حين نرى عنوانًا ك«الرجل الذى فقد قلبه»، مؤكد أننا سنتهيأ لعمل فنى خارج المألوف، يحمل داخله تجربة شخصية، وصراعا داخليا، وربما لحظة فقدان حقيقية. وهذا ما فعله مروان موسى، ولكن بذكاءٍ شديد، ضمن ألبوم يُعد – بلا مبالغة – الأطول، والأكثر طموحًا فى تاريخ الراب العربى. بين الحفلة والجمهور: الصدمة الكبرى ذهبت مع أصدقائى لحفلة مروان موسى ومروان بابلو «مشروع ميم» على أمل أن نرى تفاعل الجمهور مع هذا الألبوم الضخم. لكن المفاجأة كانت: مروان موسى لم يؤدِ معظم أغاني الألبوم، والجمهور لم يكن متفاعلًا مع أغاني ألبومه الجديد، وهنا كانت الصدمة، وكأن الجمهور لم ينسجم مع الأغنيات والأفكار الجديدة فى «الرجل الذي فقد قلبه».
سردية الألبوم: خمس مراحل من الألم يستلهم موسى عنوان الألبوم من رواية «الرجل الذي فقد ظله» للكاتب فتحي غانم، والتي روت نفس القصة من منظور اجتماعي/سياسي، ولكن بوجهات نظر مختلفة، فقام مروان بإسقاط مشابه ولكن على مستوى وجدانى شخصى، قسّمه إلى خمس مراحل نفسية هى مراحل الحزن: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، ثم التقبّل. لكل مرحلة فى الألبوم لونها الموسيقي وسردها الخاص، ما يجعل منه ليس فقط ألبوماً غنائيًا، بل عملًا روائيًا موسيقيًا متكاملًا.
1- الإنكار: من الطفولة إلى النجومية افتتح موسى الألبوم بمقاطع صوتية من طفولته، في إشارة واضحة إلى جذور الألم. استخدم في أغنية «مارو مشاكل» توليفة موسيقية غربية بكمنجات مصرية، وقدّم عبر «شواف» و«كلميني بليل» و«طيش شباب» انعكاسات حول التزييف الاجتماعي والانفصال عن الذات والأزمات العاطفية. 2- الغضب: من الموال إلى «الزار»
في مرحلة الغضب، تتصاعد الانفعالات، وتخرج الكلمات بأداء أشبه ب«الموال». في أغنية «بائس»، نرى مروان يهاجم واقعه بتوزيع يُشبه طقس الزار، مفعم بالإيقاعات الشرقية. وفي عمله المشترك مع كريم أسامة، يصل الألبوم إلى ذروة المزج بين الشعبي والغربي، بصيغة موزونة تُظهر التآلف اللحني بين الاثنين، في توزيع ديناميكي لا يملّ. «تقاطع» تبدأ بصوت محمد منير، وتُعيد تقديمه بمفهوم «السامبل»، ما يدل على وعى موسيقى حقيقى بثقافة الراب العالمية، حيث يُعاد توظيف الصوت القديم في إطار جديد.
3- المساومة: الانعزال من أجل الحقيقة مروان موسى فى هذه المرحلة يتحدث عن مفاهيم العزلة فى أغانى «ليلة أرق» و«فهمان دنيا»، حيث تبدو العزلة ضرورة لا هروبًا. الاقتباسات من صوت عايدة الأيوبى وتكرار مفردات الطبيعة – سيناء، البحر، السماء – تؤكد على التأمل، بل وتقترب من مفهوم «الخلاء الصوفي» بمعناه الروحى والفنى. «يابا ليه» تكشف عن الهوية المحلية – ابن السبع آبار – وتجمع بين التذكير بالأصول والميل للتجرد من القناع الحضرى المفروض.. «روح بقلبك» تُختتم بعبارة تُلخص فلسفة المرحلة على الطريقة الدينية: «استفتِ قلبك».
4 – الاكتئاب: الكتابة كدفاع «هنا سواد» تفتتح المرحلة بنبرة صريحة، بينما «مين يواسيني يا أماه» مع عفروتو تُظهر الوحدة بعد فقدان الأم. أما «فواتير العتاب»، فهي التراك الأكثر حزنًا، رغم المبالغة فى طريقة عزف الكمنجات بالطابع الحزين. لكن مروان يُعوّض ذلك بغنوة مذهلة تختم المرحلة: «بكتب بحبر الأخطبوط»، جملة كأنها نُحتت بمبضع الألم: الكتابة هنا وسيلة دفاع كما يفعل الأخطبوط عندما يقذف الحبر ليدافع عن نفسه.
5 – التقبل: بين وعى الواقع والسخرية منه بدخول صوت دنيا وائل، ننتقل إلى التسليم. «سمعاك» و«عامل إيه» تناقشان التغيرات الشخصية وتداخل الفن بالسياسة. «ميكافيلى» مع مغنٍ سوداني تُلقي بظلال الواقع العربى، وتشير ضمنًا إلى الانتهازية كأداة للبقاء، بينما «اسأل مجرب» تُنهى الألبوم بسوداوية خفيفة الظل، كأنها تقول: الحياة ستستمر رغم كل شىء. في الختام: هل الألبوم أعظم من جمهوره؟ قدم مروان موسى ألبوماً ناضجًا، إنسانيًا، عالي التقنية، وشديد الخصوصية. لكن الصدمة أن الجمهور – كما رأيت فى الحفل – لم يكن مهيئًا لذلك النضج. ربما لأنه لا يزال ينتظر من الراب أغانى عن «القوة» و«الهيبة»، في حين قدم لهم موسى ألبومًا عن الحزن، والضعف، والتقبل. «مش عايز أعمل أغاني إني جامد طحن» – هكذا قال مروان. والسؤال الآن: هل جمهور الراب مستعد لسماع فنان لا يدّعى الصلابة؟ ربما لا حتى الآن.