انخفاض سعر الدولار أمام الجنيه الأربعاء في البنوك    ارتفاع أسعار النفط بعد انخفاض غير متوقع في مخزونات الخام الأمريكية    حقيقة ارتفاع سعر الثوم بالأسواق.. هل الكيلو هيوصل 100 جنيه؟    أسعار الأسماك واللحوم اليوم 24 أبريل    إصابة رئيس الشيشان قديروف ب"مرض مميت"، والكرملين يجهز بطل روسيا لخلافته    صحف الإمارات اليوم.. لا مؤشرات على توقف الحرب في غزة.. وفد اقتصادي كوري شمالي يزور إيران.. وأمريكا تنذر تيك توك    الشيوخ الأمريكي يوافق على 95 مليار دولار مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا    ما حقيقة المقابر الجماعية في مجمع ناصر الطبي؟    10 معلومات عن ميناء غزة المؤقت.. تنتهي أمريكا من بنائه خلال أيام    طولان: الزمالك سيتخطى دريمز الغاني.. ولست ضد حسام حسن لكن اختياره خاطئ    الذكرى ال117 لتأسيس النادي الأهلي.. يا نسر عالي في الملاعب    ميدو يعلق على تأهل العين الإماراتي لنهائي دوري أبطال آسيا    الأرصاد تحذر من ارتفاع غير مسبوق في درجات حرارة اليوم، والقاهرة تسجل 41 درجة في الظل    الكونجرس يقر نهائيا قانونا يستهدف تغيير ملكية تطبيق التواصل الاجتماعي تيك توك    الكرم العربي أعاق وصولها للعالمية، "بيتزا المنسف" تثير الجدل في الأردن (فيديو)    تعرف على مدرب ورشة فن الإلقاء في الدورة ال17 للمهرجان القومي للمسرح؟    عتريس السينما المصرية.. محمود مرسي تزوج مرة واحدة وتوفى أثناء التصوير    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    مفوض أوروبي يطالب بدعم أونروا بسبب الأوضاع في غزة    نمو الطلب على إنتاج أيه إس إم إنترناشونال الهولندية لمعدات تصنيع الرقائق    «زراعة الإسكندرية»: ذروة حصاد القمح الأسبوع المقبل.. وإنتاجية الفدان تصل ل18 أردبًا هذا العام    قبل 8 مايو.. ما شروط الأعذار المرضية قبل بدء امتحانات نهاية العام 2024؟    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    الكونجرس يقر مشروع قانون يحظر «تيك توك» بالولايات المتحدة    نتائج مباريات الأدوار من بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    مشاهدة صلاح اليوم.. موعد مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    موازنة النواب: تخصيص اعتمادات لتعيين 80 ألف معلم و30 ألفا بالقطاع الطبي    أيمن يونس: «زيزو» هو الزمالك.. وأنا من أقنعت شيكابالا بالتجديد    خطر تحت أقدامنا    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأربعاء 24/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    3 أشهر .. غلق طريق المحاجر لتنفيذ محور طلعت حرب بالقاهرة الجديدة    أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تحول الصور والمقاطع الصوتية إلى وجه ناطق    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    مسئول أمريكي: خطر المجاعة «شديد جدًا» في غزة خصوصًا بشمال القطاع    إعلام عبري: مخاوف من إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين بينهم نتنياهو    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    عاجل - درجات الحرارة ستصل ل 40..متنزلش من البيت    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    «رب ضارة نافعة»..أحمد عبد العزيز يلتقي بشاب انفعل عليه في عزاء شيرين سيف النصر    تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    موعد مباريات اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024| إنفوجراف    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باجين نجيب محفوظ الصين
نشر في نقطة ضوء يوم 15 - 09 - 2010

