فى مدينة لا تنام، وفى لحظة انتخابية فارقة، خرج اسم بدا غريبًا على المشهد الأمريكى التقليدى، ليصبح العنوان الأبرز: زهران ممدانى، ابن حى كوينز المتواضع، واليسارى ذو الجذور الإفريقية الآسيوية، يكسر احتكار الطبقة البيضاء للمناصب العليا فى نيويورك، ويتوّج عمدة لمدينة نيويورك التى أنجبت دونالد ترامب، الذى وقف بصلابة ضد احتمال فوز ممدانى. فوز ممدانى (36 عامًا) كأصغر حاكم تولى هذا المنصب، لم يكن مجرد استحقاق محلى؛ بل تحوُّل بنيوى فى المزاج الأمريكى، وإشارة إلى أن رياح السياسة قد بدأت تغير اتجاهها بعد أقل من 12 شهرًا من تولى ترامب رئاسة الولاياتالمتحدة، وهو الذى جاء حاملاً شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى». مدينة ترامب تصوت ضده مساء الثلاثاء الماضى، ومع بدء إعلان النتائج، بدا المشهد دراميًا بامتياز، الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى دعا صراحة سكان نيويورك إلى «عدم التصويت للشيوعى ممدانى» مُهددًا بحرمان المدينة من التمويل الفيدرالى حال فوزه، وجد نفسه شاهدًا على إعلان عصيان مدينته لسياساته اليمينية. «ممدانى» قال فى خطاب النصر وسط حشودٍ متحمسة: «لقد فزنا لأن سكان نيويورك قرروا أن تكون مدينتهم مكانًا يستطيعون العيش فيه بكرامة، الحياة الكريمة لا يجب أن تكون حكرًا على القلة المحظوظة؛ بل حقًا تضمنه الحكومة لكل مواطن». بهذه الجملة، وضع عمدة نيويورك الجديد حجر الأساس لخطاب سياسى يعيد العدالة الاجتماعية إلى قلب السياسة الأمريكية، ويُدخل مصطلح «الحياة الكريمة» كمفهوم سياسى يتم تداوله فى الخطاب المحلى، وكان حكرًا على المنظمات الحقوقية. من الهامش إلى السلطة منذ بداية حملته، قدم «ممدانى» أجندة اجتماعية بملامح واضحة: تجميد الإيجارات، جعل وسائل النقل العام مجانية وسريعة، وتوفير رعاية شاملة للأطفال. برنامج بدا لكثيرين «اشتراكيًا مفرطًا» فى بلد يتوجس من الكلمة، لكنه كما يقول الباحث الأمريكى فى معهد «بروكينجز» جيمس دونوفان: «لم يكن مشروعًا يساريًا تقليديًا بقدر ما كان استجابة براجماتية لأزمة المعيشة فى المدن الكبرى». نجح «ممدانى» فى استقطاب الطبقات العاملة والمهاجرين الشباب وأبناء الأقليات العرقية، وهى الشرائح التى شعرت خلال العقد الأخير بأنها بلا تمثيل حقيقى؛ خصوصًا بعد الإغلاق الحكومى الذى طحن الطبقة الفقيرة من الشعب الأمريكى، فضلاً عن الحملات الممنهجة لاعتقال المهاجرين، ونزول قوات الحرس الوطنى فى ولايات ديمقراطية لاعتقال أى متظاهر ضد تلك الحملات. وبهذا التحالف الانتخابى الهجين، تحول «ممدانى» إلى ممثل حركة مدنية متكاملة تتجاوز التصويت، وأقرب لإعادة بناء الهوية الحضرية لمدينة مرهقة من التفاوت الطبقى. الهزيمة الرمزية الهجوم الذى شنه ترامب ضد ممدانى كان الأعنف منذ توليه رئاسة الولاياتالمتحدة؛ إذ كتب على منصته Truth Social : «إذا فاز ممدانى؛ فلن أقدّم أى تمويل لهذه المدينة التى كانت يومًا وطنى الأول، ولن أعطيها أكثر من الحد الأدنى الذى يفرضه القانون». لكن المفارقة أن هذا التهديد عاد على ترامب بنتيجة عكسية؛ فقد اعتبر محللون فى صحيفة «واشنطن بوست» أن لهجته الاستعلائية أعادت تعبئة الناخبين الشباب والديمقراطيين الذين كانوا على حافة اللا مبالاة؛ لتتحول الانتخابات إلى استفتاء ضد ترامب نفسه. يقول الخبير فى العلاقات الأمريكية الداخلية مايكل كوفمان: «ممدانى لم يَهزم خصمه الجمهورى فقط؛ بل هزم أسلوب ترامب فى مخاطبة الناس، لقد أعاد الاعتبار للسياسة كحوار لا كتهديد». غزة فى قلب المعركة بعيدًا عن شعارات الاقتصاد، حمل عمدة نيويورك الجديد ملفًا مثيرًا للجدل، وهو الدفاع عن فلسطين، وممدانى من أوائل السياسيين المحليين الأمريكيين الذين أعلنوا دعمهم العلنى لحركة المقاطعة BDS، واعتبرها وسيلة سلمية للضغط على إسرائيل كى تنهى سياساتها العنصرية فى الأراضى المحتلة. وفى مقابلة إذاعية سابقة رد على منتقديه قائلاً: «أنا أعارض معاداة السامية، تمامًا كما أعارض تبرير الاحتلال، الدفاع عن حقوق الفلسطينيين لا يعنى معاداة اليهود؛ بل يعنى الدفاع عن إنسانيتنا المشتركة». وعندما صرّح فى ذروة العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة «إذا زار نتنياهو نيويورك فسأعمل على تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية»، اشتعل الجدل فى الإعلام الأمريكى. واعتبر التصريح مستفزًا وغير قانونى، لكنه وجد صدًى لدى شرائح واسعة من الناخبين الشباب من كل الفئات؛ خصوصًا أن نيويورك ذات غالبية يهودية. نيويورك.. منصة للمقاومة منذ فوزه، أصبح «ممدانى» عنوانًا لتناقضين كبيرين فى الحياة السياسية الأمريكية، الأول أن اليسار الاجتماعى الجديد أصبح قادرًا على الفوز، لا بالاحتجاج فقط؛ بل بالحكم أيضًا. والثانى أن خطاب ترامب، الذى كان يفترض أنه موجّه للطبقة الأمريكية المحافظة، بدأ يفقد فعاليته فى المدن الكبرى التى تميل للانفتاح الاجتماعى. تقول المحللة السياسية «جيسيكا لويس» فى مجلة Current Affairs: «ما حدث فى نيويورك لا يخص المدينة وحدها، إنه اختبار لمستقبل الديمقراطية الأمريكية، وهل يمكن للمدينة التى أنجبت ترامب أن تنتج ضده مشروعًا مضادًا؟ الإجابة جاءت بنعم مدوية». المشهد الحزبى من الناحية الحزبية، يعد هذا الانتصار مؤشرًا قويًا قبل انتخابات التجديد النصفى للكونجرس، فقد اعتبره قادة الحزب الديمقراطى «اختبارًا ناجحًا للرسائل التقدمية» التى يمكن أن تفتح الطريق أمام استعادة السيطرة على الدوائر المتأرجحة فى ولايات بنسلفانيا وميشيجان وأريزونا. ويقول المحلل فى معهد «بيو للأبحاث»، توماس هانتر: «نصر ممدانى هو نصر على مستويين، تعبئة الفئات المهمشة، وكسر حاجز الخوف من الخطاب اليسارى. لقد أوجد الديمقراطيون فى هذا الفوز دليلاً على أن أفكار العدالة الاقتصادية إذا اقترنت بصدق إنسانى يمكنها أن تنافس حتى فى وجه الشعبوية اليمينية». اتساع الموجة الزرقاء لم يكن فوز زهران ممدانى حدثًا معزولاً؛ بل جاء ضمن موجة ديمقراطية أوسع اجتاحت انتخابات الولاياتالأمريكية هذا العام، لتؤكد أن المزاج العام يميل لكبح اندفاعة اليمين الشعبوى، وإعادة الاعتبار لسياسات العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية؛ حيث أصبح ممدانى أول مسلم وأول شاب من أصل آسيوى عمدة لنيويورك. كما أصبحت أبيجيل سبانبرجر، الديمقراطية، كأول سيدة تتولى منصب حاكم فرجينيا، والنائبة ميكى شيريل أول سيدة ديمقراطية تحكم نيوجيرسى. كذلك ستكون غزالة هاشمى، المتوقع فوزها بمنصب نائب حاكم فرجينيا، أول سيدة مسلمة يتم انتخابها على مستوى الولاية، كما صوّت سكان كاليفورنيا لصالح خطة الديمقراطيين بإعادة رسم الدوائر الانتخابية للكونجرس. يقول المحلل السياسى فى CNN «إريك سوانسون»: «ما رأيناه ليس مجرد سلسلة انتصارات متفرقة؛ بل إعادة تموضع استراتيجى للتيار الديمقراطى داخل ولايات كانت تُعدّ تقليديًا متأرجحة، فوز ممدانى فى نيويورك أعطى دفعة رمزية، لكنّ ما حدث فى ولايات الغرب الأوسط والجنوب أظهر أن هناك رغبة حقيقية فى استعادة التوازن الوطنى». هكذا، شكّل فوز «ممدانى» وأقرانه من الحزب الديمقراطى جزءًا من مشهد انتخابيٍّ أكبر، تتراجع فيه موجة الخوف وتعلو فيه لغة الأمل، لتدخل أمريكا موسمًا سياسيًا جديدًا عنوانه: التغيير ممكن، حتى فى أكثر الأوقات انقسامًا. واشنطن بعد ممدانى فى قراءة أوسع، يعيد فوز ممدانى تعريف معادلة السلطة فى الولاياتالمتحدة. فبينما ينشغل ترامب وأنصاره بشعارات «استعادة أمريكا»، ظهر خطاب جديد يقول «إعادة إنسانية أمريكا». هذا التحول من الخطاب القومى إلى الخطاب الإنسانى هو ما وصفه المحلل جورج فريدمان فى مقالة بمعهد «ستراتفور» ب «التحول من السياسة كسوق إلى السياسة كضمير». وبينما يقترب موعد انتخابات التجديد النصفى؛ فإن هذا الفوز يضع أمام الحزبين سؤالاً مصيريًا: هل لا تزال أمريكا مستعدة لسماع لغة العدالة الاجتماعية فى زمن الانقسام؟ أم أن صعود ممدانى هو ومضةٌ استثنائيةٌ فى لحظة تعب سياسى عام؟ ومَهما تكن الإجابة؛ فإن فوز زهران ممدانى لا يختزل فى انتخابات بلدية، إنه علامة فارقة فى توازن القوَى الثقافى والسياسى داخل الولاياتالمتحدة، لقد انتصر صوت قادم من الهوامش على آلة سياسية ضخمة حشدت ضده رأس الدولة السابق، وإمبراطورية الإعلام اليمينى. فوز ممدانى مشهد يذكر بميلاد قادة من قلب الأزمات، وصوت يذكر الأمريكيين بأن التغيير ليس رفاهية خطابية؛ بل تراكم وعى سياسى يرى الفقراء شركاء لا عبئًا، وفى العدالة التزامًا لا شعارًا.