ردود الفعل العصبية المتسرعة من بعض الأفراد الذين خسروا في الانتخابات وفقدوا المقاعد الوثيرة لمجلس الشعب، أو من القوي السياسية التي تحطمت آمالها علي صخرة الواقع السياسي في مصر، لن تجدي نفعا، ولن تسهم في حل المشكلة الأساسية التي حاولوا تجاهلها وأدت إلي خسارتهم خسائر فادحة، فهي في الحقيقة كالبكاء علي اللبن المسكوب، إضاعة للوقت وإمعانا في تجاهل الحقيقة. الوقت من الآن فصاعدا ثمين للغاية لكل من يريد تصحيح موقفه وتعديل النتائج التي أدت إليها الانتخابات، قوي المعارضة التي خسرت، والأفراد المستقلون الذين خسروا، ملأوا الدنيا ضجيجا حول التزوير والتجاوزات وبطلان الانتخابات، وهذا شيء طبيعي في إطار ردة الفعل الأولية الغاضبة، لكن ليس بوسع أحد تجاهل النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات ولا حقوق الذين فازوا فيها تحت إشراف اللجنة العليا للانتخابات المنوط بها قانونا إدارة تلك العملية. بعد التئام المجلس الجديد وبدء ممارسته لصلاحياته الدستورية، نأمل أن يكتفي الجميع من إضاعة الوقت الثمين، وأن يتجهوا إلي إعادة تقييم الأوضاع الحزبية في أحزاب المعارضة التي شاركت في الانتخابات ولم تحصل علي مرادها أو تحقق طموحها السياسي بأن تفوز بعدد من المقاعد في المجلس يثبت أهليتها لتمثيل الشعب. البحث في الأسباب الحقيقية يتطلب قوة وعزيمة تبدأ بالتخلي عن تعليق أسباب الفشل علي شماعة المنافس السياسي القوي، صحيح أن الحزب الوطني الحاكم بقي في الحكم طوال العقود الثلاثة الماضية، لكن الصحيح أيضا أن الحزب الحاكم فاجأ الجميع بأنه أعاد بناء نفسه خلال خمس أو ست سنوات مضت ولم يعتمد علي أنه حزب الحكومة، لم يترهل ولم يكف عن تغذية نفسه بكوادر شابة. هنا نستطيع القول أن نظرة الناس إلي الحزب - أي حزب - تختلف عن نظرة الحزب إلي نفسه ورؤيته الداخلية تنظيميا وإداريا، فقد يري الناس في الحزب ما لا يراه في نفسه والعكس صحيح أيضا، الحزب الوطني الحاكم في نظر الناس هو الحكومة المسئولة عن العناية بالشعب ورعايته، هو السلطة التي عليها حل مشكلاته الاجتماعية والسياسية، ومع ذلك يسعي الحزب من داخله إلي فصل كيانه عن الحكومة وتمييز أدائه عن أداء الحكومة لأنه من خلال النظرة العلمية يدرك ضرورة الفصل بين الحزب وبين الحكومة. بينما تري أحزاب في المعارضة أنها من الورثة الشرعيين لنظام الحزب الواحد الذي سبق إعادة الحياة الحزبية في منتصف السبعينيات الماضية، تناضل للحصول علي نصيبها من الميراث الذي استولي عليه الحزب الحاكم، في حين لا يراها الناس مطلقا إلا من خلال مانشيتات زاعقة في صحفها محدودة الانتشار والتوزيع لا تقدم شيئا إيجابيا علي الإطلاق، بل تحرص علي إبراز الاختلال والفساد في كل شيء علي وجه الأراضي المصرية وتحميل الحكومة المسئولية عن ذلك الاختلال والفساد، حتي المسئولية عن سوء الأحوال الجوية. الأمور واضحة تماما في هذا الشأن وفق الثقافة السائدة، فبعد عدة عقود من الاعتقاد بأن فساد الحياة الحزبية قبل ثورة يوليو 1952 هو ما أدي إلي إلغائها، لم تظهر أبدا حتي الآن مؤشرات - بعد أن عادت الأحزاب - تقنع الناس بأن الأحزاب يأتي منها أي خير، ولذلك تجد الجماهير نفسها في حضن الحزب الحاكم أي الحكومة التي ترعي مصالحه سواء كان راضيا عن ذلك أو نصف راض أو ربع راض. الجماهير لم تقتنع بعد بوجود الأحزاب، لذلك اتجهت الحركة الجماهيرية في معظمها إلي الانتظار بعيدا عن الارتباط الحزبي ومتابعة ما يجري من سلوك وتصرفات القائمين عليها، وقد يمضي وقت طويل قبل أن تحظي الحركة الحزبية بمساندة شعبية طالما بقي سلوك تلك الأحزاب غير قائم علي دراسة علمية ورؤية تنطلق من قبول الواقع وتطويره أو إصلاحه وليس علي رفض الواقع وشجبه والسعي إلي إلغائه. إن اكتساح الحزب الوطني لهذه الدورة الانتخابية جاء نتيجة تقدمه خطوات علي الأحزاب الأخري في مجال البناء الحزبي وعدم اعتماده علي أنه حزب الحكومة، وبسبب عدم التفات أحزاب المعارضة إلي أهمية البناء الحزبي والإعداد للدورة الانتخابية من اليوم التالي لإعلان النتيجة أيا كانت، لذلك أقول إن الحرص علي إصلاح الحياة السياسية في مصر يبدأ من نصيحة مخلصة إلي أحزاب المعارضة ألا تضيع وقتها وفرصها في البكاء علي اللبن المسكوب.