التحية واجبة للأستاذ عبدالله كمال، فمقاله المنشور في العدد الأخير من مجلة روزاليوسف، ويحمل عنوان: ماذا لو حكمنا الآن عمر بن الخطاب؟، يفجر قضية خطيرة تستحق المزيد من الاهتمام والعناية، ليس علي مستوي ما تثيره في أبعاد تتعلق بمنهج قراءة التاريخ والتراث فحسب، بل لأنها أيضاً وفي المقام الأول تستهدف واقعنا المعاصر وما يحيط به من تحديات ولعل أخطر هذه التحديات أن طائفة من الناس قد لاذوا بالماضي وتغنوا به كأنه الجنة والفردوس المفقود، قد يمتد مفهوم الماضي إلي عدة عقود قريبة، فنبكي علي أسعار الأربعينيات وقيم الفن في الخمسينيات وحلاوة كرة القدم في الستينيات، وهذا كله موضع شك ويحتاج إلي مراجعة، وصولاً إلي الماضي السحيق حيث العدالة المطلقة والرفاهية غير المسبوقة، والسلوك المثالي الذي يمارسه بشر من المتطهرين لا يخطئون، ولا تخرج من أفواههم إلا الحكم البليغة، ويتبادلون من الحوارات المتقنة، علي الهواء مباشرة، ما يحتاج من الكاتب المسرحي القدير إلي ساعات من العمل الشاق! مقال عبدالله كمال بمثابة الامتداد لمقولة بالغة الأهمية جاءت في رواية الكرنك لنجيب محفوظ، فبعد الهزيمة القاسية الموجعة في يونيه 1967, فاض الكيل بمن عاصروا عهود ما قبل ثورة يوليو: وما لبثوا أن رجعوا إلي الوراء أكثر وأكثر حتي استقروا في عهد ابن الخطاب والرسول فتنافسوا في نبش الماضي يستخرجون أمجاده يتسلون به عن حاضرهم! رحم الله الأستاذ الفذ، فالمبالغة في الحديث عن أمجاد الماضي ليست إلا وسيلة لإهمال الحاضر، لا حرج علي راغبي التسلي في ممارسة حقهم المشروع دون قيود، لكن الخطورة كلها تكمن في تراكمات هذه التسلية، عندما يتحول الأمر إلي دعاية ملونة، براقة خادعة، لمن يروجون للدولة الدينية، تلك الدولة التي يكفي أن نتأمل ما يحدث حولنا حتي نكفر بها ويزداد اليقين بضرورة مواجهتها والكشف عن مثالبها. دولة دينية علي النمط السوداني تجلد فيها المرأة المحترمة المحتشمة إذا لبست البنطلون!، أم دولة دينية علي الطراز الإيراني حيث تُزور الانتخابات بفجور سافر وتقمع الاحتجاجات والتظاهرات السلمية، ويحكم الولي الفقيه المرجع منفرداً لا حد يراجعه أو يعقب علي آرائه، أم دولة دينية علي غرار إمارة حماس في غزة، وفيها يتحول الضحك بصوت مرتفع إلي جريمة نكراء تستحق المحاكمة، أم دولة دينية علي الطريقة الأفغانية المتميزة، وفيها تحرم طالبان الجلوس علي المقاعد لأن في ذلك الجلوس ما يعني الاستكبار والعلو والوقوع في دائرة الكفر! كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حاكماً عظيماً عادلاً قديراً بمقاييس عصره، ولا شك أن عدالته ستتحول إلي ظلم فادح عند الاحتذاء بالنموذج حرفياً دون مراعاة لتغير الزمان والمكان.. أي منهج يتبعه عمر إذا جاء الآن ليحكمنا، وهل يرضي المواطن العادي بضربات العصا تنهال عليه هكذا دون تمهيد أو نذير؟.. وهل يمكن القبول بفكرة العقوبة البدنية أصلاً؟! هل يطيق عمر أن يتجول مترجلاً في عاصمة مثل القاهرة، علي سبيل المثال، وهي التي تحتاج إلي ساعات طوال لكي نتأمل أهم معالمها بالسيارة؟! الفاروق عمر سيعود فيتأمل ما جد، ويلتزم بالقوانين ويحرص علي تنفيذها، وسيوكل إلي كل متخصص ملفاً يتولاه: العسكري المحترف للدفاع، والشرطي الكفء للأمن، والعالم الاقتصادي لتدبير معاش الناس وتلبية احتياجاتهم بشكل مدروس، وخبراء التربية لوضع المقررات والمناهج، إلي غير ذلك من ملفات. سيعود عمر رضي الله عنه فيركب سيارة يحيطها حراس مدربون، لأن مصلحة الأمة تقتضي ألا يقتله خارجي فيختل النظام وتدب الفوضي، سيعود عمر ليمارس العدل وفق قواعد ومعطيات المرحلة المعاصرة ومتطلباتها، ذلك أن العدالة الحقيقية لا ينبغي أن تكون رهينة بشخص، أو تعبيراً عن اجتهاد فردي، والجوهر الحقيقي للعدالة الآن هو القانون الذي يحكم الجميع، والدستور الذي ينظم العلاقات، والمؤسسات التي ترتقي بنا إلي النضج والحضارة والدولة الحديثة. إلي الذين يرددون شعارات لا يفقهون ما تعنيه في ظل اختلاف العصر، يحق لنا أن نسأل عما يقولونه إذا أباح ضابط شرطة لنفسه حق أن يفتش بيتاً بلا إذن من النيابة؟! سيقيمون الدنيا ويقعدونها، فضلاً عن بطلان التفتيش وكل ما يترتب عليه، الأنظمة الدينية المجاورة تعطي لأجهزة تابعة لها حقاً لم يمنحه الخليفة العادل لنفسه، فالآمرون بالمعروف يقتحمون المنازل بلا سند ديني أو قانوني، ثم يقولون إنهم يقتدون بالعادلين من الراشدين، فيالهم من كاذبين! أهم ما في مقال عبدالله كمال أنه يدق ناقوس الخطر، وينبه إلي أهمية مراعاة المتغيرات، وضرورة تجنب الأحكام المطلقة الإنشائية، التي تزرع الأوهام والأحلام المستحيلة. فليكن المطلب الأول والأسمي هو الدولة المدنية الخالصة، وليكن العدد الأول هو أنموذج الدولة الدينية المستبدة، وكل حكومة دينية هي بالضرورة مستبدة وغاشمة وجاهلة ومفارقة لروح العصر. تحرير العقل المسلم ضرورة لا غني عنها، ومقدمة لكل إصلاح منشود، ليس بحثاً عن قراءة متزنة للتراث الذي يتحول إلي عبء، بل لمراودة التوازن في حاضر مسكون بالمشاكل، فإذا بطائفة من المضللين يهملونها باللجوء إلي أحلام اليقظة التي تصرفنا عن اليقظة؟