يبحث كتاب «فى الشعر الجاهلى»، لمؤلفه د.طه حسين، فى لغة الشعر الجاهلى، وعن حقيقة وجود شعراء ما قبل الإسلام مثل امرئ القيس وطرفة بن العبد. وقد اعتبر الكثير من شيوخ الأزهر والأدباء أن قول طه حسين عن انتحال الشعر الجاهلى بمعنى تأليف الأشعار بعد الإسلام ونسبتها إلى الجاهليين هو إنكار لبلاغة العرب، مما يؤدى إلى إنكار الإعجاز القرآنى باعتباره نزل ليتحدى شعراء العرب الجاهليين. وانتحال الشعر الجاهلى بحثَ فيه كثيرون قبل طه حسين، مثل المستشرق ديفيد صمويل مرجليوث (1858-1940م)، وقبلهما محمد بن سلام الجمحى (757-846م)، وقالوا بوجود أدلة تثبت انتحال البعض من الشعر الجاهلى. من الأمثلة أبيات لامرئ القيس: دنت الساعة وانشق القمر من غزال صاد قلبى ونفر مر يوم العيد بى فى زينة فرمانى فتعاطى فعقر بسهام من لحاظ فاتك فر عنى كهشيم المحتظر وأبيات لأمية بن أبى الصّلت: وحوسبوا بالذى لم يحصه أحد منهم وفى مثل ذاك اليوم معتبر فمنهمو فرح راضٍ بمبعثه وآخرون عصوا مأواهم السقر يقول خزانها ما كان عندكمو ألم يكن جاءكم من ربكم نذر ويرى البعض أن القرآن استنسخ آياته من شعر الجاهليين بسبب هذا التشابه، ولكن البعض من دارسى الأدب الجاهلى من المستشرقين ومن العرب قالوا بأن الأشعار التى تشابه آيات القرآن عن شق القمر وعن يوم الحساب هى أشعار منحولة. وأبيات الشعر الجاهلى التى ذكرت التوحيد والأنبياء ويوم الحساب تتناقض مع عدم إيمان الكفار والمشركين بالرسالات الإلهية، كما أنهم رواة الشعر والأشد حرصًا على التشكيك فى الرسالة لم يدعوا بأن القرآن قلد أشعارهم. وفى التراث أن القرآن نزل بلغة العرب، ولذلك يستشهد المفسرون بأبيات الشعر لتوضيح معانى الآيات، باعتبار أن القرآن نزل بلغة قريش وهم أصحاب الفصاحة فى الشعر، مع أن ألفاظ القرآن لا يتم فهمها إلا من خلال آياته ولا تستنبط قواعده إلا من داخله. فالقرآن لم ينزل بنفس الدلالات النسبية والمعانى الاصطلاحية للغة العربية: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) النحل103 ، وإنما نزل بلسان عربى يُعَبر عن الدلالات والمعانى الحقيقية للكلمات. واللسان العربى يعنى القوالب الصوتية المنطوقة، واللسان المبين الواضح الذى يناسب القرآن هو اللسان العربى، وكل الألسن الأخرى أعجميه أى غير مبينة للمعانى التى يريد منا تعالى فهمها، أمّا اللغة فهى صياغة المقاطع الصوتية فى نسق يعبر عن المعانى المتفق عليها بين الناس. فالشعر الجاهلى لسان عربى، والقرآن لسان عربى، يشتركان فى نفس المقاطع الصوتية المنطوقة، ولكن الشعر الجاهلى لغة الشاعر من صياغة الألفاظ والتراكيب بنسق معين هى من قدرات الشاعر تعبر عن معانٍ تم الاصطلاح عليها. أمّا القرآن الكريم فهو كلام الله تعالى، وصياغة الكلمات والتراكيب بنسق معين من الله وبما يناسب قدرته وعلمه المطلق، ولهذا تم وصف القرآن بالمبين. ولذلك؛ فإن القول بأن القران نزل بلغة قريش أو بلغة العرب هو قول غير دقيق، فالقرآن نزل بلسانهم ليفهموه: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الدخان 58، ولكنه يستخدم الحروف والكلمات بشكل محكم لا يحتمل التقديم ولا التأخير، ولا يحتمل الإضافة ولا الحذف. والقرآن لا يوجد فيه تطابق لمعانى الكلمات المترادفة مثل أبصر ورأى وشاهد ونظر، ويستخدم الضمائر بطرق مختلفة عن اللغة: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ) التوبة 62، ولو كان الرسول فى الآية يعنى النبى لقال تعالى: «يرضوهما»، ولكن الرسول هنا يعنى القرآن، وجاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله وقرآنه. والقرآن يستخدم الكلمات بمعناها الحقيقى مثل كلمة الحيوان وتعنى الحياة الدائمة: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت 64، وليس بالمعنى الاصطلاحى المتفق عليه لكلمة الحيوان وهو الدابة فى اللغة. كما أن اللغة والشعر بهما الكذب والخطأ والخيال، ولا يمكن للغة وشعر زمن معين أن يصلح التعبير بهما لكل زمان لأن لغة البشر نسبية، أمّا كلام الله فهو صالح لكل زمان ومكان لأنه يعبر بالصدق والصواب والحق. وقد سمى تعالى القرآن حديثًا لأن كلامه يمتلك خاصية التحديث الذاتى للمعانى مع ثبات النص وحركة المحتوى: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الأعراف 185، وبمرور الزمن تزداد معانى الشعر الجاهلى تعقيدًا وغموضًا، وتزداد معانى القرآن فهمًا ووضوحًا. ولذلك فالربط بين الشعر الجاهلى المنحول وبين القرآن باعتبار أنهما استخدما لغة العرب الفصيحة ليس صحيحًا، فالقرآن وحى إلهى لا يصدر عن الهوَى مثل الشعر، ورغم تشابههما فى اللغة والبلاغة يبقى الشعر يخاطب المشاعر والأهواء البشرية، ويبقى القرآن كلام الله يدعونا للعِلم والعقل والتدبر.