يمثل الروائى الصينى الكبير لى ياو- تانغ المعروف باسم " باجين " فى منظومة الأدب الصينى الحديث علامة متميزة، وأيقونة لها خصوصيتها وتجلياتها الإبداعية المتوهجة حيث تشكلت ملامح أدبه من أصالة الأدب الصينى الكلاسيكى القديم الذى يحمل إرث الأجداد وتوهجات حكمتهم وفلسفتهم مع الانفتاح على الأدب الغربى الذى تحول باجين معه إلى فن الرواية التى أصبحت كل حياته وشغله الشاغل طوال حياته وفى ذلك يقول " : مارست الكتابة طوال أكثر من خمسين عاما ومع ذلك فأنا لا أعد نفسى فى مصاف الكتّاب . ولكل امرئ سبيل يسلكه ليفضى به إلى الاشتغال بالأدب . لقد كنت أحب قراءة القصص منذ حداثتى حتى أنها كانت تصرفنى أحيانا عن الطعام والمنام . وما كنت أطالع لأتعلّم بل طلبا للمتعة، ولم تكن لى موهبة الأدب يوما، بيد أنى وجدت سبيلى إلى التعبير يوم غدوت روائيا " (1) . ويعتبر باجين واحدا من ثلاثة روائيين عظام أنجبتهم الصين وكان لهم دوى كبير فى مجال الفن الروائى والقصصى داخل سور الصين العظيم وخارجه وهم ( لوشون، وباجين، ولاو شى )، كما حصل الأدب الصينى أيضا على جائزة نوبل لأول مرة عام 2000، حين حصل عليها الروائى الصينى جاو جنسينجيان المقيم فى فرنسا، والتى مثلت روايته " جبل الروح " رافدا مهما من روافد الإبداع الروائى الصينى الذى كتب فى الخفاء بعيدا عن أعين الرقباء، وعبر بصدق عن واقع الحياة الصينية، التى كان القمع والقهر يغلفها، وقد جسدت هذه الرواية الروح الصينية الباحثة عن نفسها وعن ذاتها بصدق شديد وذلك من خلال البحث عن جبل الروح داخل الذات، والبحث عن المكان الأسطورى المعروف باسم ( لينج شان ) وسط غابات جنوب الصين، وهو ترميز لدلالات واقع البحث عن المدينة الفاضلة التى يبحث عنها العالم كله بعيدا عن مظاهر القمع والإنهاك والظلم، وفى ذلك يقول جاو جنسينجيان فى كلمته التى القاها عند استلامه الجائزة من ملك السويد فى ستوكهولم " : وقد تعرض الأدب الصينى للإنهاك وكاد أن يختنق مرة تلو الأخرى بسبب إملاء السياسة للأدب، حيث أصدر الأدب الثورى أحكاما بالإعدام بحق الأدب والأدباء، والهجوم على الثقافة الصينية التقليدية باسم الثورة، فخلق بذلك صعوبات جمة أمام الكتابات باللغة الصينية حتى لمجرد مناقشة حرية الإبداع " (2) .
وقد تأثر باجين بحركة الرابع من مايو عام 1919 التى اندلعت فى بكين، وكانت أفكارها وآراءها مستمدة من التمرد على الإرث الاجتماعى القديم النابع من أحكام كونفوشيوس والقائم على طغيان سلطة العشيرة البطريركية ( الأبوية ) وسط سطوة العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الصينية ذات الانضباط الفلسفى القديم، " : فقد ارتبط الأدب الصينى منذ جذوره الأولى بالحكمة القديمة والفلسفة ولم ينفصل عن الوحى الدينى، فالأدب والفلسفة والحكمة والدين كانت تلتئم جميعها فى سياق واحد يتّوجه نحو هدف واحد أيضا هو البحث عن المعرفة " (3) . وقد أتاحت حركة الرابع من مايو لكتّاب هذا الجيل الذين تأثروا بمبادئها وأفكارها أن يبدعوا أدبا بحيث إنعكست أفكارها ورؤها الجديدة على أعمالهم فى شتى المجالات، كما أفنت هذه الحركة فى ثورتها الثقافية الكاسحة الثقافة الصينية الكلاسيكية القديمة تماما كما تسببت فى انتحار العديد من الادباء أمثال لاوتسى، وفولاى وغيرهم، كما أنها أيضا أقامت مدارس السابع من آيار كمعسكرات لإعادة التريية والتأهيل الجديد ولمواكبة ما كانت تنادى به هذه الثورة من أفكار وآراء جديدة، أدخلت فى هذه المدارس عددا كبيرا من المبدعين والكتّاب والأدباء، وقد أقام باجين فترة من الفترات فى هذه المعسكرات وكانت له تجربته الإبداعية الخاصة، حاول فيها أن يتواءم مع الوضع الجديد . على أن هناك بعض الكتاب وعلى رأسهم لوشون والشاعرالروائى زهو زيكنج يعوزون على أن مظاهر الحداثة والبعث القومى كانا متحدين اتحادا تاما منذ بدء تكوين الأدب الصينى الحديث، بحيث غدت السمة الأساسية لهذا الأدب متمثلة فى لقاء مع الإتجاهات الأيديولوجية العالمية دون رفض للتراث الوطنى، كما يشير هؤلاء الكتاب أيضا " : إلى أنه من الخطأ القول بأن ثورة الرابع من مايو ( آيار ) الثقافية، والأدب الصينى التى جاءت به قد تخليا عن التقاليد الكلاسيكية، كما أنه من الخطأ أيضا إنكار الصلة الوثيقة بين الأدب الصينى الحديث والأدب الصينى الكلاسيكى القديم بحجة أن الأول تأثر كثيرا بالآداب الأجنبية " (4) . وبالرغم مما قيل عن هذه الثورة من ِآراء، وبالرغم من التأييد الذى منحه باجين لثورة ماو بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة عام 1949، إلا أنه لم يسلم من إذلال وهجمات الحرس الأحمر اليسارى المتطرف خلال الفوضى الثقافية ( 1966-1976 )، وفقده لزوجته شياو شان عام 1972 وتعرضه للتعذيب والمحاكمة أكثر من مرة خلال تلك الفترة .
