بين تسلل الفكر السلفى والتيارات المتطرفة وفقر الإمكانيات المتاحة يتحرك الإبداع فى مساحة ضيقة ومخنوقة محاطة «بالبدع» والخرافات فى كليات الإبداع. إنه المناخ السائد الآن فى أكاديميتنا المتخصصة التى يتخرج فيها فنانو المستقبل. فالنحت حرام.. والموديلات ممنوعة والموسيقى متهمة بتحريك الغرائز والحال نفسه لا يختلف فى التمثيل والغناء. فى مغامرة صحفية اخترقت «روزاليوسف» الكليات الإبداعية التى وضعتها الضغوط الاجتماعية والدينية فى حصار أخلاقى فأحالتها إلى تكتلات فنية تحت الحراسة لتخريج مبدعين مع إيقاف التنفيذ. خريطة الكليات الإبداعية فى مصر تضم كليات التربية الفنية والفنون الجميلة والتربية النوعية وأكاديمية الفنون بتعدد أقسامها وتخصصاتها.. من موسيقى وغناء وتمثيل. تتصدر كلية الفنون الجميلة المشهد بوصفها من الكليات التى أضيرت من فكر التيارات السلفية حتى إنها تحولت إلى لوحة تنشين دائمة. من أكثر الأقسام التى تأثرت بالأفكار المتطرفة قسم النحت.. فحسب تأكيد د. زكريا طه رئيس قسم النحت وهو نحات وفنان متخصص وصاحب كتاب «طه زكريا بين الواقعية والتكعيبية» فإن قسم النحت حاليا من الأقسام التى يتجنبها الطلاب حيث يبلغ العدد فيه حاليا ما بين 3 إلى 6 فى الدفعة الواحدة بالمقارنة بالأقسام الأخرى التى تبلغ من 70 إلى 80 طالبا.. وأضاف د. طه: للأسف النحت الآن ليس مكروها بسبب مادى وانقراض المهنة فحسب بل قضية تحريم التماثيل والجدل المثار حول الموديلات العارية لا يزال يطارد النحت والمؤسف أن المطاردة شملت أيضا التصوير بعد انتشار فوضى الفتاوى أيضا. الغريب أن هذه النظرة انتقلت إلى المتخرجين والطلاب وتلخصها هبة سيف وهى متخرجة فى كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصر قسم تحريك بقولها: أرسم الإطار الخارجى فقط دون الدخول فى تفاصيل خوفا من اتهامى بالشرك وإعادة الخلق. التحريك حرام وأضافت هبة: حتى التحريك وهو تخصصى الأساسى أتصور أنه حرام لهذا أقتصر بعد ذلك فى عملى على أنه فقط كمورد رزق!! بينما تضيف هاجر سعيد الطالبة بكلية التربية الفنية وهى فتاة منقبة: أحاول الهروب من فخ الفتاوى بالتعامل مع الرسومات التى أقوم بها بنظرة فنية وثقافية بعيدا عن تقديسها! يعود د. زكريا ليحسم الجدل حول هذه القضية بقوله: الكلية حاليا استعانت برجال دين لإلقاء محاضرات متعقلة وسليمة للتصدى للأفكار المتشددة التى تتسلل بين الطلاب ويزرعها البعض فى أذهانهم.. ويضيف: التماثيل بالنسبة لى فن جمالى رائع لا علاقة له بالشرك والوثنية. الموديل العارى رسم الموديل العارى من القضايا المثيرة التى شهدت جدلا واسعا ومعارضة سرشة دفعت بعض الطلاب إلى اعتبارها حراما وأن الموديل العارى مرفوض اجتماعيا وأخلاقيا. ويوضح د. زكريا هذه القضية من منظور علمى بقوله: الفنان لابد له من رسم الموديل عاريا كأسلوب للتعليم الأكاديمى السليم حتى يتضمن بهذه الطريقة الرسام تفاصيل