بعيدا عن الشعارات السياسية وصخب التصريحات، يدخل ملف الغاز بين مصر وإسرائيل مرحلة جديدة باتفاقية تجارية ضخمة تستهدف توريد نحو 130 مليار متر مكعب لمصر من حقل ليفياثان. الاتفاقية التى يراها الخبراء ضرورة فنية واقتصادية لسد الفجوة بين الإنتاج المحلى المتراجع والطلب المتزايد، تضع الحكومة المصرية أمام خيار المفاضلة بين استيراد الغاز المسال المكلف، وبين غاز الأنابيب الذى يوفر ما يقرب من 3 مليارات دولار سنويًا.
ووافق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتناهو على صفقة تصدير غاز «تاريخية» بقيمة 35 مليار دولار إلى مصر، وذلك بعد أشهر من المفاوضات المكثفة والضغوط من الحكومة الأمريكية، والآن بات القرار بيد مصر. وانتشر فى وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأسابيع الأخيرة تكهناتٌ واسعة النطاق حول اقتراب نتنياهو، ووزير الطاقة إيلى كوهين من الموافقة على صفقة الغاز الضخمة بين إسرائيل ومصر بقيمة 35 مليار دولار، ولم يُخيّب الوزيران الآمال، إذ أعلنا خلال خطابٍ تليفزيونى مشترك فى 17 ديسمبر أنهما «وافقا على أكبر صفقة غاز فى تاريخ إسرائيل». تسفر الصفقة التى تم التوصل إليها مبدئيًا فى أغسطس، عن توريد 130.9 مليار متر مكعب إضافية من الغاز من حقل ليفياثان الإسرائيلى، الذى تبلغ احتياطياته 22.3 تريليون قدم مكعب إلى مصر، وللموافقة على الصفقة كان لا بد من استيفاء شرطين، أولهما التوصل إلى اتفاق بشأن إنشاء خط أنابيب برى بسعة 600 مليون قدم مكعب يوميًا يربط شبكتى الغاز الإسرائيلية والمصرية عبر بلدة نيتزانا الحدودية، وقد تم الموافقة على ذلك فى أكتوبر الماضى، والآخر تعديل سعر توريد الغاز إلى مصر. وكشف مسؤول بوزارة البترول والثروة المعدنية فى تصريحات خاصة لمجلة روزاليوسف، أن وزارة الطاقة الإسرائيلية كانت تطمح لزيادة سعر المليون وحدة حرارية إلى 8.5 دولار، إلا أن مصر أصرت على زيادة 50 سنتا فقط، ليصبح السعر 7.5 دولار، مشيرًا إلى أنه أفضل بكثير من أسعار الغاز المسال التى تصل إلى 14 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. وقالت وزارة الطاقة الإسرائيلية على موقعها الرسمى، إن الاتفاقية تعكس النفوذ الدولى لمصر، وتُفقد إسرائيل حرية المناورة، حيث سيتم استغلال «الاستقرار الإقليمى» لمنع تل أبيب من قطع الإمدادات نهائيًا. الاتفاقية التى تم توقيعها تحفظ حق مصر فى عدم إنهائها إلا بعد موافقتها، حيث ينص البند الرابع على: استلام جميع الموافقات اللازمة من الجهات المختصة لدى أطراف الاتفاق، واستلام كافة الموافقات التنظيمية المطلوبة لتوريد الكميات الإضافية إلى المشترى، بما فى ذلك- دون حصر- موافقات التصدير، وأى قرارات أو أحكام صادرة لصالح البائعين من الجهات الضريبية المختصة، وذلك بالقدر الذى يكون مطلوبًا قانونًا. كما يلتزم البائعون بالدخول فى الترتيبات التعاقدية اللازمة مع مقدمى خدمات النقل، فيما يتعلق بنقل الكميات الإضافية إلى المشترى، ويلتزم المشترى بالدخول فى الترتيبات التعاقدية اللازمة لنقل الكميات الإضافية عبر خط أنابيب EMG. وفى حال عدم استيفاء الشروط السابقة بحلول 30 سبتمبر 2025، يكون للبائعين الحق، دون التزام، فى تمديد الموعد المشار إليه لمدة إضافية قدرها ثلاثون (30) يومًا. وإذا لم يتم استيفاء الشروط السابقة بنهاية هذه المدة، يكون لكل طرف من الطرفين الحق فى إنهاء هذا التعديل على اتفاقية التصدير، وذلك بموجب إخطار كتابى مسبق. اتفاقية تجارية من جانبه، قال الدكتور محمد فؤاد، الخبير الاقتصادى، إن النقطة الجوهرية التى تُتجاهَل فى النقاش العام، هى أن الاتفاق اتفاق تجارى مباشر مع مطورى الحقول، وليس اتفاقا سياسيًا بين حكومات، والشركات العاملة وفق نظام الامتياز هى صاحبة القرار الاستثمارى والتجارى فيما يتعلق بالتسعير