يبدو أن ثمة مثقفين عربًا لا يعجبهم «الموقف» الحكيم الذى تتخذه مصر من أعمال الحرب التى ترتكبها جماعة الحوثيين فى جنوبالبحر الأحمر، وتحرم بها مصر من 70 % من إيراداتها الدولارية من قناة السويس، وهى إيرادات فى غاية الحيوية، وغيابها خسارة كبيرة على الاقتصاد المصرى، والأخطر أن هذه الأعمال أوحت إلى الرئيس الأمريكى صاحب الأفكار غير المنطقية بأن يطمع، ويطالب بأن تعبر السفن الأمريكية سواء كانت تجارية أو عسكرية قناة السويس مجانًا. فبلاده هى التى تتصدى للحوثيين عسكريًا بالغارات الجوية والصواريخ الموجهة، كما لو أن الجيش الأمريكى مثل أى قوات مرتزقة يحارب بالأجرة، متجاهلًا أن الولاياتالمتحدة قوة عظمى لها مهام وأدوار فى العالم توجبها هذه القيادة، وإلا فقدت معناها، كما أنها فى الأصل تحارب من أجل الدفاع عن إسرائيل قبل أن تعمل على حماية طرق التجارة العالمية. من هؤلاء الدكتور هيثم الزبيدي، وهو كاتب عراقى يعيش فى لندن، وله اهتمامات ثقافية واسعة، ويكتب فى مجالات متعددة، ونشر مقالًا قبل أيام فى جريدة العرب اللندنية بعنوان مثير جدًا: «انعدام الفعل ليس خيارًا مصريًا أمام مطالب ترامب»، وقال: «ما يجعل الأمر معقدًا وصعبًا على الفهم هو انعدام الخطط المصرية فى مواجهة الحوثى عسكريًا، بجيش يقول عنه أصحابه إنه جيش جبار ومزود بأفضل الأسلحة والمعدات»! عبارات فى منتهى الاستفزاز لمصر، لكن يبدو أن صاحبها، مع فرض حسن النية فى تحريضه ضد الحوثيين وإيران، تجاهل عمدًا طبيعة مصر وتاريخها ودورها الإقليمي، والأهم فهمها لفلسفة «الأمن القومي» واستراتيجيته، بدليل أن قال: لو أن مصر أقدمت مثلًا على الاقتداء بالتاريخ القريب لندها اللدود إسرائيل حين اعتبر إغلاق مصر عبدالناصر مضائق تيران عملًا عسكريًا يبرر الحرب!، أى يريد أن تتصرف مصر مع محيطها العربي، بمنطق إسرائيل، كما لو أن مصر وإسرائيل مجرد بلدين فى منطقة واحدة، وليسا ضدين فى الفلسفة والتاريخ والاهتمامات والمفاهيم، فلم يقدر أن قدرات جيش مصر لا تستخدم ضد أشقائها مهما ارتكبوا من حماقات، وهى قدرات للدفاع عن مصر فى منطقة هى الأكثر اضطرابًا فى العالم، لأن العديد من القوى غربًا وشرقًا تدوس بأقدامها وخططها فى أرضها، ناهيك أن جارها الشرقى مستعمر استيطانى مدعوم عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا من الغرب وعلى رأسه أمريكا! طبعا الحوثيون خطر حقيقى فى مدخل البحر الأحمر، وما يفعلونه فيه عدوان على مصر، حتى لو كان مقصده إسرائيل، وقد يكون مقصودًا، ليس من منفذيه، ولكن ممن يحركونهم ويقفون خلفهم، لعله يورط مصر فى معمعة المعارك الدائرة الآن، كجزء من محاولات توسيع الصراع، تخفيفًا عن الأطراف المباشرة، وخلط الأوراق وإيقاع مزيد من الضعف والوهن على نظام الأمن العربي، بدليل أن أعمال الحوثيين العسكرية ضد إسرائيل هامشية ولا تضعف جرائم الإبادة التى تمارسها فى غزة، وهى أقرب إلى «مساعدة معنوية»، لا تعادل واحدًا على مائه مما يتحمله اليمنيون من تكاليف باهظة فى الأرواح والبنى التحتية! كل هذا تعرفه مصر وتدركه تمام الإدراك، لكن إدراكها لمفهوم الأمن القومى الشامل فى هذه المنطقة المضطربة هو الذى قيدها عن أى رد فعل عسكرى فى هذا الوضع الخاص جدًا، بالقطع لن تعمل على تمزيق المنطقة أكثر مما هى ممزقة، بالرغم من خسائرها الاقتصادية. العرب جميعًا لهم عدو استراتيجي، لكن لا تجمعهم رؤى متشابهة، بل على العكس يتنافسون بشراسة ويتعاونون بخفة على الأدوار والقيمة، وهذا التنافس