وعن المؤثرات التى أثرت فى إبداعاته الروائية قال باجين " : وفرنسا هى البلد التى تدربت فيه على فن الرواية وإن أنس لا أنسى أساتذتى فى هذا الفن : روسّو وهوجو وزولا ورومان رولان . لقد علمّونى المزاوجة بين الكتابة والحياة والموالفة بين الكاتب وشخصيات روايته . وفى اعتقادى أن العمل الأدبى يبلغ أوج كماله بفضل هذا التلاحم إذ يستطيع الكاتب حينذاك أن يكرّس ذاته لقرائّه . وما رواياتى إلا ثمرة ما مررت به من تجارب، وكل أثر من آثارى الأدبية ما هو إلا جنى حصاد متجدد . ومع ذلك فإن أمر الحكم عليها إنما يعود إلى الذين يطالعونها . أما بالنسبة لى فإن إعلان الحقيقة شريعة لا يجوز المساس بها .
على أننى لم استرشد فى عملى بالكتّاب الفرنسيين وحدهم بل كان لبعض الكتاب الروس – كهرتزن وتورجنييف وتولستوى وجوركى – نصيب فى توجيهى . وقد ترجمت أقاصيص جوركى الأولى . ومن الكتّاب الذين نسجت على منوالهم الكاتب الإنجليزى تشارلز ديكنز والكاتبان اليابانيان ناتسومه سوزيكى وآريشيما تاكيو . أما أستاذى من الصينين فكان " لوشون " . وقد تأثرت بهم جميعا بدرجات متفاوتة . على أن الحياة، الحياة فى المجتمع الصينى هى التى كان لها أبلغ الأثر فى تنشئتى إذ قد غدوت كاتب قصة بممارسة الواقع المحسوس . وقد يلمس القراء فى كتاباتى تأثير هذا الكاتب أو ذاك غير أنى لا أنحو نحوهم بصورة شعورية واعية . لقد سبق لى أن أعلنت عزمى على محاربة المجتمع القديم ولن يضيرنى نوع السلاح الذى يقع عليه اختيارى ما دام سلاحا فعالا " (5) .
وتعتبر رواية " كيا " أو " العائلة " التى كتبها باجين عام 1933 ومثلت علامة مهمة فى حياة الكاتب الإبداعية، وصدرت لها ترجمتين باللغة العربية، الأولى تحت عنوان " الأسرة " ترجمة محمد نمرعبد الكريم وصدرت عن دار نشر اللغات ببكين، والثانية بعنوان " العائلة " ترجمة فاروق محمد سليمان البديوى وصدرت عام 1971 عن الهيئة المصرية للتأليف والنشر بالقاهرة، وهى من الأعمال التى قدر لها أن تصبح علامة فى مسيرة الرواية الصينية حيث يستعرض الكاتب حياة أسرة أقطاعية برجوازية تعتبر نموذجا للأسر الأقطاعية التى كانت متواجدة بكثرة فى المجتمع الصينى أثناء حكم أسرة تشينغ ( 1644-1911 ) . والرواية تعتبر من النصوص الملتبسة فى المجال السردى حيث إنها أقرب للسيرة الذاتية لحياة الكاتب نفسه، فقد نشأ باجين لأسرة إقطاعية تعرضت لنفس الانهيار التى تعرضت له كل هذه الأسر فى ثورة عام 1911 التى قادها د . صان يات صان، وهى نفس السنة التى ولد فيها نجيب محفوظ الذى جمع بينه وبين باجين أوجه شبه عديدة فى مجال إبداعهما . وتمثل رواية " العائلة " واحدة من ثلاثية ( العائلة، الربيع، الخريف ) كتبها باجين عام 1933 تحت عنوان " الوابل " أو " السيل " ، ويجمع بينها وبين ثلاثية نجيب محفوظ " بين القصرين، قصر الشوق، السكرية " أوجه شبه كثيرة، تبدأ من رأس هذه العائلة فى الروايتين " " الجد فى رواية " العائلة "، والأب السيد أحمد عبد الجواد فى ثلاثية نجيب محفوظ، وكما أشرنا فأن رواية " العائلة " تعتبر من قبيل السيرة الذاتية لأسرة وحياة الكاتب الصينى باجين بينما تتضمن ثلاثية نجيب محفوظ ملامح من سيرته الذاتية، فقد اعترف نجيب محفوظ فى إحدى حواراته بأنه " كمال " فى الثلاثية، ويجسد باجين فى رواية " العائلة " نفس السطوة والطغيان الأبوى السلطوى لشخصية الجد رب الأسرة المتحكم فى مقدرات تلك الأسرة الإقطاعية، وهو شخصية طاغية آسرة، الجميع يقف أمامه فى خشوع وخضوع، لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا إلا بإذنه، من أراد الخروج لا بد أن يمر بغرفته لينحنى أمامه ويسمع أوامره وتعليماته، وهو شخصية تشبه إلى حد كبير شخصية ( سى السيد ) فى رواية " بين القصرين " الذى كانت سلطته الأبوية على أسرته تنحو نفس المنحى والتوجه، وقد قام بعض الدارسين العرب بعمل دراسات مقارنة حول أعمال باجين وأعمال نجيب محفوظ منهم الباحث الأردنى يوسف خطايبة الذى قدم دراسة مقارنة ركزت حول رؤيته تجاه تجربة الكاتبين الكبيرين من خلال ثلاثية كل منهما ومدى التطابق وأوجه الاختلاف الواقع بينهما، وقد نال الباحث عنها درجة الماجستير عام 1966 .
