لا أنكر حماسى الشديد لمصر وإيمانى بأن مكانها فى القمة وموقعها فى الصدارة، وأن من لا يعترف بأفضالها على البشرية جاهل أو مكابر، ولكن حبى لبلادى لا يصل إلى حد "الشوفينية" المقيتة التى تنطبق مع قول الشاعر وعين الحب عن كل عيب كليلة، وعين البغض تبدى المساوئ. وقد دفعتنى الأحداث الأخيرة التى أحاطت بمباراتى مصر والجزائر فى القاهرةوالخرطوم إلى التساؤل: هل بدأت الشوفينية (لجماعة أو حزب أو بلد.. إلخ) تتفشى بين الشعوب العربية..؟ هل أصبنا بالتعصب الأعمى الذى أصيب به الشعب الألمانى إبان حكم النازى، ومن قبلهم الشعب الإنجليزى يوم أن كانت بلادهم إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس..؟! والسؤال التالى: هل تستحق مصر أن نكون متعصبين لها إلى أقصى حد؟ الإجابة نعم وبالتأكيد.. ولكن! التعصب الأعمى (الشوفينية) ليس بالضرورة وليد الانتماء والولاء وإنما قد يكون تنفيسا عن أشياء أخرى عديدة. أكثرمن تساؤل راودنى وأنا أتابع تلك الهيستيريا التى أصابت كل الأطراف فى برامج التليفزيونات العربية. ما سبب هذا الحماس المبالغ فيه لمباراة كرة قدم معروف مسبقا وبكل تأكيد أنها لن تصل بمن يكسبها إلى الكأس بأى حال من الأحوال. تلك الفرحة الهيستيرية بالفوز العشوائى، ومشاهد الركوع والسجود وبكاء أعضاء المنتخب والأحضان التى تبادلوها مع بعضهم البعض ومع المحيطين بهم فى استاد القاهرة، والتى تكررت بين الجزائريين فى استاد أم درمان.. هل صدق أى من الفريقين فعلا أنه سيفوز بكأس العالم..؟ وإذا كانت الفرحة العارمة لمجرد التأهل لدخول نهائيات الكأس فماذا كنا سنفعل لو فزنا بالكأس فعلا..؟ ولماذا لا نفرح لأى فريق عربى ينال هذا الشرف المتواضع..؟ لماذا لا نتحمس وننتفض غاضبين معترضين أو مؤيدين ويظهر بوضوح تضامننا وتوحدنا إلا فى أمور الكرة.؟ وكيف تواضعت أحلامنا فهبطت إلى مجرد الحلم بالفوز فى مباراة كرة، ولم نعد نحلم بإضافة اختراع أو ابتكار أو نظرية فلسفية أو انتصار عسكرى.. أو الفوز بمكان فى الصفوف الأولى بين أفضل خمسمائة جامعة..؟! أليس حماسنا المفرط لكرة القدم وحدها دون جميع الألعاب الرياضية نوعا من الهروب من مواجهة الواقع بحيث صرنا كمن يدمن لعب القمار رغم خسائره المتكررة وإفلاسه التام..؟ هذه الانتفاضة الصاخبة بعد مأساة الخرطوم لماذا لم يفعلها الشعبان احتجاجا على الوحشية الإسرائيلية فى غزة؟ أو على بناء الجدار الممزق للقرى الفلسطينية؟ أو يوم غزو أمريكا للعراق أو بعد نشر صور وفضائح تعذيب العرب فى سجن جوانتانامو..أو.. وقائمة الامتهان للكرامة الوطنية والقومية والدينية طويلة. دول أخرى حشدت جماهيرها وتجمعت فى مظاهرات ومسيرات فحققت المعجزات مثل التخلص من هيمنة الاتحاد السوفيتى والتحرر من النظام الشيوعى فى دول أوروبا الشرقية. وفى دول أخرى تم التخلص من حكومات فاشلة وفرض قوانين تطالب بها الأغلبية أو تغيير الدستور. هذه هى الوطنية التى نحتاج إليها لا شوفينية التعصب الكروى. وإذا كنا نردد أن مصر هى الأكبر والأقوى والأهم بين الشعوب العربية، وهو أمر لا يمكن إنكاره، فلماذا نسينا أن الفصل الأول لمسلسل التحرش المتبادل بين المنتخبين بدأناه نحن. هل كان لائقا ما فعلناه بالمنتخب الجزائرى فى القاهرة، عندما تحلق بعض المشجعين المصريين طوال الليل حول فندقهم يصرخون ويطبلون ويزمرون حتى يحرموهم من النوم، وفى اليوم التالى قذفنا حافلتهم بالحجارة وجرح ثلاثة من لاعبيهم..؟ لماذا لم نتوقع الانتقام وسافر المشجعون المصريون (وبينهم فنانون وكتاب وإعلاميون كبار) ليهانوا من الغوغاء الجزائريين، دون أن يوفر لهم اتحاد الكرة الحماية والأمن الكافيين؟ وهناك ظاهرة لفتت انتباهى منذ فترة، واستفحلت أثناء الأزمة الأخيرة بين منتخبى مصر والجزائر ومشجعى الفريقين.. تلك هى ديماجوجية مذيعى ومذيعات برامج الحوار المسائية (المباشرة) الذين تحول كل منهم إلى زعيم سياسى ومصلح اجتماعى وواعظ دينى ينفرد بالشاشة الصغيرة كل مساء مصوبا نظراته مباشرة إلى المشاهدين، ثم يقذفهم بأفكاره العبقرية وآرائه الحكيمة كأنه مدرس فى المرحلة الابتدائية يخاطب تلاميذه القابعين فى البيوت، فيهيج مشاعرهم ويثير النعرة الشوفينية لديهم ويوجههم بالريموت كونترول كما فى ألعاب الكومبيوتر الخاصة بالأطفال. تركنا لهم الحبل على الغارب فصالوا وجالوا وحرضوا الشباب على الانتقام وأسكروهم بشراب فاسد ومعلومات خاطئة ورددوا شعارات وعبارات سنتحمل وزرها جميعا. و هنا أتوقف لأحيى مذيع برنامج "90 دقيقة" على قناة المحور معتز الدمرداش الذى أفلت من إغراء جنون العظمة (الميجالومانيا) الذى أصيب به أغلب الحواريين، وقدم عدة حلقات رائعة خاصة تلك التى جمع فيها أصحاب القنوات الفضائية المصرية وأدارها باقتدار، وياليتهم ينفذون ما وعدوا به. وأعتقد بعد كل هذه "الهيصة" التى جرنا إليها إعلاميون غير مسئولين.. علينا أن نعيد النظر فى الجرى وراء سراب المونديال ونعترف أن الوقت قد حان للإقلاع عن تلك العادة الضارة التى أنفقنا عليها المليارات، ولم نجن منها إلا أقل الثمار. المليارات التى أهدرت على المنتخب الوطنى على مدى عامين، وعلى مكافآت اللاعبين، أما كان من الأفضل لو انصرفت إلى تحسين بعض المدارس والمستشفيات والجامعات. ولأن يتقاضى مليون شاب ألف جنيه شهريا خير من أن يكسب لاعب واحد ملايين الجنيهات دون وجه حق. وليكف اتحاد الكرة عن العبث بأحلام اليقظة لدى شباب يائس عاجز عن الحلم ببيت وأسرة وعمل مربح وعلاج ناجع، ويتوقف عن ملاحقة سراب الفوز بالمونديال ويتفرغ فى السنوات العشر القادمة لنشر الرياضة بالمدارس والجامعات واكتشاف المواهب بين الصغار وتدريبهم على أعلى مستوى لتأهيلهم لكل المسابقات الدولية. وأخيرا.. إن الحجر الطائش الذى شرخ علاقة تاريخية وطيدة بين شعبين لم يقذفه الشعب المصرى ولا الشعب الجزائرى، بل حفنة من حرافيش مشجعى الكرة، فهل سيحسم مصير التضامن العربى وعلاقتنا بالأشقاء العرب شراذم من الغوغاء هنا وهناك، يقررون بسلوكياتهم الصبيانية من هو العدو ومن هو الحبيب.؟! إن الرعاع الجزائريين الذين تحرشوا بالإعلاميين والفنانين المصريين فى الخرطوم لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من الشعب الجزائرى الذى نبادل أبطاله ومفكريه وأدباءه وعلماءه كل الاحترام، وهذا لا يمنع البدء فورا فى إجراءات قانونية تعوض العاملين والشركات المصرية فى الجزائر ومصابى عدوان البلطجية فى الخرطوم عما حاق بهم من خسائر مادية ومعنوية. وعلى جامعة الدول العربية أن تفتح تحقيقا فوريا فى الاتهامات المتبادلة بين الجهتين، وتبذل كل الجهود لرأب الصدع قبل أن يستفحل ويتحول إلى ثأر لا نهاية له.