بينما بدأ العد التنازلي لاحتفالنا بمئوية مجلة روزاليوسف؛ ننشر في هذه المساحة أجزاء من مذكرات الست صاحبة الدار، التي غامرت في لحظة مهمة بتأسيس مجلة تحمل اسمها، واشتبكت مع كل القضايا الكبيرة في هذا الوطن. لأننا نؤمن أن مذكرات الست «روزا» وتاريخ المجلة ما هو إلا فصل مهم من تاريخ مصر، بالحكايات والتحديات، بالمواقف والأشخاص، تاريخ اختلط فيه الحبر بالحرب. بين أيديكم فصول من مذكرات الست «روزا» التي بدأت نشرها عام 1938 ثم أعاد جمعها في كتاب واحد الكاتب الصحفي رشاد كامل تحت عنوان «مذكراتي الصحفية».. فأهلا بكم في عالم «روزاليوسف». أخذت أفكر فى تدبير المال اللازم للعدد الثانى، ولم أستقر على رأى معين؛ بل لم أجد بابًا ألج منه لأحصل على المال، وظللت أقلب وجوه الرأى حتى وصلت إلى الإدارة، وهناك راعهم تجهمى، وما بدا على وجهى من علامات الانفعال.. فالتفوا حولى يسألوننى عمّا حدث لى؛ إذ كانوا جميعًا يجهلون أننى ذهبت إلى «المتعهد».
وما كدت أفضى إليهم بنبأ «النكبة» الداهمة.. حتى أغرقت «الإدارة»- أى إبراهيم خليل- فى الضحك وقال: - طيّب وإيه اللى خلاكى رحتى للمتعهد.. لو قلتى لى كنت وفّرتى المشوار. - ليه بقى!! لأن المتعهد مش ممكن يدفع حتى ولو كان أبوه هو صاحب الجرنان.. عندهم كده! نعمل لهم إيه؟! وهنا ثرت على «الإدارة» وأخذت اتهمها بقِصَر النظر لأنها على الأقل لم توضح لى هذه المسألة من قبل. وبعد أن حمى بيننا وطيس الجدل، تدَخّل أحد الأصدقاء وقال: - بدل الخناقة دى اللى مافيش منها فايدة.. نفكر فى حاجة تنفع! ورأينا أن كلام الزميل فى محله.. فأخذنا نفكر.. نفكر فى سبيل الحصول على «حاجة تنفع»! كانت «الورطة» أشد من أن تحتمل! وزاد فى حرج الموقف، أن الأستاذ زكى طليمات كان قد سافر إلى أوروبا فى بعثة وزارة الأوقاف، ولم ينسَ قبل سفره أن يوصينا خيرًا «بالأدب العالى» والتحليق فى جو الفلسفة، وهذا كل ما استطاع الأستاذ أن يقدمه لنا من المساعدة! وأخيرًا اقترح الأستاذ أحمد حسن، أن نتوجه إلى العظماء من الرجال والسيدات ونحصل منهم، على اشتراكات للمجلة. وللمرة الثانية تفرّقنا فى أنحاء القاهرة للبحث عن الذهب! وأرسلنا بعض اشتراكات مصحوبة بخطابات رقيقة إلى بعض الشخصيات المعروفة، وقد اختتمت بالعبارة المأثورة «يا تلحقونا.. ياماتلحقوناش».. وتمخضت هذه الخطابات على مائتى قرش أرسلتها السيدة هدى شعراوى.. و... الإيصال. ولست أذكر تفاصيل ما عانيناه جميعًا حتى حصلنا على تكاليف العدد الثانى؛ بل يكفى للإلمام بها أن أقول إننا لم نصدر العدد الثانى حتى أخذنا نهنئ بعضنا بعضًا على هذا الانتصار العظيم الذى أحرزناه فى صراعنا.. مع الإفلاس! وصدر العدد الثانى، شبيهًا بالأول فى مواده التى تمتّ إلى «الأدب العالمى» بأوثق الصلات. وكنت أتوقع أن متاعبى قد انتهت، وستأخذ المجلة طريقها فى هدوء.. وما الذى يحول دون هذا وقد صدر منها عددان؛ وليس عليّ إلاّ أن أقبض ثمن العدد الأول فأصدر الثالث، وأقبض ثمن الثانى فأصدر الرابع وهكذا؟! حسبة بسيطة، ليست فى حاجة إلى خبير فى الحساب. فإذا أضيف إلى ما تقدم؛ أن نفقات العدد تقل عن تكاليفه بمقدار خمسة جنيهات حسب تقدير «إبراهيم خليل الإدارة» فقد ضمنت ربحًا مؤكدًا!! هكذا كان يخيل لى، وأغلب الظن أن هذا ما يخيل إلى كل من يتصدى لإصدار مجلة تحدوه الآمال، فى الربح المبنى على أمثال هذه العملية الحسابية! ولكنى فوجئت بما هدم صرح هذه الآمال!! وكانت مفاجآة لم تكن فى حسابى ولا فى حساب أحد زملائى!! فقد هبط عدد النسخ المباعة هبوطًا يوجب الأسف وبدأ الهبوط التدريجى ابتداءً من العدد الثانى.. فلم نكد نصل إلى العدد السابع حتى كان المباع منه لا يزيد على خمسمائة نسخة لا غير!! ومعنى هذا أن المجلة قد قضى عليها، ولم يبقَ إلا أن نترحم على ما بذلناه من جهد ومال. ودعوت لعقد مؤتمر خطير؛ لتقرير مصير المجلة، بعد أن انكمشت فى السوق فلم يعد