كما تمثل رواية باجين أيضا مرحلة هامة فى حياة الصين وهى مرحلة الإقطاع بما تحمل وتتضمن من عوامل الزيف والتهرئ والقمع والقهر السائد على الجميع، ولكن يخرج من هذه الأسرة أحد الشباب الثائر المتمرد من أفراد الجيل الجديد، فيثور على تعليمات الجد ويتمرد على واقعه وتبدأ حالة من الغليان تسود الأسرة، وهو تجسيد حى لما حدث حول ثورة 1911 من خلال هذه الثلاثية التى ابدعها باجين، وقدم فيها الصين الثائرة على سوط الجد الإقطاعى الأكبر وكأنه يرسم فى العمق سيرة عائلته الأقطاعية الكبيرة المكونة من حوالى خمسين شخصا ( من أخ وأخت وأبناء عم وأقارب )، وغيرهم من الخدم وعمال الأرض . وقد وصف باجين هذه الرواية بقوله " : لقد كتبتها لأجعل منها سلاحا " .. وعن المآسى التى كانت تدور خلف جدران البيت الكبير حيث تتعايش أربعة أجيال مثلما هى العادة فى معظم البلدان الريفية التى تحيط ابناءها بسياج من الخصوصية يجمعها ويحمى عاداتها الخاصة وتقاليدها العمياء . صحيح أن المبنى الذى تقطنه العائلة، كان محاطا بالمياه والسواقى والطبيعة الخلابة، إلا أن هذا المجتمع الصغير كان يعانى من التعب والحزن والأنين، والسبب هو الوضع الاجتماعى الذى كان يلقى بظلاله الكئيبة على الجميع " (6) . وقال باجين " : لست أنا الذى غير راغب فى أن ينسى ما حدث، أو أن يخفى الحقائق الدامية، إنها الكوابيس التى رأيتها دوما هى التى تمنعنى من النسيان، إن حب الحقيقة والحياة بأمانة هو وجهتى وهدفى فى الحياة . كن صادقا مع نفسك، وكن صادقا مع الأخرين، يكن ذلك هو الحكم الصادق الصحيح على سلوكك فى الحياة " . وقال أيضا " : إن قلمى مشعل وبدنى شعلة، وإلى أن يصير الأثنان رمادا سوف يبقى حبى وكراهيتى فى هذا العالم " لهذا ظل باجين وفيا لقلمه وأفكاره وآراؤه وسرده الروائى، وكان يحمل فى صدره قلبا ينبض بالحب للعالم بأسره، وكان شديد التأثر لما كان يدور حوله من مظاهر القبح والقمع والظلم، حتى أن كثيرا من المآسى قد تركت ندوبها فى فكره وإبداعه وحياته كلها .
ولد باجين فى مدينة تشنغدو عاصمة مقاطعة سيتشوان بجنوب غرب الصين فى 25 نوفمبر 1904 لعائلة ثرية، وتلقى تعليما أجنبيا هو أخوته فى مدارس داخلية، حيث درس اللغة الأنجليزية فى مدرسة تشنغدو للغات الأجنبية بمسقط رأسه، وتنقل بعد ذلك فى عدة مدارس فى شنغهاى وتانجنيغ، ثم سافر إلى فرنسا لتلقى العلم فى مدارسها وجامعاتها بدعم من أسرته من عام 1927 إلى عام 1929، ولكنه نأى بنفسه عن الطلبة اليساريين الصينيين، وظل على حياده السياسى فى هذه السن المبكرة، وكان باجين فى ذلك الوقت يعيش فورة الشباب وهواجسها الذاتية الخاصة، وكان مشاعره الفياضة تجاه الإنسانية والعدل تتأثر كثيرا بما ان يدور حولها من ممارسات ووقائع، وفى ذلك يقول باجين " : كنت فى الرابعة والعشرين عندما انطلقت من شنغهاى للدراسة فى باريس يحدونى الأمل فى اكتشاف طريق الخلاص للإنسانية وللعالم ولنفسى، استقر بى المقام فى غرفة صغيرة تقع فى الطابق الرابع لمبنى فى شارع تورنفور بالحى اللاتينى، يجتاحنى فيها مزيج عفن من روائح البصل والغازات . وكنت اشعر فيها بالوحشة والبؤس إذ لم يكن نور الشمس ينفذ إليها إلا لماما، كنت أشعر بالحنين إلى الوطن، إلى أهلى وخلاّنى، إلى حيث كانت تحتدم معركة بينى مريدى الثورة والرجعيين وكان كهل الشعب ينوء بعبء الآلام .
وفى باريس كانت قد شنّت حملة لإنقاذ عاملين أيطاليّين هما ، . ساكو و ب . فانستّى، وكانا قد اتهما بالقتل زورا ثم أدينا بهذه التهمة، وكانا منذ ستّة أعوام رهينى سجن فى بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية . وكانت الجدران فى الشوارع التى يكثر مرورى بها مغطاة بملصقات تدعو إلى اجتماعات أو تنظيم مظاهرات تأييدا لهما، ووقعت عيناى على هذه الأسطر المثيرة للجزع : " أمنيتى هى أن تتمكن كل أسرة من أن تجد بيتا تأوى إليه، وأن يحصل كل إنسان على كفايته من الخبز والتعليم، وأن تتاح له فرصة تنمية مواهبة " . فكان لهذه الأمانى، وقد عبّر عنها صاحبها بهذا القدر من القوة، أن أصابت القلب منى .
وكنت أسكن على مقربة من " البانتيون " ذلك الضريح المشّيد لإيواء رفات الحكماء . وتوقفت ذات أمسية ممطرة، مال فيها الأصيل، أمام تمثال برونزى لجان جاك روسو، ورحت ابث ما بى من شجن وأسى ل " مواطن جنيف " هذا الذى كان يمّنى النفس بالقضاء على اللامساواة والطغيان . ولدى عودتى إلى وحشة غرفتى وصقيعها، جلست أسطر كتابا بعثت به إلى ب : فانستّى فى زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام فى تشارلز تاون، أسالة فيه النصح، وفى ردّه الذى بلغنى بعد لأى أكد لى أن " الشباب هم أمل العالم " . وبعد بضعة أشهر من ذلك أعدم على الكرسى الكهربائى . وكان لا بد أن تنقضى خمسون عاما قبل إحقاق الحق وإعادة الإعتبار لساكو وفانستّى . فى هذا الجو الذى جثم بأنفاسه على صدرى شرعت أخط بعض معالم فصول قصة . وكان صوت أجراس " نوتردام دى بارى " الأبح ينفذ إلّى بينما كان ما بى من يأس ووحشة وحماسة يتجسد على الورق سطرا سطرا . وكان ما شعرت به إلى ذلك اليوم من لواعج الهوى والضغينة، ومن أفراح وأتراح، ومن أسباب الموّدة والجفاء، ومن الآمال والأشجان، يتبلور على يراعى المتدفق . فأخذ القلق الذى كان يساورنى يتبّدد وصرت رخّى البال، وعاد النوم إلى عينى وبذا كان خلاصى " (7) . لقد مر باجين فى حياته الطويلة التى تجاوزت المائة عام بالعديد من بالمتناقضات والمفارقات التى كانت لها تأثير كبير وعميق على حياته الخاصة وعلى إبداعاته التى سطرها خلال تلك الفترة، فهو قد جمع فى حياته وإبداعاته بين الأصالة والمعاصرة، بين الكلاسيكية القديمة وبين مظاهر التجديد والحداثة، بين حكمة الصين وفلسفة الشرق وبين الواقع الذى رأه وعايشه خاصة عندما سافر إلى فرنسا ورأى الحضارة الغربية عن كثب، حتى أن أحد أصدقائه الفرنسيين وهو الكاتب " إيتامبل " قد وصفه أمام تلاميذه فى السوربون حين كان يدرّس لهم الأدب المقارن بأنه " عملاق أدبى " بلا منازع .
وفى روايته " ليل جليدى " والصادرة عام 1944، وفيها يعرض بالفترة التى سيطرت فيها سلطات الكومنتانغ ( تشانك كاى شيك ) على السلطة فى الصين، وبشكل متناقض للغاية سمحت هذه السلطات بنشر الرواية، وعندما سيطر أتباع ماوتسى تونج على الصين وتسلموا زمام السلطة صادروا الرواية لأن زوجة ماو نفسها أحست بالتشاؤم من هذا النص، كما أحست بأن باجين إنما يجسد مرحلة حكم زوجها وليس المرحلة السابقة عليه، وعلى الرغم من صدور هذه الرواية إلا أن باجين قد التزام الصمت بعد صدورها لفترة طويلة . وفى ذلك يقول فى مقدمته لهذه الرواية " : بدأت فى ليلة شتاء قطبية البرودة كتابة رواية " ليل جليدى "، ما كنت أبدا كاتبا كبيرا ولا أجرؤ الادعاء بعلم التاريخ أو الشعر حتى ولو فى المنا . أنا تماما كما قال عنى أحد النقاد " ذلك الذى يراقب الحياة من خلال شق ... " فأنا لا أجرؤ على مواجهة الحقيقة الجارحة، ولهذا لا أكتب غير ما رأيت وسمعت وعشت " (8) . وقد ترجمت هذه الرواية إلى العربية وقام بترجمتها السورية هيفاء طعمة وصدرت ضمن سلسلة روايات عالمية عن وزارة الثقافة السورية عام 1993 .