الجسم وكأنه عدسة كاميرا. أما د. حازم فتح الله عميد كلية الفنون الجميلة ونائب رئيس جامعة حلوان السابق فينقلنا إلى حقيقة أخرى فى قضية الموديل العارى بقوله: استخدام الموديل العارى لم يصدر قرار بمنعه بسبب الفتاوى بل لأسباب مادية والمتغيرات الاجتماعية لضعف المقابل المادى الممنوح للموديل الذى أدى إلى عدم اللجوء إليه. موديلات 2010 فوبيا استخدام الموديل العارى ما بين التحريم ونظرة المجتمع أدت لانقسام الآراء بين الطلاب بين القبول كهدف أكاديمى أو الرفض لأسباب دينية ولهذا يلجأ بعض طلاب الكليات المتخصصة إلى الاكتفاء بنوعية أخرى للموديل وهى عاملات النظافة والمربيات للخروج من مصيدة الحرام والحلال. «روزاليوسف» نجحت فى الوصول إلى اثنتين من الموديلات اللاتى يلجأ إليهن الطلاب خارج الحرم الجامعى وهما «أم صلاح» و«أم أسامة» وتعملان كعاملات نظافة ومربيات حيث تقومان بأعمال النظافة داخل الكلية وإعداد أدوات النحت وتجهيزها إلى جانب استخدامها كموديلات مقابل 250 جنيها.. الطريف أنهما أكدتا أن المبلغ ضئيل لكنهما يعتبرانه إضافة تساعدهما على مواجهة أعباء الحياة. من ضيق النظرة السائدة حول الفنون وفقر الإمكانيات المتاحة لمعظم الكليات الفنية المتخصصة والتى يمكن حصرها بعدم الاهتمام بإرسال بعثات للخارج كما أن المتاح ضئيل من أدوات حاسب آلى وأماكن مخصصة للدراسة. والشكوى متكررة من فقر ال«استاندات» أو طاولات الرسم العالية، والنقص فى ال«سبوتات» التى يحتاجونها فى رسمهم إلى المظهر العام الذى اختارته طالبات فنون جميلة لأنفسهن، وانتشار الحجاب، وحسب رواية «آية مجدى» الطالبة بكلية الفنون الجميلة، فإن الحجاب هو مستحدث فى بلادنا وتقليد من دول الخليج وتحول إلى موضة فى مصر. ويعقب د. فتح الله على انتشار الحجاب بين الطالبات بقوله: إنه يتسبب فى خلق حاجز بين الطالبة والمحيطين بها، فى حين أن التواصل مهم فى العملية التعليمية وأن الطالبة تتحول إلى «جزيرة منعزلة متحركة»! فالمحجبات والمنقبات تحديدا لا يجب عليهن أن يدخلن مثل هذه الكليات، فأخلاقيات الفتاة لا علاقة لها بزيها. الموسيقى حرام فى كلية التربية الموسيقية تتكرر نفس سيناريوهات «التحريم - وفقر الإمكانيات» وأيضا البدع. الطالب محمود عبدالمحسن الذى يلعب على آلة الكمان يرى أن الموسيقى «كدراسة ليست حراما»، لكن يفجر محمود مفاجأة - وهو بالمناسبة كما علمنا من الطلاب المتفوقين - بقوله: بعض الأغانى تحرك الغرائز، وخصوصا الأغنيات التى تتحدث عن الحب بأصوات كبار المطربين مثل أم كلثوم وعبدالحليم وأيضا تامر حسنى، وأضاف: أنا أفضل سماع وتأدية الأغانى من دون كلمات، وأضاف: هذا ما يقوله المشايخ، ثم سألته عما إذا كان مقتنعا بما يقولونه فأجاب: لحد ما. فى المقابل يوضح د. أحمد أنور أستاذ الإيقاع الحركى فى الجامعة أن الموسيقى هى بمثابة عبادة له، ويوضح أكثر عندما دُعيت لحضور محاضرة للإيقاع الحركى، وهى