الشرس أنبت خلافات غبية تنتج حماقات وأضرارًا مباشرة وغير مباشرة، وهى تحاول بقدر طاقتها أن تحاصر هذه الخلافات، حتى لا تسمح لهذا العدو الاستراتيجى بالسيطرة على المنطقة وقيادتها كما تخطط الولاياتالمتحدة. بالتالى لا يعقل أن تتورط مصر أمام مطالب ترامب الخرافية فى «شن الحرب» على الحوثيين، كأنها ترفع عن ترامب عبء الحرب ضد الحوثيين، فتنعدم أسباب طلبه، هذه فرضية غير واقعية ولا تتفق وأسلوب ترامب، فترامب لا يعنيه معقولية تفكيره، وإلا ما فكر فى ضم كندا إلى أمريكا ولا أعلن عن نيته فى احتلال جزيرة جرينلاند الدانماركية، كما أن مصر لم تسأل ترامب أن يتدخل ضد الحوثيين، ليطلب منها ثمن تكاليف حربه! ونحب أن نطمئن الدكتور هيثم أن مصر تملك من الأفكار والحقوق التى لا تجعل انعدام الفعل خيارًا مصريًا أمام مطالب ترامب، وقطعًا ليس منها إعلان الحرب على الحوثيين. وموقف مصر من الحوثيين هو نفس موقفها من حماس، بالرغم من الأضرار الرهيبة التى تسببت فيها حماس لمصر على مدى ال18 سنة الأخيرة، سواء دعمًا للجماعات الإرهابية فى سيناء أو لجماعة الإخوان فى سنوات الاضطراب التى صاحبت ثورة 25 يناير 2011، أو بتداعيات طوفان الأقصى، وقد تجاوزت هذه الخطايا الرهيبة، من أجل غاية أهم، وهى القضية الفلسطينية. ومصر بالرغم من سلامها الرسمى مع إسرائيل، واحترامها له لا يغيب عنها مفهوم الأمن القومى العربي، وسلامها كان اختيارًا ضروريًا إذا جاز التعبير، فالعدو الإسرائيلى مجرد «واجهة» لصراع أكبر، لا تستطيع مصر أن تتحمله بمفردها اقتصاديًا وعسكريًا واجتماعيًا إلى أن يأذن الله بحله، وفى الوقت نفسه تحافظ على جيشها قويًا مستعدًا بكل ما فى العصر من إمكانات، لأن العدو الإسرائيلى لا يخفى أطماعه، فقط يتحين الفرصة والظروف المواتية، ولهذا عدّل من تكتيكاته مؤقتًا من المواجهة إلى الاحتواء والتمدد «السلمي» إلى خلايا ومراكز التأثير العربية، وهو الذى اخترع مصطلح «الشرق الأوسط الجديد»، تحديدًا على لسان شيمون بيريز السياسى الإسرائيلي، الداهية، الذى سجله فى كتاب بنفس العنوان أصدر عام 1993، ويقترح فيه شرق أوسط ينبذ الحرب ويرتمى سلامًا فى حضن إسرائيل ويفتح لها خزائنه وحصونه، لتحقيق تنمية المنطقة وازدهارها. وقد حدث أن رجل أعمال مصريًا دُعى إلى عاصمة عربية فى عام 1987، وفوجئ بوجود شيمون بيريز على رأس الطاولة ضيفا شرفيا فى حفل عشاء أعد خصيصًا له، واعتذر له المضيفون عن المفاجأة وقالوا له: أنتم تطبعون معهم ما الذى يمنع أن نستضيفه؟، فرد بسؤال: ولماذا تستضيفونه سرًا؟ وتحدث بيريز عن الشرق الأوسط الذى تحلم به إسرائيل، وبدأت تتمدد خيوطه ببطء، حتى أسس له دونالد ترامب فى ولايته الأولى ديانة جديدة هى «الإبراهيمية»، فأصبحت كلمة السر إلى «مغارة» العرب: ذهب وياقوت ومرجان .. أحمدك يارب. المدهش أن إسرائيل لا تخفى أطماعها التوسعية فى بناء مملكة إسرائيل الكبرى أو مملكة داود، مستندة إلى أساطير قديمة، لا تقف عند حدود المسجد الأقصى ونهر النيل والفرات وبعضًا من سوريا، وإنما تمتد أيضًا إلى الأماكن المقدسة فى مكة ويثرب، وقد سجلها المؤرخ اليهودى دينيس آفى لبيكين، فى كتابه «العودة إلى مكة»، وقال إن بنى إسرائيل استوطنوا قديمًا شبه جزيرة العرب، وأن التيه الذى عانوا منه كان هناك، وأن الجبل الذى كلم الله موسى فيه، ليس جبل الطور فى سيناء وإنما هو جبل اللوز فى تبوك بالسعودية، ومن حق اليهود العودة إلى مكة ويثرب أيضًا! هل عرفت يا دكتور هيثم لماذا لا تضرب مصر الحوثيين؟ 1