تدور أحداث الرواية فى مدينة نشونغ – كينغ المزدحمة بالسكان، بعد أن تكدست بالهاربين من فظائع القوات اليابانية الغازية . وسط هذه الفظائع نجد الكاتب المثقف شوين وهو الشخصية الرئيسة فى النص واللاجئ بدوره إلى المدينة، ويجسد باجين فى وصفه لمظاهر الحياة القاسية والمهينة التى وضعها نظام تشانج كاى شيك ويخص بها المثقفين . ويعمل شوين هذا المثقف المشهود له بالتميز والتفرد فى كتاباته كمصحح فى إحدى دور النشر لقاء دريهمات قليلة يقيم بها أوده ويتعرض وسط هذا المناخ السلطوى البيروقراطى المهين لمظاهر الظلم والقهر والعنف والمضايقات والملاحقات، وسط هذا الصراع المرير بين الكاتب والسلطة. تتوقف الرواية فى طريق مسدود وهو أمر يصفه باجين بكلمات قليلة بما لا يحسم أمره بين الأمل واليأس وكأنه يصف حاله هو، فهل كانت رواية " ليل جليدى " هى شريحة جديدة من شرائح السيرة الذاتية لباجين هذا ما تجيب عنه الرواية فى وقائعها ونسيج حياتها . وقد أثارت هذه الرواية ببنائها الفنى والتجربة التى عالجتها اعجابا عاما داخل الصين، وعبرت بصدق عن الواقع الذى عاشه الكاتب فى مرحلة من مراحل الكفاح الذى خاضها المثقفين مع السلطة . حتى أن صديقه الكاتب الفرنسى " أيتامبل " عندما زار الصين وسأله عن أى رواياته يحب أن تترجم إلى الفرنسية، أجبا على الفور " ليل جليدى " و " حديقة الراحة " .
من هنا نجد أن الأعمال الروائية التى كتبها باجين هذا الكاتب العملاق كما وصفه صديقه الفرنسى كانت كلها تدور فى فلك تحرير الإنسان والبحث عن مدينته الفاضلة وفى ذلك يقول " : ولم أكن لأهتم فى ممارستى مهنتى، بأسلوب ولا بمهارة أو فن . فكل ما يهمّنى هو أن أكون فى عون قرائى وأن أصلح الإنسان وأجمّل حياته وأفى بما علىّ من دين للمجتمع وللشعب . وليس ثمة كتاب من كتبى إلا ويسعى وراء هذه الغاية " (9) .
وتعتبر رواية " دمار " وهى أول رواية كتبها باجين وقد كتبت فى باريس، وفى هذه الرواية يتذكّر باجين حياته فى شنغهاى وواقعه الذاتى فى هذا المكان البعيد حيث الجنود والنقابات والعمال والتمرد والجوع والخوف، وحيث نجد بطل هذه الرواية كان ممزقا بين الحب والكراهية وهى سمات عرف بها باجين فى مقتبل عمره، وفى ثورة هذه الهواجس الفتية التى كان يعيشها بطل الرواية كان يتابع بحثه المضطرب عن الثورة ويقسم بتدمير كل الذين بنوا سعادتهم على بؤس الآخرين، وكان المكان المتواجد فى هذا النص هو شنغهاى المدينة الصينية التى استحضرها فى أول أعماله الروائية تماما كما فعل هيكل حين كتب زينب وهو مقيم باريس مستحضرا فيها الريف المصرى برومانسيته وشخوصه الحاضرة فى وعيه الشاب . ويقول باجين حول ظروف كتابته لرواية " دمار " ونشرها " : منذ ذلك الحين صرت أجد مفصحا عن مشاعرى على الورق كلما أفسحت لى ظروف الحياة مجالا لذلك، وقد لطفّت هذه العادة من وحشة شبابى ووحدته . وفى العام الذى تلا ذلك فرغت من باكورة إنتاجى – كتاب بعنوان دمار – وأرسلت هذا الكتاب فى شهر أكتوبر/ تشرين الأول بالبريد إلى الصين من بلدة فرنسية هى " شاتو تييرى "، على عنوان صديق لى فى شنغهاى يعمل فى دار كايمنج للنشر، ورجوته إبداء رأيه فيما كتبت إذ كنت أريد لهذا الكاتب أن ينشر، كذلك أرسلت نسخة مخطوطة إلى أخى الأكبر . وعندما وصلت شنغهاى فى شهر ديسمبر/كانون الأول 1928، أعلمنى صديقى أن مؤلفى سينشر فى مجلة ( فكشن الشهرية )، وأردف قائلا إن بى شنجتاو رئيس تحرير المجلة بالإنابة قرر نشره على جمهور القراء بعد الإطلاع عليه . وكانت مجلة فكشن آنذاك مجلة واسعة الانتشار ذائعة الصيت . وبذلك انفتحت لى أبواب السماء وأتيحت لى فرصة العمر إذ تمكنّت، أنا الكاتب الغّر، من أن أنزل إلى حلبة الأدب نزول الفاتحين " (10) .
