بينما بدأ العد التنازلي لاحتفالنا بمئوية مجلة روزاليوسف؛ ننشر في هذه المساحة أجزاء من مذكرات الست صاحبة الدار، التي غامرت في لحظة مهمة بتأسيس مجلة تحمل اسمها، واشتبكت مع كل القضايا الكبيرة في هذا الوطن. لأننا نؤمن أن مذكرات الست «روزا» وتاريخ المجلة ما هو إلا فصل مهم من تاريخ مصر، بالحكايات والتحديات، بالمواقف والأشخاص، تاريخ اختلط فيه الحبر بالحرب. بين أيديكم فصول من مذكرات الست «روزا» التي بدأت نشرها عام 1938 ثم أعاد جمعها في كتاب واحد الكاتب الصحفي رشاد كامل تحت عنوان «مذكراتي الصحفية».. فأهلا بكم في عالم «روزاليوسف».
عقدنا اتفاقًا مع المتعهد على توزيع عدد معين بغير مرتجع. وكان الاتفاق مشجعًا للمحريين على بذل جهودهم فى الحصول على الطريف من الأنباء، والتلطف فى سرد الأخبار، وتدبيج المقالات فاتخذت المجلة طابعًا خاصًا تشيع فيه «خفة الروح» وتتجلى فى معظم صفحاته. وأقبل الجمهور على المجلة، إثر شعوره بخصومتها مع «الأدب العالى»، وارتفع رقم التوزيع من ألفىّ نسخة إلى ثلاثة.. فأربعة.. حتى وصلنا إلى سبعة آلاف نسخة، ولمّا تتجاوز المجلة عددها الثلاثين. وألفت أن أتجول فى أنحاء العاصمة، يوم صدور المجلة، فإذا الباعة ينطلقون بها سراعًا فى الشوارع والميادين هاتفين باسم «روزاليوسف» والجمهور يتخاطفها من الباعة، فلا تمضى ساعات حتى تنفد الأعداد من أيدى الباعة. فكان نجاحًا هائلاً، أشعر بنشوانه كل أسبوع، وكل يوم؛ بل كلما وقع نظرى على نسخة من المجلة، سواء فى البيت أو الشارع.. وبدأت المجلة تثير اهتمام أبناء الطبقة الراقية المثقفة وتتغلغل فى قصورهم وتتداولها أيدى فتياتهم وفتيانهم. وانتقل الاهتمام بالمجلة إلى الدوائر العليا، فكنت ترى الكثيرين من العظماء يحملون المجلة، ويخفونها فى الصحف اليومية، حتى لا يقال عنهم إنهم من المهتمين بمطالعة المجلات الفنية الطويلة اللسان بعض الشىء. وآلمني أن أشعر بهذه الحقيقة، فاعتزمت فيما بينى وبين نفسى أن أكره الجميع على احترام مجلتى، وإعطائها المكانة الأولى بين المجلات. كانت المجلة توزع أسبوعيًا تسعة آلاف نسخة. وعدد كهذا، يباع من مجلة أسبوعية، كان يجب أن يُدر الكسب الوفير ولكن الأمر على العكس تمامًا. فقد كان ثمن الورق مرتفعًا جدًا وكذلك أجر الطبع، فإذا لوحظ أننى كنت لا أدّخر وسعًا فى انتخاب أجود أنواع الورق لمجلتى، كان كسب المجلة بعد بيع هذا العدد الوفير منها لا يوازى شيئًا مذكورًا. وهذا؛ فضلاً عن أن تحرير المجلة بأكمله لم يكن يكلفنى إلا القليل، والقليل هنا هو ما يستهلكه المحررون من القهوة أثناء العمل! على أننى كنت راضية مغتبطة.. أليست مجلتى الآن مسموعة الصوت نابهة الذكر فى أنحاء القطر المصرى وغيره من الأقطار؟! وماذا أبتغى غير هذا؟! لقد كنت قبل أن أصدر مجلتى، لا أعنى بالناحية الأدبية منها قدر عنايتى بالناحية المادية، ولكنى عندما اندمجت فى الصحافة، وتجاهلت الناحية المادية، لم يبقَ أمامى سوى هدف واحد أرمى إليه. هذا الهدف، هو