إذا شئت الحق والحقيقة فإن كثيرا مما يقال هو حق يراد به باطل، أما الذي يقال فيقال حول الوثيقة الدستورية التي ملأ الهجوم عليها الدنيا وشغل الناس، والحق أن في الوثيقة ما يستدعي المراجعة والتغيير، أما الباطل فهو أن المواد التي يعترض عليها الإخوان والسلفيون في السر هي مواد مختلفة تماما عن تلك التي يهاجمونها في العلن ! هذه ليست (فزورة) ولا (أحجية)، لكنها حقيقة تطاردك وأنت تبحث في موضوع الوثيقة والهجوم الذي بات يلاحقها، وبالتأكيد فإن في الوثيقة مواد تستحق المراجعة والإلغاء مثل المادتين التاسعة والعاشرة اللتين تكشفان عن رغبة واضحة في مجاملة القوات المسلحة صاحبة السلطة الفعلية علي الأرض الآن. لكن الأكيد أيضا أن فيها نصوصا ناصحة وناصعة تضمن لهذا البلد ألا يتحول إلي لعبة في يد الإخوان والسلفيين أو من يأتي به صندوق الانتخابات وفق ظروف الانتخابات. -- هذه المواد الواضحة والمحترمة هي من وجهة نظري سر الهجوم الضاري الذي يشنه الإخوان والسلفيون علي الوثيقة وأصحابها، وهو هجوم جاراهم فيه بعض اليبراليين ممن يرتبطون مع الإخوان بعلاقة تحالف انتخابي أو ممن يريدون أن يكون بينهم وبين الإخوان دواعي عشم انتخابي. من وجهة نظري المتواضعة وبعد قراءة متأنية للوثيقة الدستورية فإن المادتين التاسعة والعاشرة ليستا سوي قميص عثمان الذي يرفعه الإخوان والسلفيون لإعلان الغضب من الوثيقة وطلب الثأر من واضعها د. علي السلمي، أما المواد التي من شأنها أن تثير غضب الإخوان فعلا وتدفعهم لإثارة كل هذا القدر من الزوابع ومحاولات التشويه ضد الوثيقة وواضعيها فهي بكل تأكيد تلك المواد المحترمة والجديرة بالتأييد والتشجيع التي تنص علي مدنية الدولة، والأهم منها هي تلك المادة الأكثر احتراما والتي تنص علي منع قيام الأحزاب علي أساس ديني، وربما يكون ما أغضب الإخوان والسلفيين هو تلك الإضافة المنصفة التي تقول إن لغير المسلمين الحق في الاحتكام إلي شرائعهم فيما يخص الأحوال الشخصية. -- قراءة الوثيقة تكشف أنها تعرضت لقدر كبير من التشويه، وللأسف فإن المادتين التاسعة والعاشرة منحتا الفرصة لمن يريد للشوشرة علي الوثيقة وشن الحرب عليها، رغم أن النسخة الأولي من الوثيقة والتي تم إعلانها للرأي العام في أواخر شهر أغسطس الماضي لم تكن تحتوي علي هاتين المادتين (10,9) ولا أعرف من هو العبقري الذي نصح باضافة هاتين المادتين اللتين منحتا الفرصة لمعسكر الإخوان والسلفيين لإعلان الحرب علي الوثيقة تحت شعار الحفاظ علي الديمقراطية والحرص علي عدم تغول الجيش علي السلطة التشريعية في حين أن دوافعهم للهجوم علي الوثيقة هي المواد (1 و4) وليس (9 و10) وفي رأيي فإن إعادة طرح الوثيقة دون المادتين (9و10) لن يوقف هجوم الإخوان والسلفيين عليها وكل ما في الأمر أنهم سيتلمسون سببا آخر للهجوم علي الوثيقة أو سيضطرون لإعلان أسباب غضبهم الحقيقية من الوثيقة وأن كان من شأن هذه الخطوة أن يوقف هجوم بعض الشخصيات والقوي المحسوبة علي المعسكر اليبرالي علي الوثيقة المواد التي تعد الأسباب الحقيقية لغضب الإخوان السلفيين علي الوثيقة متعددة وهذا ما يدفعنا لمزيد من التأييد للوثيقة مع التحفظ علي المواد (9 و10) الخاصة بالقوات المسلحة. -- ما يغضب الإخوان والسلفيين أن الوثيقة تنص في مادتها الأولي علي أن جمهورية مصر العربية دولة (مدنية) ديمقراطية تقوم علي (المواطنة) وسيادة القانون بالإضافة لصياغات أخري تنص علي احترام التعددية وكفالة الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون أي تمييز أو تفرقة. -- دون أي تعسف أو لدد في الخصومة فإن هذا النص من شأنه أن يثير ضيق جماعة مثل الإخوان المسلمين مازالت تصر علي حرمان الأقباط والنساء من حق الترشح لرئاسة الجمهورية فضلا عن السلفيين الذين