بدأت بعد ذلك رحلة الإبداع عند باجين بعد عودته من فرنسا، فكتب عدة أقاصيص وترجم العديد منها، وبدأ نشر ما يكتبه فى الصحف والمجلات الدورية، وكانت أكثر أعماله وقصصه تنشر بمجلة فيكشن الشهرية التى سبق أن نشرت له روايته الأولى " دمار"، فى ذلك الوقت آثر باجين العزلة والابتعاد عن الغرباء وعن الكلام فى المحافل العامة، وجعل كل همه فى نشر إنتاجه الأدبى عن طريق صديقه الذى كان يقطن معه فى نفس مسكنه، وشيئا فشيئا بدأت دائرة العلاقات الأدبية لباجين تتسع وتأخذ فى الإنتشار وبدأ الطلب على كتاباته القصصية ومترجماته يزداد، ولما كان باجين مولعا بالسفر منذ رحلته إلى فرنسا، فقد بدأ فى السفر والترحال داخل الصين سعيا إلى لقاء الأصدقاء والمعارف، وكانت الكتابة هى مصدره الوحيد للأرتزاق وكما يقول " : وإلى هذا يمكن أن يعزى إرجائى الزواج حتى سن الأربعين، ولم أكن قبلها أملك بيتا لى وكنت أنزل ضيفا على هذا الصديق أو ذاك وانتقل فى شتى ارجاء البلاد، وقد يسر لى ذلك كتابة " مذكرات مسافر " (11) . وفى عام 1934 رحل باجين إلى اليابان وأقام بعض الوقت فى يوكوهاما ثم فى طوكيو . وفى العام التالى أسس مع بعض الأصدقاء " دار الحياة الثقافية للنشر "، واستمر فى العمل كمحرر لمدة عشرين عاما حرر فيها عدة سلاسل من الكتب، ووقف معظم وقته فى الكتابة والترجمة، لذا كان ما يتاح له من التحرير والتأليف محدودا إلى حدا ما، إلا أن حماس الشباب لديه ظل فى عنفوانه ولم تبرح رغبة الكتابة عنده إلا أن تكون فى قوتها . وعندما بدأت حرب المقاومة ضد اليابان عام 1937، نزح عن شنغهاى إلى جنوب البلاد، وكتب روايته " السيّل " . وفى عام 1952 توجه إلى كوريا فى عداد الصينيين المتطوعين للقتال وشارك الجنود نمط حياتهم وكانت هذه أول تجربة فى هذا المجال، وكتب كثيرا عن مجتمعه الجديد، ومجد فى مجتمعه الجديد والحياة الحديثة فى الصين فى ذلك وهو ما سبب له كثيرا من المعاناة بعد ذلك حينما قامت الثورة الثقافية الكبرى وفى ذلك يقول " : كثيرا ما تسنّى لى السفر خارج البلاد فحررت مقالات عديدة فى سبيل تعزيز مشاعر الصداقة بين الشعوب . كانت تلك مهمة شيقة ومثيرة ساعدتنى على أن أوسع أفاقى فتوثقت بينى وبين الآخرين أواصر صادقة فتراءت لى فى المستقبل أوجه تبادل عميقة على الصعيد الثقافى . لقد كتبت الكثير تمجيدا لمجتمعنا الجديد وحياتنا الجديدة . وكان هذا بالذات هو سبب ما ألصق بى من " جريمة " طوال السنين العشر " للثورة الثقافية الكبرى " وجعل كتاباتى ترمى باسم " الأعشاب السامة " . وترامت علّى الشتائم واعتقلت فى ما أسميناه حينذاك " الحظائر "، وغدوت هدفا للإهانات وسوء المعاملة فى جميع أشكالها . وفى أثناء هذه السنوات العشر حرمت أيضا من حقوقى المدينة وحظر علّى النشر .عندئذ عدت إلى متابعة مشروع مضى على التفكير فيه أربعون عاما، ذلك هو ترجمة مذكرات هرتزن . كنت أترجم كل يوم بضع مئات من الكلمات، فيخيّل إلّى أننى أقوم بنزهة مع الكاتب فى ليلة ظلماء . لقد ندد هرتزن باستبداد القيصر نيقولا الأول وظلاميته، وعلى غراره أخذت أفضح " عصابة الأربعة " ناعيا عليها دكتاتوريتها الفاشية . وكنت مقتنعا بأن أجلهم قريب . وقد كتب لى أن أعيش لأشهد سقوطهم فكان ذلك لى بمثابة التحرير الثانى إذ تمكنت عندها من استئناف الكتابة " (12) .
لقد عانى باجين معاناة شديدة لأنه وقف ضد الظلم والاضطهاد، وحرم من أبسط الحقوق المدنية للإنسان، ومنع من الكتابة لأنه حاول أن يمنح قارئه بصيص من النور، فى هذا الظلام الدامس، ووقفت منه الثورة الثقافية الكبرى موقفا عدائيا، ولكنه بقوة إرادته وتصميمه الشديد على بلوغ أقصى غايات وأهداف توجهاته الأدبية والإبداعية أخذ فى الكتابة والكتابة كما كان يقول، فكان أن وضع لنفسه برنامجا لخمسة أعوام كتب فيها روايتين وكتاب فى المذكرات تحت عنوان " ماضى حياتى الأدبية " وخمس مجموعات تحمل عنوان " شجون اليراع "، كما أنهى ترجمة مذكرات هرتزن . وكان البعد الذاتى الذى كان يؤرقه دائما هو القارئ، كان اهتمامه بالقارئ، وكان يعتبر كل ما يحول بينه وبين قارئه هو من اعدائه، وكان يعتبر ذلك نوعا من الهمجية والوحشية والعبثية وفى ذلك يقول " : لم أكن أهتم فى ممارستى لمهنتى، بأسلوب ولا بمهارة أو فن . فكل ما يهمّنى هو أن أكون فى عون قرائى وأن أصلح الإنسان وأجمّل حياته وأفى بما علّى من دين للمجتمع وللشعب . وليس ثمة كتاب من كتبى إلا ويسعى وراء هذه الغاية .