والكميات والتصدير. وأشار إلى أن دور الحكومة هنا تنظيمى بالأساس: منح تصاريح الحفر، واعتماد خطط التنمية، وتنظيم التصدير، مع امتلاك حق التعطيل أو التأجيل لأسباب تنظيمية أو أمنية، لكنها ليست شريكًا فى تحديد السعر أو القرار التجارى. هذا الإطار كان واضحا منذ توقيع الاتفاقية الأولى، وتمت الإشارة إليه صراحة فى حينه، قبل أن يعاد طرح الاتفاق اليوم، كأنه تفاوض سياسى بين دول. وأضاف أن الرؤية المنطقية للاتفاقية تبدأ من واقع سوق الغاز فى مصر، فالإنتاج المحلى يدور حاليًا حول 4.1 مليار قدم مكعب يوميًا، بينما يتجاوز الطلب الفعلى خصوصا فى قطاع الكهرباء والصناعة هذا المستوى بفارق كبير، ما يفرض إجمالى إمدادات فى حدود 7.5 مليار قدم مكعب يوميًا، خاصة فى ذروة الاستهلاك خلال الصيف. وأشار إلى أن تلك الفجوة لا تغلق بالتصريحات، بل بمصادر بديلة، جزء منها عبر استيراد الغاز المسال بطاقة قصوى 2.7 مليار قدم مكعب يوميًا باستخدام وحدات إعادة التغويز (FSRU) بتكلفة مرتفعة تصل إلى نحو 15 دولارًا للمليون وحدة حرارية. وجزء آخر عبر غاز الأنابيب القادم من الشرق، بطاقة حالية تبلغ مليار قدم مكعب يوميًا، وبتكلفة أقل تقترب من 7 دولارات، بينما يظل الإنتاج المحلى هو المصدر الأقل تكلفة عند نحو 4 دولارات. وأوضح الخبير الاقتصادى أن أهمية اتفاقية خطوط غاز الشرق لمصر اقتصاديا لا تتوقف عند الاستقرار التشغيلى فقط، بل تمتد إلى الوفر المالى المباشر، لأن كل مليار قدم مكعب يوميًا تستبدل من الغاز المسال بمتوسط تكلفة 15 دولارًا، إلى غاز أنابيب بتكلفة تقارب 7 دولارات، ما يحقق فرق تكلفة فى حدود 8 دولارات للمليون وحدة حرارية، وعلى هذا الأساس فإن استبدال مليار قدم مكعب يوميًا من الغاز المسال بغاز الأنابيب، يحقق وفرا يقترب من 2.8 إلى 3 مليارات دولار سنويًا وفق الأسعار الحالية. ومع الزيادات التدريجية المخطط لها فى الكميات، يصبح هذا الوفر عنصرًا جوهريًا فى تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات، وليس مجرد تفصيل ثانوى فى النقاش. وحول السؤال المطروح، لماذا لا نستورد من قطر أو الجزائر؟ قال الدكتور محمد فؤاد، إن الأسئلة المتكررة حول سبب عدم التوجه إلى قطر أو الجزائر لاستيراد الغاز، تكشف بدورها خلطًا واضحًا، وأضاف أن الغاز القادم من هذين المصدرين لا يصل إلا فى صورة غاز مسال، محمّلًا بتكاليف التسييل والشحن والتأمين وإعادة التغويز، فضلًا عن محدودية الكميات المتاحة خارج العقود طويلة الأجل بالنسبة للدولتين. فى المقابل فإن غاز الأنابيب يوفر إمدادا أكثر استقرارا وأقل تكلفة، وهو ما يجعل المقارنة الاقتصادية محسومة دون الحاجة إلى شعارات. أما القلق من مخاطر انقطاع الإمداد، فيجب وضعه فى إطاره الفنى الصحيح.. مصر لا تعتمد على هذا الخط (خط أنابيب الشرق) مصدرًا وحيدًا، بل تديره ضمن مزيج متنوع من الإنتاج المحلى والغاز المسال، والمخزون التشغيلى، بما يعنى أن أيّ تعطل محتمل يعنى ارتفاعًا مؤقتا فى التكلفة، لا انقطاعًا فى الإمداد.. هذه مخاطرة تشغيلية محسوبة، وليست رهانًا إستراتيجيًا، لكن الحساب الحقيقى الذى لا يمكن القفز عليه هو سؤال الانتقال من الفائض إلى العجز. قبل سنوات قليلة كانت مصر فى وضع يسمح بالحديث عن فائض تصديرى، ثم وجدت نفسها تدريجيًا أمام فجوة تتطلب استيرادًا مكلفًا، هذا التحول لم يحدث فجأة، ولا يمكن تفسيره فقط بارتفاع الطلب، بل يعكس بالأساس تراجعًا واضحًا فى الإنتاج المحلى، وهو ما تظهره بيانات الإنتاج بوضوح مع اتجاه هبوطى مستمر منذ عام 2021. هنا يصبح السؤال الجوهرى سؤال إدارة لا سياسة: كيف انخفض الإنتاج بهذه الوتيرة دون نقاش عام واضح حول أسباب التراجع؟ أين توقفت الاستثمارات؟ وكيف أُديرت أعمال الصيانة والتنمية؟ وما هى القرارات التى اتخذت- أو لم تتخَذ- فى إدارة الحقول القائمة؟ توريد الغاز إلى مصر بدأ حقل ليفاثان توريد الغاز إلى مصر بعد بدء الإنتاج فى عام 2020، بناءً على اتفاق وقعَ فى عام 2019 لتصدير 60 مليار متر مكعب من الغاز، وهى كمية من المتوقع تسليمها بحلول أوائل الثلاثينيات. وأشارت شركة نيو ميد إنرجى- أحد الشركاء فى حقل ليڤياثان- إلى أنه تمّ توريد 23.5 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر منذ عام 2020 حتى اليوم. وبموجب الصفقة الجديدة، فإن المرحلة الأولى التى ستبدأ خلال العام المقبل، ستزوّد مصر بنحو 20 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى. وعند اكتمال مشروع توسعة حقل ليفياثان، ستبدأ مرحلة أخرى تتضمن توريد ما يصل إلى 110 مليارات متر مكعب إضافية، بعد إنشاء خط أنابيب نقل جديد من إسرائيل إلى مصر. وتجرى حاليا أعمال لتوسعة حقل ليفياثان من 1.2 مليار قدم مكعّب يوميا إلى 1.4 مليار قدم مكعب يوميًا، وسط خطط لزيادة الإنتاج إلى 2.35 مليار قدم مكعب يوميًا، من خلال مد خط تدفُّق رابع. وتعد الصفقة الجديدة توسعة لاتفاقية تصدير سابقة بين البلدين، وقعت فى عام 2019، وشملت حجما يبلغ 60 مليار متر مكعب، أو 4.5 مليار متر مكعب سنويًا. واردات مصر من الغاز تراجعت واردات مصر من الغاز الإسرائيلى خلال أكتوبر الماضى بنسبة 15 %، وبمقدار 123 مليون متر مكعب على أساس شهرى، متأثرة بعمليات الصيانة. وتوضح أرقام حديثة لوحدة أبحاث الطاقة (مقرّها واشنطن)- أن مصر استوردت نحو 700 مليون متر مكعب (797.1 مليون قدم مكعب يوميًا) من الغاز الإسرائيلى خلال شهر أكتوبر، مقابل 823 مليون متر مكعب (968.39 مليون قدم مكعب يوميًا) فى سبتمبر السابق له. ومع ذلك، جاء إجمالى واردات القاهرة من الغاز الإسرائيلى مرتفعا عند 7.68 مليار متر مكعب، ما يعادل متوسط 892 مليون قدم مكعب يوميا خلال المدة من يناير حتى أكتوبر 2025، مقابل 7.55 مليار متر مكعب (874 مليون قدم مكعبة يوميًا) فى المدة نفسها من العام الماضى. وتسببت أعمال صيانة دورية بحقل «تمار» فى تراجع كبير شهدته واردات مصر من الغاز الإسرائيلى، لتسجل خلال شهر أكتوبر الماضى ثالث أقل معدل لها منذ بداية العام، كما توضح الأرقام التالية: - يناير: 939 مليون متر مكعب - فبراير: 732 مليون متر مكعب - مارس: 886 مليون متر مكعب - أبريل: 918 مليون متر مكعب - مايو: 740 مليون متر مكعب - يونيو: 477 مليون متر مكعب - يوليو: 783 مليون متر مكعب - أغسطس: 687 مليون متر مكعب - سبتمبر: 823 مليون متر مكعب - أكتوبر: 700 مليون متر مكعب تشير الأرقام السابقة إلى أن واردات مصر من الغاز الإسرائيلى شهدت تذبذبًا واضحًا خلال 2025 بسبب التوترات الجيوسياسية، ومنها حرب غزة وحرب ال12 يومًا بين إيران وإسرائيل، بالتزامن مع أعمال صيانة دورية نُفِّذت فى الحقول. وعلى أساس سنوى، تراجعت الواردات فى أكتوبر الماضى بمقدار 108 ملايين متر مكعب، عند المقارنة بمستوى واردات الشهر نفسه من العام الماضى البالغ 808 ملايين متر مكعب. وتعدّ الواردات فى يونيو، البالغة 477 مليون متر مكعب، أدنى مستوى منذ أكتوبر 2023، نتيجة انقطاع الغاز بسبب الحرب بين إيران وإسرائيل.
ضياء رشوان : الصفقة تجارية تخضع لقواعد السوق وآليات الاستثمار أكد ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، أنه بشأن ما نُشر وتداولته بعض المنصات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعى عن صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل، فإن الاتفاق محل النقاش هو صفقة تجارية بحتة أُبرمت وفق اعتبارات اقتصادية واستثمارية خالصة، ولا تنطوى على أى أبعاد أو تفاهمات سياسية من أى نوع. وأشار رشوان- فى بيان- إلى أن ما جرى هو تعاقد تجارى يخضع لقواعد السوق وآليات الاستثمار الدولى، بعيدًا عن أى توظيف أو تفسير سياسى. 2