الحقيقة تحرر.. والحقيقة مهما كانت قسوتها وبشاعتها كانت هي المراد والهدف الذي حاول مجموعة من الشباب والفتيات الوصول إليه يومي الأربعاء والخميس الماضيين علي مسرح كافيتريا المجلس الأعلي للثقافة الذي لا تتجاوز مساحته بالمناسبة 9 أمتار في 9 أمتار من خلال عرض مسرحي يحمل اسم «بصي» عبارة عن مجموعة من المونولوجات والاسكتشات التي دامت حوالي ساعة ونصف الساعة. «هحكيها، هرسمها، هاقولها...» هكذا قالت زينب مجدي، إحدي الممثلات في العرض قاصدة الحقيقة التي ترويها حكاياتهن التي اعتبرنها أشبه ب «شكمجيات جميلة ومزينة من الخارج ولكنها تحوي خجلاً وعاراً وألماً من الداخل». ويبدو أن الحقيقة أزعجت كثيرين إلي درجة أن العرض الثاني للمسرحية والذي كان يوم الخميس الماضي اختلف كثيرا عن العرض الأول الذي سبقه بيوم، حيث اضطر المجلس الأعلي للثقافة إلي حذف مونولوجات واسكتشات كاملة من العرض لأسباب أخلاقية مرتبطة بتحفظات من الصحفيين قبل الجمهور علي العرض الأساسي. - البداية القصة التي تلت الافتتاحية كانت تحت عنوان «في الأتوبيس»، وقدمها محمد سلامة، والتي روت قصة شاب في مقتبل عمره، غير قادر علي الزواج الذي أصبح مكلفاً جداً، فلا يجد مناصاً من الكبت الذي يعاني منه إلا من خلال التحرش بالنساء في الأتوبيس، مبرراً ذلك بقناعة لديه أنهن حتما راضيات بذلك، بدليل طريقة لبسهن - محجبات كن أو غير محجبات- وطريقة تصرفاتهن،. ليكمل دفاعه باعترافه أنه يري البنات كلهن في مصر غير محترمات، وأنهن يتظاهرن بأنهن «مؤدبات وشريفات لغاية ما ييجي مغفل يشيل»!! وفي القصة الرابعة، وهي صامتة، تقف الفتيات، كلٍ تحمل الاسم الذي يعطيها إياه المجتمع. فإحداهن أمسكت لافتة كتب عليها «محجبة نص نص»، وأخري «صايعة»، وأخري «عاوزة تتجوز» وأخري «بنت بتاعت سيكويا» «وهو مطعم مشهور في الأوساط الشبابية». ويُسمع صوت ساعة تدق بعنف، بينما تبحث مني الشيمي، عن مكانها وسط هذه المسميات، وترفع أخيراً علامة استفهام كبيرة، معتبرة هذه العلامة اسمها ودلالة العلامة واضحة ومؤلمة. - بنات للإيجار في أحد الاسكتشات المهمة الذي يحمل اسم «بنات للإيجار» والذي قدمه كل من «سيف الأسواني» و«محمد سلامة» نري «الشيخ» الذي يزوج فتيات للعرب الأغنياء، لمدة أسبوع أو شهر. وعندما يري ال«زبون» أن المال المطلوب كثيراً، يرد عليه الشيخ مستنكراً «هو أنت فاكر نفسك في بيت دعارة! ده جواز علي سنة الله ورسوله!». وفي القصة التي روتها زينب مجدي، بعنوان «كانت»، يتم التطرق لحالات تحرش حدثت لفتيات في مراحل عمرية مختلفة، القصة تبدأ ب «كانت 9 سنين» ثم تقص زينب قصة فتاة في المدرسة الابتدائية، تعرضت للتحرش من قبل ولد يكبرها سناً في المدرسة. لتواصل قائلة «كانت 15 سنة» وتروي قصة فتاة في الخامسة عشرة ضغط عليها صديقها، لتخضع له وتمارس الجنس معه، حتي تثبت له أنها تحبه، وإلا هجرها. أشكال مختلفة للتحرش وبمسميات متنوعة. - «Do you want to have kids» أو «هل تريدين أطفال؟» كان الاسكتش الأكثر صدمة للجميع، خاصة عندما تبدأ «نادين إيميل»، قصة فتاة صغيرة تعرضت لمحاولة اغتصاب من ابن عمها، واصفة تفاصيل القصة، وكيف خلق ذلك بداخلها خوفاً شديداً تجاه الرجال في عائلتها، استمر معها سنوات طويلة، لم تقدر خلالها الإفصاح عن الحادث المؤلم لأي أحد، وتقول منهية المونولوج، إن كل عائلة تحظي للأسف بنصيبها من الآباء، أولاد العم، أو الأعمام، لا يختلفون كثيرا عن ابن عمها. أما في «قلعت الحجاب»، فتتطرق المسرحية لقصة فتاة ارتدت الحجاب في بادئ الأمر خشية عقاب الله، ولكنها قررت خلعه لاحقاً، وعند خلعه، رفض صاحب الكشك التي تمر عليه كل يوم بيع أي شيء