يعتبرون الأقباط والنساء والشيعة كائنات أقل من غيرهم ليس في الحقوق فقط ولكن في الحق في الوجود أساسا حيث أن المواطن الصالح في الفهم السلفي هو المسلم الذكر السني المذهب والسلفي العقيدة وكل ما عدا ذلك فهو كائن ناقص. من المواد التي من المؤكد أنها تثير غضب الإخوان والسلفيين أيضا هي المادة الرابعة وهي مادة (محترمة) بكل المعايير حيث تنص علي أن النظام السياسي للدولة يقوم علي تعدد الأحزاب السياسية وإنشائها بالاخطار شريطة ألا تكون عضويتها علي أساس (ديني) أو جغرافي أو عرقي أو طائفي أو فئوي أو أي مرجعية تتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الوثيقة . -- والحقيقة أنني لو كنت مكان الإخوان والسلفيين لغضبت أشد الغضب من هذه الوثيقة حيث نعلم جميعا أن أحزاباً مثل الحرية والعدالة والنور والفضيلة والأصالة والبناء والتنمية وسائر الأحزاب التي توصف بالإسلامية ليست سوي أحزاب دينية تقوم علي أساس ديني وطائفي حتي وإن لم تنص أوراقها الرسمية علي هذا ونعلم جميعا أن مرجعيات هذه الأحزاب تتعارض مع كثير من الحقوق والحريات الأساسية التي تنص عليها الوثيقة علي الأقل من حيث حرمانها لملايين المصريين المتمثلين في النساء والأقباط من الحق في الممارسة السياسية الكاملة فضلا عن تعارض كثير من أفكارها وأدبياتها مع الحق في حرية العقيدة والتعبير. -- علي أن هذا ليس كل ما في الأمر حيث هناك الجزء الخاص بمعايير تشكيل الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع دستور للبلاد وهي بلا شك نقطة خلافية حيث تريد الوثيقة أن تكون أغلبية الجمعية التأسيسية من خارج البرلمان ومعبرة عن القوي المختلفة الموجودة في المجتمع ويريد الإخوان والسلفيون أن يستأثرالبرلمان القادم والذي يتوقعون فيه الاغلبية بتشكيل الدستور بالكامل في حين تنص الوثيقة أن يكون 80 من أصل مائة عضو من غير أعضاء مجلسي الشعب والشوري وأن يكون منهم مثلا 15 من أعضاء الهيئات القضائية المختلفة. -- ولا أعرف ما الذي يثير غضب الإخوان والسلفيين في أن يكون القضاة ممثلين في الجمعية التأسيسية التي تضع الدستور إذ ليس معقولا أن يحرم القضاة من المشاركة في وضع الدستور لأنهم محرومون من حق الترشح والانتخاب حفاظا علي حيدة القضاء واستقلاليته وينص هذا الجزء أيضا علي أن تضم الجمعية التأسيسية خمسة من أساتذة الجامعات ومثلهم من النقابات العمالية ومثلهم من الفلاحين ومثلهم من اتحاد الجمعيات الأهلية بالإضافة لاتحادات الغرف التجارية والصناعات ورجال الأعمال والمجلس القومي لحقوق الإنسان وممثل واحد عن القوات المسلحة ومثله عن الشرطة فضلا عن الاتحادات الرياضية والطلابية والأزهر والكنيسة والحقيقة أن هذه كلها مؤسسات حيوية وأساسية في المجتمع المصري ولا يمكن حرمان الأزهر والكنيسة مثلا من وجود ممثل لهما في لجنة وضع الدستور لأن شيخ الأزهر لن يخوض انتخابات مجلس الشعب وكذلك بطريرك الكنيسة وليس صحيحا الحجة التي يسوقها الإخوان والسلفيون والتي تقول إن المواقع التي سيتم الاختيار منها هي مواقع مليئة ب(الفلول) حيث أن هذه التهمة تنطبق علي هذه المؤسسات كما تنطبق علي غيرها وربما تحمل الانتخابات للبرلمان قدرا كبر أو كثر من الفلول. -- ويبقي أن الوثيقة نصت علي أن تتكون الجمعية التأسيسية من عشرة من الشخصيات العامة يرشحهم مجلس الوزراء وفي رأيي أن هذه المادة مطاطة ولا تحتوي علي معيار واضح للاختيار وأنه من اللائق إلغاؤها. خلاصة القول إن الوثيقة الدستورية تحتوي علي مزايا وحسنات تفوق سيئاتها بكثير ولكن الإخوان رفعوا قميص عثمان متمثلا في المادتين التاسعة والعاشرة وهما جديرتان بالإلغاء بالفعل لكن هذا لا يعني اهالة التراب علي الوثيقة خاصة ونحن متأكدون أن للإخوان والسلفيين مآرب أخري من الهجوم عليها.