ما يباع منها يفى بثمن «المشاوير» اللازمة من وإلى المطبعة. وكنت قد عنيت بسؤال طائفة من القراء عن ملاحظاتهم على مواضيع المجلة، فأدهشنى أن تكون الآراء مجمعة، على الشكوى من «الأدب العالى» والمواضيع الثقافية وغيرها. فرحت أسخط على ذلك الأدب العالى.. وعلى من يناصرونه! وعندما اجتمع «المؤتمر» وأخذنا فى تبادل الآراء لتقرير المصير، وإنقاذ المجلة من وهدة «الأدب العالى» رأيت أن الأستاذ التابعى، يشاطرنى هذا الرأى، فراح ينحى على «الأدب العالى» باللائمة، ويقول إن سبب بوار المجلة إنما تعود مسئوليته على الفلاسفة من أنصار هذا اللون البغيض من الأدب.. وإن الجمهور يريد غذاء يهضمه، وخير الغذاء هو الفكاهة التى تشيع فى المواضيع والأخبار، والأنباء الطريفة التى تبعث بالابتسام إلى الشفاه. ووافقنا جميعًا على هذه الآراء، التى جاءت متأخرة بطبيعة الحال.. وكان علينا بعد الوصول إلى هذه النتيجة، أن نبحث عن المال اللازم لإخراج المجلة فى ثوبها الجديد. ولكن كيف السبيل إلى الحصول على نفقات العدد؟! هنا تضاءلت العبقرية من رؤوس الزملاء وحلت مكانها الأفكار السخيفة الركيكة، التى لا طائل تحتها. وإذا بِوَحْى جديد يهبط على أم رأس الصديق الأستاذ «عزى» فهتف يقول عندى اقتراح كويس يا جماعة!! فأحدقت الأنظار بهذا العبقرى الفذ، الذى راح يقول فى هدوء: - إحنا مش طلّعنا لغاية دلوقت سبعة أعداد؟! - أيوه.. - طيّب مهو كفاية كده.. وتخلى سَنة المجلة سبعة أعداد.. والسنة الجاية نطلع زيهم!! وعلى الرغم من أن الموقف كان موقفًا دراماتيكيًا.. فلم يسع الزملاء إلا الضحك. أمّا أنا فقد توسّمت فى هذا التهكم المرير دسيسة تحاك حولى، يراد منها اختفاء المجلة من الوجود، فامتلأت حنقًا، وثارت أعصابى فامتدت يدى لتنتقم من صاحب الاقتراح بنزع «فروة رأسه»، ولكن يدى ارتدت صفرًا؛ إذ كانت رأسه ملساء.. قاحلة لا نبات فيها!! ورأى «إبراهيم خليل الإدارة» شدة انفعالى فراح يقول أنه على استعداد لدفع نفقات العدد الثامن.. فعلى المحررين أن يباشروا عملهم! ولم أصدق بادئ الأمر، لكنه كان جادًا لأنه كان يضمر أمرًا فى نفسه لم يبح به!! وشمر المحررون عن ساجد الجد والنشاط وراحوا يجهزون مواضيعهم بعد استبعاد الأدب العالى من الحساب!! وقبيل صدور العدد بيوم واحد كنت أمام مفاجأة كدت أصعق لها!! فقد خرج الباعة وهم يملأون الشوارع بصيحاتهم: - روزاليوسف بتعريفة.. روزاليوسف.. خمسة بقرش يا روزاليوسف. كاد يغمَى عليّ عندما سمعت هذا النداء ورحت أتحرى الخبر، فعلمت أن الباعة يبيعون «مرتجع» الأعداد القديمة.. وتبيّن أن «إبراهيم خليل الإدارة» باع هذه الكمية للباعة بالأقة؛ ليحصل على جزء كبير من نفقات العدد، وأنه حين تبرع بدفع النفقات، كان يضمر فى نفسه بيع «المرتجع»!! وعدت إلى الإدارة، وأنا أكاد أنفجر لشدة القهر؛ إذ أيقنت من أن المجلة لن تباع بقرش صاغ بعد أن عرضها الباعة بقرش تعريفة! ولم أكد أصل إلى الإدارة حتى غلبتنى دموعى.. فرحت أرفّه بها عن نفسى وطأة القهر والغيظ وكانت ثورتى على «الإدارة» ثورة هائلة نال منها أثاث الإدارة نصيبًا وافرًا!! وخمدت ثورتى أمام صمت «الإدارة» الرهيب؛ لأنها كانت تعلم سلفًا أن أى عذر تتقدم به إليّ، لن يكون إلا سببًا فى زيادة ألمى! ولم يكن الزملاء يتوقعون هذه الثورة فاتجهت جهودهم إلى معالجة أسبابها، ورأى الصديق أحمد حسن أن العلاج الوحيد، هو استرداد النسخ من الباعة، مَهما كلف الأمر. وعلم الباعة بالأمر، فأبوا أن يبيعونا إياها إلا بخمسة مليمات. وكانت النتيجة أننا اشترينا ما باعه «إبراهيم خليل الإدارة» بثلاثة جنيهات بما لا يقل عن ثلاثة عشر جنيهًا، دفع منها الصديق أحمد حسن عشرة جنيهات والباقى تكفل به الباقون! وأدرج هذا المبلغ فى قائمة خسائر المجلة. ولم يطمئن بالى إلاّ بعد أن عدت إلى الإدارة أنا والزميل أحمد حسن ومعنا الأعداد التى استعدناها من الباعة بالثمن الغالى. 1 2