لها، بعد أن نصحها بارتدائه مجدداً ورفضت، قائلة إنه قرارها. واتهمتها صديقاتها بالجامعة أنها تحاول إغواء دكتور المادة، الذي ظن الشيء ذاته وأعطاها درجة امتياز! ثم قصت رفض والدها ما أقدمت عليه وخجله منه، حتي أنه يصر علي عدم خروجها معه لزيارة أهله من دونه، فتتظاهر أنها ترتديه أمامهم. وفي اسكتش بعنوان «الزوجة المثالية»، تعطي مها مصطفي وسارة سامي، المتزوجتان، إحدي المقبلات علي الزواج نصائح «ليلة الدُخلة»، فنصحتاها بأنها يجب عليها ألا تحرك ساكناً، وأن تتظاهر بالرعب والجهل التام بما يجري، خوفاً طبعاً من شك الزوج أنها كانت لها علاقات جنسية قبل الزواج، وتنهيان النصائح، بجملة «الزوجة المثالية هي الجثة المثالية!». وفي قصة أخري، أدت إحدي الممثلات دور امرأة متزوجة من 5 سنوات ولكنها عذراء، لضعف زوجها الجنسي. وهذه أيضاً كانت إحدي القصص التي أراد أصحابها مشاركتها مع الجمهور. وبعد ذلك اعتلت المسرح فتاة لابسة النقاب لتجلس علي مقعد لمدة دقيقة في صمت. تاركة للجمهور أن يفهم من ذلك ما يريد. فالنقاب الكاشف لعينيها فقط، يروي الكثير من دون حاجة إلي كلمات. - تأثير علاجي سندس شبايك التي أخرجت العرض بالاشتراك مع مني الشيمي التي مثلت أيضاً في العرض، تري أن الإفصاح عن الممارسات والعادات الخاطئة في المجتمع لها تأثير علاجي علي المشاهدين من أصحاب القصص وممن مروا بأمور مماثلة لما عُرض. كما أنها تضع علي عاتقها مسئولية توصيل الرسالة كما هي، دون أن تمزج بها آراءها ومعتقداتها الشخصية. - الرقابة يوم الخميس الماضي وقبل العرض بساعات اتصل عماد أبو غازي، أمين عام المجلس الأعلي للثقافة، والرجل الذي شجع الفكرة منذ البداية، بشبايك، المخرجة، طالباً منها الحضور فوراً لوجود كارثة! وعند وصولها، شرح لها، أنه تم الاعتراض والشكوي من قبل عدد من الصحفيين علي محتوي المسرحية، وأن عليها حذف بعض المونولوجات والاسكتشات، وإلا ألغيت المسرحية!. بعد ذلك، دخلت شبايك مع القائمين علي المجلس الأعلي للثقافة في جدال حاد، حاولت أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من العرض. ولكنها نهايةً، اضطرت للتخلي عن نصفه! أما ما تم حذفه فكان الآتي: مونولوج «نصائح ما قبل الزواج»، ومونولوج «هل تريدين أطفال؟» لأنه يتصدي لزني المحارم، وهو أحد التابوهات. بالإضافة إلي «بوسة»، و«بنات للإيجار» و«الزوجة العذراء» أي كل المناطق الساخنة والصادقة في المسرحية.الغريب هو حذف مونولوج «قلعت الحجاب»، مدعين أن فيه ازدراءً للأديان، ومهددين الممثلات أنه إن تم عرضه، ربما ترفع دعاوي ضدهن! بالإضافة إلي حذف مونولوج «علامة استفهام» الذي أدان المسميات التي يعطيها المجتمع للفتيات، دون إبداء أسباب. «عماد أبوغازي»، قال لنا إنه مع الوضوح والمكاشفة، وأن واقعنا يحدث فيه أكثر من ذلك بكثير. ولكنه اضطر أن يطلب من المخرجة حذف المشاهد التي لم تتم الموافقة عليها من قبل الرقابة. كما قال «إننا نعيش في مجتمع تغلب عليه الأجواء المحافظة». وأضاف إنه بجانب من اعترضوا علي العرض وطلبوا وقفه، كان هناك من أعجبوا به جداً وطلبوا مده لأسبوع! وعندما سألته عن مونولوج «قلعت الحجاب»، والذي وافقت عليه الرقابة، قال إن بعض العبارات به كانت مرفوضة رقابياً ولذا اضطر لمنعه. كما أشار إلي أن هذا المونولوج خاصةً كان الأكثر إثارةً للجدل، وأنه حظي بالنصيب الأكبر من هجوم بعض الحاضرين الذين اعترضوا علي العرض. - في «فينالة» يوم الخميس، اعتلت زينب مجدي خشبة المسرح مرة أخري ولكنها قالت هذه المرة «هاكتمها، هاخرسها، هاكبتها، هاحبسها....» وصعد الممثلون مكممين أنفسهم بأيديهم في صمت، لتنتهي بذلك مسرحية «متبصيش!».