أن أصل بمجلتى إلى ذروة الكمال، فأقدّم من على منبرها إلى بنى وطنى، دروس الحكمة وعِبَر الحوادث. ومن أجل هذا؛ كنت أجاهد وأناضل طيلة الشهر كله، ولا أكاد أخرج بنفقات ما أستهلكه من الأحذية أثناء قيامى بالمشاوير من الإدارة إلى المطبعة ومن المطبعة إلى حفار الكليشيهات، ومنه إلى مراجعة مواد العدد ومراقبة تنظيم الصفحات.. إلخ. وضاق منزلى ذُرعًا بكثرة زُوَار المجلة، تبعًا لكثرة انتشارها، وكان لا بُدّ من استئجار إدارة.. تخفف الضغط عن منزلى، وترحم المحررين غير المأجورين من صعود أربع وتسعين سلمًا بضع مرات فى اليوم الواحد.. وكان استئجار «إدارة جديدة» يُعَد حادثًا خطيرًا له تأثيره فى مالية المجلة التى يقبض عليها الصديق إبراهيم خليل بيد من حديد.. واجتمعنا ثم وضعنا مسألة «الإدارة الجديدة» على بساط البحث.. ولم يطل بنا الحديث؛ فقد تم الاتفاق على استئجار «بدرون» المنزل المقابل لمنزلى، وكان يملكه أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقى بك، وهو نفس المالك للمنزل الذى كنت أقيم فيه أيضًا. وكان البدرون يحتوى على غرفتين متداخلتين، وردهة صغيرة، لا تتسع إلا للقليل من الأثاث وإيجاره مائتا قرش فى الشهر. وللوصول إلى «الإدارة» الجديدة ينبغى أن يهبط المرء أكثر من اثنى عشر سلمًا أو أكثر.. وهكذا انتقلت الإدارة من الارتفاع الشاهق إلى هذه «الهوة السحيقة» كما كان يدعوها أمير الشعراء! على أن اغتباطى بهذه الإدارة المستقلة كان كبيرًا.. فأقبلت أزين جدران «الإدارة» بالورق الملون، وأستوحى كل ما وهبه الله للمرأة من «الذوق» فى تنسيق هذه «الهوة السحيقة» حتى استحالت- بعد مجهود - إلى «إدارة» بحق وحقيق، يرتاح المرء للجلوس فيها، ويطمئن الكاتب على عدم شرود خياله منها! ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى صارت الإدارة، عشًا جميلاً يرتاده كبار رجال الصحافة والفن والشعر والأدب.. وكان أكثر الزائرين ترددًا على الإدارة الأساتذة الأفاضل: محمد توفيق دياب، وعبدالقادر المازنى، وإبراهيم رمزى وغيرهم كثيرون من كتّاب الدرجة الأولى. أمّا كتّاب وأدباء الدرجة الثانية فكانوا أكثر من أن يتناولهم الحصر والعد. وكثيرًا ما كانت تنقلب الإدارة إلى قاعة محاضرات علمية أو فنية أو صحفية، وتشتد المناقشات ويكثر الأخذ والرّد حتى لكأن المكان صورة مصغرة من مجلس النواب! ولم يكن ضيق المكان، وغرابة مدخله، ليثنيان كبار حملة الأقلام والفنانين من الإقبال على زيارته المرة بعد الأخرى. فلقد كان على «النازل» إلى الإدارة إذا كان متوسط القامة، أن يثنى قامته عند اجتياز المدخل، وكان هذا العيب موضع قفش بعض الأدباء، وأذكر أن المرحوم شوقى بك، كان كلما اجتاز المدخل، فاضطر إلى انحناء قامته هتف يقول: - الباب ده علّمنا التواضع يا ست روزا! وكان أخوف ما أخافه، وقت أن يحضر الأستاذ العقاد لزيارتى، فيجد نفسه أمام مشكلة، فإمّا أن يعود أدراجه، وإمّا أن يطوى قامته إلى قسمين ليتسنى له اجتياز الباب. 2 3 4