عبارة عن تعبير حركى للإيقاع، وبالتالى يقوم المؤدى بحركات بسيطة، مصاحبة بالإيقاع، وفى المحاضرة دخل أنور حاملا الحاسب الآلى المحمول الخاص به، وعرض للطلبة رقصة إيقاعية Tap Danc لإحدى الفرق العالمية، لتعريف مدى اتساع أفق الفن الذى يدرسونه، وقال أنور: بعد وقت من ممارستهم للإيقاع الحركى رأيت مردودا غير عادى على شخصيات الطلبة، وكان ذلك واضحا عليهم، وعندما سألته عن تحريم الموسيقى لدى البعض وتأثيره على الطلبة، نفى أنه قابل نماذج تشدد بهذا الشكل من الطلبة، ولكن قال إن المشكلة تظهر حين يبدأ الطلبة التدريب على التدريس فى السنتين الثالثة والرابعة ويرجعون بقصص عن التلاميذ الذين رفضوا حضور حصة التربية الموسيقية لأن والديهما قالا لهم إن هذا حرام. فى حين يكشف د. عيسوى محمود وهو أستاذ مادة الهارمونى: إن التيارات موجودة منذ قديم الزمان فى الكلية، وأضاف: إن هناك جماعات بعينها تنشر مثل هذه الأفكار، وأنها تقل ولا تزيد هذه الأيام، كما أنه لا يوجد نص دينى، مسيحى أو مسلم، يحرم الموسيقى، وأننا إن حرمنا الموسيقى، فلابد من تحريم كرة القدم والشطرنج. المشكلة المتكررة التى تواجه الطلاب بالتربية الموسيقية أيضا هى الإمكانيات، وهنا أجمع الطلبة على سوء الآلات وأنهم لا يستطيعون شراء كل آلة يتعلمونها، لأنها باهظة الثمن، وهنا تقول أميرة مصطفى وكيلة الكلية لشئون الطلبة إن الآلات باهظة الثمن يصل ثمن البيانو إلى 30000 جنيه، والميزانية لا تسمح باستبدال التالف منها بسهولة، وتضيف: إن الطلبة هم الذين يهملون فى الآلات التى يستعيرونها، ويتعاملون معها باستهتار رغم أن الطالب يتكلف سنويا من 12 إلى 14 ألف جنيه، بينما يدفع 200 جنيه كمصاريف سنوية، مما يضيق الخناق على الكلية. يعود د. أحمد أنور ليؤكد: إن الجامعة تقوم حسب إمكانياتها بشراء Projector - أداة لتسليط الصورة على الشاشة - ولكنه سرق، وهو ما أشارت إليه كريستينا يعقوب وهى طالبة بالكلية أيضا، والتى أضافت: لقد سرق مؤخرا بدال بيانو جديد، وهذا ربما عيب من جهة الطلبة، ولكنها أيضا توضح أن الكلية اشترت آلة «ماندولين» جديدة، ولكن لايزال العجز موجودا وواضحا! الخطير أن شعار تنمية المواهب وإطلاق سراحها مرفوع من الخدمة داخل الكلية وتلخصه الطالبة نسمة أحمد بالقول: لو عاوزة تبدعى تطلعى بره! وتفسر نسمة أكثر بقولها إن الأساتذة متزمتون ولا يسمحون للطلبة بمتنفس، أو محاولة الخروج عن المعتاد، إلى ما هو ليس معتادا، أو الاختلاف معهم، نفس المعنى تؤكده أيضا كريستينا يعقوب أن الأمر يعتمد على الأستاذ بقدر كبير، فمنهم من يسمح بذلك، ومنهم من لا يسمح، وبمواجهة د. عيسوى الجندى قال: إن هناك عروضا يستطيع الطلبة الاشتراك فيها، مما يتيح لهم فرصا للإبداع وتنمية مواهبهم. التمثيل بالواسطة «روزاليوسف» ذهبت أيضا إلى معهد السينما للتحدث مع بعض طلابه «أحمد وعمرو ومها وآية» من أقسام الإخراج والصوت والمونتاج والرسوم المتحركة، لسؤالهم عن دراستهم للفن ورؤيتهم له وكيف تم تقييمهم وقبولهم بالمعهد. ويقول أحمد - طالب بقسم المونتاج: إنه عن طريق بعض أسئلة الاختبارات يتم تحليل شخصياتنا وأفكارنا وتاريخنا الشخصى عن طريق رصدنا، وهناك بعض الأسئلة مثل: ما آخر كتاب سياسى قرأته؟ وأسئلة فى الثقافة والمعلومات العامة، وكذلك الشخصيات التاريخية والأحداث الجارية.. لكنهم قالوا إن الواسطة لها عامل أساسى للقبول بالمعهد و«مافيش حاجة اسمها قبول من غير واسطة التى اقتربت من أن تكون شرطا رسميا»! وتقول آية عندما تقدمت وهى «محجبة» سألوها كيف تريدين دراسة الإخراج وتصبحين قائدة العمل وأنت محجبة وسألوها كيف ستصورين مشهدا لزوجة وزوج على فراش الزوجية إذا كانت الممثلة محجبة، فردت بأنها لن تطلب من هذه الممثلة خلع الحجاب لتقوم بالمشهد الساخن لأن المشهد الساخن ليست له علاقة بالحجاب أو غير الحجاب، وهذا المشهد يمكن التلميح له من بعيد وليس ضروريا أن نعرضه كاملا فهناك تيمات كثيرة شاهدناها فى أفلام قديمة استطاعت أن تتفادى عرض المشهد وتقديمه بدون ابتذال، ويضيف زميلها أحمد: إن السينما هى فن الاختزال، فالمشهد الساخن يمكن اختزاله بدخول الزوج والزوجة الغرفة ثم يغلق الباب وينتهى المشهد عند هذا الحد فالفن ليست له علاقة بالحرام والحلال لأنه لا يوجد شىء اسمه «حرام» فى الوسط الفنى، بينما يضيف «عمرو»: الناس هى التى تقول هذا حرام وهذا حلال، وليس أنا كفنان لأننى أصنع فنا ليشاهده الناس باختيارهم لأنهم يدفعون ثمن مشاهدتهم، إذن فهو شىء بمحض إرادتهم. د. على بدرخان مدرس الإخراج بالمعهد يكشف لنا: إن قبول المتقدم للمعهد يتم من خلال عدة اختبارات تعتمد على معلومات المتقدم حول الفنون والسينما وقدرته على تحليل الأعمال بعمق من خلال رأيه ووجهة نظره ثم ينتقل للورشة ليتفاعل مع الأساتذة بشكل يومى لمدة أسبوع حتى تقدم كل لجنة تقريرها للقدرة الإبداعية وقوة الملاحظة للمتقدم، وليس هناك أى دخل للمحسوبيات خاصة أن هذا العام أغلب أبناء السينمائيين والفنانين لم يجتازوا الامتحان التحريرى، وإذا كانت هناك دعاوى تقول إن بمعهد السينما مجاملات ووسايط فهذا غير وارد تماما ولم يحدث الآن أو من قبل. النقاب ممنوع «روزاليوسيف» سألت د. عادل يحيى عميد معهد السينما عن تعليقه على النظرة المتشددة ضد الفن أجاب: نادرا ما يوجد بالمعهد طلبة لديها تشدد تجاه الفن لكن المشكلة فى بعض الأساتذة المصابين بالتشدد ضد الفن، مثل أستاذة من قبل فاجأتنا بارتدائها الحجاب وتقول إن الفن حرام، فقمت بعزلها وتركتها تدرس إحدى المواد التى كان يتلقاها طالبان فقط، لكن لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك معها، إلا فى حالة ارتداء النقاب، لأننى سأرفض دخولها المعهد كما فعلت من قبل مع طالبة ارتدت النقاب أثناء دراستها بالمعهد فرفضت دخولها لدواع أمنية فقط، لكنها حرة فى ارتداء الحجاب أو النقاب أو غير ذلك.