وقد جاء فى تصريح لى عام 1935 ( أى بعد عامين من صدور قصتى الأسرة )، لم أكف يوما عن محاربة أعدائى بقلمى . فماذا عساها أن تكون هذه الأعداء ؟ . إنها تحيزّات تراث متخلف، إنها كل هذه النظريات اللامعقولة التى تعوق تفتّح الإنسان وتقدّم المجتمع، إنها جميع القوى التى تقّوض الحب، تلك هى أعدائى ! ولقد بقيت منذ ذلك اليوم على موقفى هذا أرفض أى تراجع وأى حل وسط . وعندما التقيت فى باريس عام 1981 بعدد من الأخصائيين فى الدراسات الصينية سألنى أحدهم عن كيفية بقائى على قيد الحياة وقد عشت سنوات " الثورة الثقافية " . وقد حدت بى رغبتهم الصادقة فى فهم موقف بدا لنا موقفا عاديا لا غرافية فيه إلى أن أمعن الفكر فيما اكتنف تلك السنوات العشر من ظروف رهيبة ومروّعة . وأسفر إمعان الفكر هذا عن أن سنوات المحنة تلك لم تكن كلها شرا محضا وإنما هى قد علمتنا شيئا أخذ يتكشف لى رويدا رويدا . ولا بد أن يكون ذلك الشئ هو الحب والأمل الذى لولاه ما بقى كل هؤلاء الناس على قيد الحياة بعد أن عاشوا تلك المحنة . إن من صمدوا للظلم والإضطهاد إنما فعلوا ذلك بفضل ما كان يجيش فى صدورهم من إيمان . أما أولئك الذين قضت عليهم المحنة فقد خلفوا لنا الرجاء والأمل الذى ينبغى لنا أن ننقله إلى أبنائنا وأحفادنا، لذلك فلن أكف عن الكتابة أبدا " (13) .
على أنه فى السابع عشر من شهر أكتوبر عام 2005 وبعد رحلة طويلة تجاوزت المائة عام رحل باجين الكاتب الوحيد الباقى من الجيل الأول للكتاب العظام فى الصين، وأحد روائيى هذا العصر الذين كانت إبداعاتهم تجسد الحياة الاجتماعية فى الصين بواقعيتها والذى كان يحدوه الأمل فى أن يعيش الجميع فى سعادة دائمة .
حصل باجين على العديد من الجوائز والأوسمة من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان وتولى رئاسة إتحاد الكتاب الصينى فترة طويلة، وظل إلى أخر يوم فى حياته يحمل منصف نائب رئيس اللجنة الوطنية للمؤتمر الإستشارى السياسى للشعب الصينى . وهو الذى أنشأ متحف الآداب الصينية الحديث عام 1985، وهذا المتحف أصبح من المعالم الرئيسية فى مدينة بكين وهو يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم وهو صورة ثانية لمكتبة الإسكندرية الحديثة التى قامت لإحياء المكتبة القديمة الشهيرة، وهكذا حقق باجين لنفسه ولوطنه بعض من الأحلام الذى حلم بها، حقق لنفسه مجدا إبداعيا كبيرا ولإنسان وطنه حقق بعض من السعادة التى كان ينشدها له .
-------
الهوامش
1) خمسون عاما من الاشتغال بالأدب، بادجين، رسالة اليونسكو ، ع 259 ، ديسمبر 1982 ص 4 .
2) نوبل للصين ، ترجمة صبحى حديدى ، الكرمل ، ع 96 ، شتاء 2000
3) لماذا الأدب الصينى ؟ .. ملف خاص ، شؤون أدبية ، الشارقة ، دولة الإمارات العربية المتحدة ، ع 11 ، شتاء 1990
4) العلاقة بين الأدب الصينى الحديث والآداب الأجنبية ، وانج ياه ، ترجمة د . حسن عباس ، الثقافة العالمية ، الكويت ، ع 48 ، سبتمبر 1989
5) رسالة اليونسكو ص 5
6) وفاة باجين ، اسكندر حبش ، ج السفير ، بيروت ، 28 أكتوبر 2005
7) رسالة اليونسكو ص 4
8) مقدمة رواية ليل جليدى ، ترجمة هيفاء طعمة ، وزارة الثقافة السورية ، دمشق ، 1993
9) رسالة اليونسكو ص 8
10) رسالة اليونسكو ص 4/5
11) رسالة اليونسكو ص 6
12) رسالة اليونسكو ص 8
13) رسالة اليونسكو ص 8/9


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.