لا يمكن أن ينكر أحد دور الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى وقف حرب الإبادة التى يشنها الجيش الإسرائيلى على فلسطينيىغزة، بشرا وحيوانا ونباتا وجمادا، لكننا نحتار هل هو وقف نهائى أم مجرد هدنة، والحيرة عادية والشك له جذور نابعة من ألاعيب معتادة من الحكومة الإسرائيلية ولها تاريخ فى المماطلة والتسويف وانتهاك الأعراف والقوانين، يساندها اليمين الدينى المتطرف الذى يحكم قبضته على المزاج العام الإسرائيلي، وتحركه شهوة القوة والتوسع! قد تكون هذه أول مرة منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية يضغط فيها رئيس أمريكى على إسرائيل، ويدس فى فمها «طعاما» لا يقبله العقل السياسى الصهيوني، ويجبرها على بلعه، إذا كانت التصورات الشائعة المعلقة دوما فى سماء العلاقات الأمريكية الإسرائيلية: من يحكم من.. واشنطن أم تل أبيب؟، وهى تساؤلات تبدو عديمة المنطق، فكيف لدولة فى حجم النملة أن تتحكم فى علاقات إمبراطورية عظمى مع دول حليفة وصديقة فى الشرق الأوسط ؟، لكن السؤال له وجاهة أو بروز كالدمل فى جسد الأمة الأمريكية، هو سطوة جماعات الضغط الصهيونية وتأثيرها فى مراكز صناعة القرار الأمريكي؟، الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، مؤسسات الإعلام المرئى والمقروء والمسموع، صناعة الترفيه: الموسيقى والغناء والسينما والمسرح والدراما، والأخطر فى البنتاجون ولهذه الجماعات اتصالات عميقة ذات مصالح مع كبار القادة فى المؤسسة العسكرية الأمريكية، وبالتالى لها دور واضح فمن يصل إلى المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض! ويبدو أن اللوبى الصهيونى (اليهودى والمسيحي) فى واشنطن كان عنصرا فاعلا فى «تعديل» موقف دونالد ترامب وإطلاق يده فى الضغط على بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل ليبتلع خطة إنهاء الحرب فى غزة، على عكس رغبته التى أعلنها فى تصريحات وحوارات ومواقف طيلة عامين، وبالطبع كان وراء الاستقبال الحافل لترامب فى الكنيست.. فاللوبى الصهيونى الأمريكى له وجود ملحوظ فى صناعة القرار فى إسرائيل بما يقدمه من دعم هائل لها. وإذا راجعنا بيان منظمة إيباك، أقوى جماعة ضغط إسرائيلى فى واشنطن يمكن أن نفهم «بعضا» من أسباب قبول خطة ترامب «للسلام» فى غزة بسهولة، وبالمناسبة الإعلام الإسرائيلى أكثر واقعية فى تسميتها «خطة ترامب لوقف إطلاق النار». يقول البيان فى سطوره الأولى، وقد صدر يوم 29 سبتمبر، بعد دقائق من إعلان الرئيس ترامب عن خطته للسلام فى غزة، وقبل أن يصدر أى رد فعل من حماس بأربعة أيام: إنها لحظة استثنائية بالنسبة لأمريكا وإسرائيل والعالم، إن الشراكة الدائمة بين الولاياتالمتحدة وحليفتنا إسرائيل على مدى العامين الماضيين مكنت من تحقيق هذا الاختراق الدبلوماسى والتوصل إلى نهاية عادلة للحرب الرهيبة التى بدأتها حماس فى السابع من أكتوبر: تحرير الرهائن، ونزع سلاح حماس، وإزالة الجماعة الإرهابية من السلطة فى غزة، إن اتفاق السلام هذا يخلق فرصة هائلة لبناء مستقبل أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين والشعوب فى مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وتشيد إيباك بالرئيس ترامب وفريقه المفاوض على هذا الإنجاز الهائل وعلى العمل مع إسرائيل للتوسط فى خطة السلام هذه، ونحن نقدر بشدة الوضوح الأخلاقى والدعم الثابت من الأغلبية الساحقة من أعضاء الكونجرس، الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، الذين وقفوا إلى جانب الدولة اليهودية طوال هذه الحرب وضمنوا حصول إسرائيل على الموارد التى تحتاجها لتحقيق أهدافها ضد حماس. ويخيل لى أن ردود أفعال الرئيس الأمريكى على خطته ونجاح مرحلتها الأولى مبالغ فيه جدا، ويتجاوز «حقائق» المشكلة على أرض الواقع، فهو يتحدث كأنه صنع ما لم تقدر عليه آلهة الإغريق فى الأساطير القديمة: هذا هو الخلود إلى الأبد، أحد الأيام العظيمة على الإطلاق فى تاريخ الحضارة، فعلت ما لم يستطع زعيم آخر أن يفعله خلال آلاف السنين من تاريخ الشرق الأوسط فى تأمين سلام دائم»! والعبارة الأخيرة تحديدا التى تتشابه مع عبارة بيان إيباك عن «السلام» لا علاقة لها بالواقع بتاتا، فالسيد ترامب أوقف إطلاق نار، وربما قد ينجح فى إنهاء الحرب فعلا فى غزة، لكنه لم يصنع سلاما حتى الآن، فغزة مجرد جزء من مشكلة أعمق وأكثر تعقيدا، وإنهاء الحرب غير صناعة السلام، بدليل أنه لمدة تزيد على الساعة، وهو يخطب فى الكنيست الإسرائيلى قبل قدومه إلى شرم الشيخ، لم ترد كلمتا «دولة فلسطينية» على لسانه، سواء محتملة أو يمكن أن تقام مستقبلا! ويبدو أن مصر قد انتبهت مبكرا إلى هذه الفجوة بين وقف إطلاق النار وتحقيق السلام، وبحكم تجاربها وتاريخها وإدراكها لأبعاد المعضلة الفلسطينية، وأن غزة بكل الجرائم الإسرائيلية التى ارتكبت فيها مجرد حلقة نار ملتهبة داخل «الدائرة الأصلية»، وإطفاء النيران فى غزة ووقف الإبادة فيها لا يعنى أن السلام حل بالمنطقة، وأن روح الاتفاقات الإبراهيمية بدأت تحوم من جديد حولها، وأتصور أن مصر بمؤتمر شرم الشيخ الذى دعت إليه ما يقرب من 30 دولة وثلاث هيئات عالمية احتفالا بالاتفاق، كانت تصوب التوجه وتعيد رسم الخطوط الصحيحة، وهذه شطارة الدبلوماسية المصرية التى لها تقاليد وخبرات متراكمة، والخارجية المصرية عمرها يزيد على مئتى سنة، وقد تأسست فى عهد الوالى الكبير محمد على باشا فرعا من «ديوان التجارة والأمور الأفرنكية»، ثم صارت نظارة مستقلة فى عام 1878، أى منذ 147 سنة! أولا: كانت مصر تريد أن تقول للعالم إن اتفاق وقف إطلاق النار وخطة ترامب برمتها، هى خطوة مهمة للغاية، فى طريق طويل ينتهى بحل القضية الفلسطينية حلا، يسمح للسلام أن يهبط على منطقة الشرق الأوسط ويسكن فيها ويرفع عنها أكبر قدر من التوترات التقليدية.. وهو حل الدولتين التى وافقت عليه أغلبية دول العالم، واعترفت به. ثانيا: إذا كانت الولاياتالمتحدة تريد دوما أن تعمل وتتحرك خارج النظام العالمي، بصفتها كبيرة هذا النظام، وتستبعد الأممالمتحدة من لعب أى دور فعال فى صراع «الشرق الأوسط» بين العرب وإسرائيل، فإن عقد مؤتمر دولى تحضره 30 دولة وأمين عام الأممالمتحدة ورئيس المجلس الأوروبى وأمين عام جامعة الدول العربية، فهو بمثابة «أمم متحدة» مصغرة، شاهدة على الاتفاق وضامنة لتنفيذه، كمرحلة من خطة سلام تتجاوز غزة إلى حل الدولتين! كان من المستحيل أن يأتى نتنياهو إلى شرم الشيخ، فهو بطبعه وشخصيته وأفكاره ومصالحه معاد للسلام، ويعتقد أن الدولة الفلسطينية مهما تعهدت بنبذ العنف، والعيش فى سلام مع إسرائيل هى خطر وجودى لا يمكن التسامح معه، فما بالك بقبوله؟، وبالقطع كان يعرف أن كلمات من عينة فلسطين، الدولة الفلسطنية، حل الدولتين، سوف تتردد كثيرا فى أروقة المؤتمر وكلمات الوفود، ولم يكن يود أيضا أن يكون فى مؤتمر دولى يضم الرئيس الفلسطينى «محمود عباس»، فهو يعتبر وجوده مع أبومازن بمثابة اعتراف ضمنى بالدولة الفلسطينية، ولهذا لم تقبل الولاياتالمتحدة حضور أبومازن الجمعية العامة للأمم المتحدة وسحبت منه التأشيرة، استجابة لرغبة نتنياهو، حتى لا تجمعهما قاعة دولية واحدة. باختصار كانت مصر فى غاية الحنكة والذكاء السياسى وهى تعقد مؤتمر شرم الشيخ، معتمدة على ثقلها الحضاري، ولم تنجح فقط فى لعب «الدور» الأهم فى ردم الهوة بين المفاوضين الإسرائيليين والمفاوضين الفلسطينيين، وإنما رفعت «لافتة «حل الدولتين» بين الحضور وجعلته أمرا لا يمكن الفرار منه مستقبلا. 1713