمل ثماراً، لكنها تتفجر وتنكسر وتتحلل وتتآكل. كل أبطال همنجواي يجدون أنفسهم في الكفاح من أجل قيمة، حتي يقفوا علي حافة الموت، قد يسقطون، لكنه السقوط المشّرف الذي لا يقل في سموه عن الانتصار، بل هو بالقطع أشرف من الانتصار الزائف المخادع. وكما يقول جوزيف وولد مير، فإن الرجل يجب ان يعتمد علي نفسه وحدها لتأكيد رجولته، وان تأكيد رجولته هذه في مواجهة العقبات التي لا يمكن قهرها، هو الهدف النهائي ومبرر الوجود عند البطل الهمنجوي، فالصياد العجوز ينبغي ان يواصل صراعه اللا مجدي مع أسماك القرش، ومانولي يجب ان يواصل معركته مع الثور رغم رسغه المكسور والنزيف الحاد الذي أصابه، وجاك يجب ان يواصل صراعه ضد كل عوامل الإحباط.. كل من هؤلاء يجب ان يواصل صراعه، دون الارتكاز إلي عون ما، ففرديتهم المتوحدة وحدها هي التي تستطيع تأكيد رجولتهم. وبالطبع، فقد واجه همنجواي اتهاماً بأنه يروج للعنف، ولاستعمال القوة البدنية. والحقيقة انه كان يرفض الخوف واليأس والهزيمة، ويصر علي الثقة بالنفس والكفاح، ومحاولة الانتصار علي كل ماهو مهين. وكما يقول في «تلال أفريقيا الخضراء» فإنه يخشي الحياة المهينة عندما يتخلي الإنسان عن شجاعته لمواجهة أحلك مواقفها، أو كما يقول الصياد العجوز سانتياجو «علي الرجل ان يتحطم نهائياً قبل ان يستسلم للهزيمة»، وحين واجه روبرت جوردان الموت في «لمن تدق الأجراس» لم يفزع المحارب في داخله، وانما تقبل الأمر بشجاعة وبساطة، فقد عاش حياته علي النحو الذي يرضي كرامته! نهاية غير متوقعة! يبقي سؤال: لماذا اختار همنجواي هذه النهاية التي لا تتفق مع حياته المفعمة بالتحدي والنضال والمعارك المتواصلة، ولا تتفق مع فلسفة حياته كما تتضمنها أعماله، والتي تؤكد ضرورة ان يحتفظ الإنسان بإصراره وروح المقاومة في مواجهة الضغوط والعوامل المحبطة؟ لعل آخر رواياته «العجوز والبحر» كانت تدليلاً واضحا علي تلك الفلسفة.. فلماذا استسلم- في آخر أيامه- للاكتئاب، وحاول ان ينتحر أكثر من مرة، حتي أفلح- في غياب الأعين القلقة، المشفقة- في ان يضع فوهة المسدس في فمه.. ويطلق الرصاص؟!