يقف المرء كثيرًا عند حدود علاقته بوطنه، يتململ أحيانًا، ويصيبه الضجر، قد يبدو حادًا فى تقييماته أو يظهر الغضب منه أحيانًا أخرى. لكنه يُدرك دومًا أن أعظم الروابط وأمتنها دومًا، هى تلك التى تربطه به، فتتحول مشاعر الضيق والغضب والتململ -التى هى بالطبع كانت مشاعر عارضة موقوتة- إلى وقود يضخ فى شرايينه، فلا يتحمل قولة سوء تمس وطنه الذى يتحول دون مقدمات إلى قضية عرض يتوجب صونه وحمايته. لقد كان من بين أصعب ما يمكن أن يبتلى به المرء هو أن يبتلى فى وطنه، فلا يملك النظر إلى المستقبل وتتحول أحلام أجيال المستقبل إلى محض كوابيس، لا يتأمل معها إلا اليقظة على واقع لا يمت لذعر تلك الكوابيس بصلة. أمضيت 14 يومًا مقسمة بين معبر أرقين الحدودى بين مصر والسودان ومدينة أسوان، حيث كانت تدشن القاهرة الإخبارية مكتبها فى المدينة الواقعة جنوبى مصر. لم يكن خافيًا علىَّ قبل أن أصل عمق الأزمة المركبة فى السودان وانعكاسات كل ما فيها على معايش الناس وحياتهم.. كنت أدرك أن الواصلين إلى هذه النقطة هم المحظوظون الذين توافرت لديهم تيسيرات الانتقال من الخرطوم إلى الحدود المصرية، ومن ثم الدخول إلى مصر. لكن ما هالنى حقيقة أن تجارب هؤلاء القوم كانت أصعب بكثير مما دار فى مخيلتى. عجائز رسمت تجارب السودان على مدار عمره تجاعيد وجوههم، يقاومون بأعينهم أشعة الشمس وهم شاردو الأذهان والأبصار، يمتلئ حديثهم أسى وهم يروون جانبًا من مشاهدات مأساوية تركوها فى شوارع الخرطوم وحواريها. «الواقع صعب شديد..» يقول لى هذه العبارة شيخ سودانى كبير، وهو يصر على أن فاتورة العبث بالأوطان مكلفة، وأن الشرخ فى جدار الوطن يصعب التئامه. التقيت بسياسيين سودانيين كثر من مختلف الطيف السياسية على مدار السنوات الأخيرة.. امتلأت أحاديثهم بأمل التحول إلى سودان يرضونه... لكن مرارة هذه التجربة ضربت هذه الآمال فى مقتل... فلم يعد معسول الكلام حلوًا ولا حديث أهل السياسة مقنعًا. كنا نمضى جل اليوم فى المعبر، فنستنشق هواء الصباح الباكر، ثم تباغتنا أشعة شمس الجنوب الحامية، ثم نلتقط أنفاسنا مع غروب الشمس لتجد مباراة عفوية وقد نظمت بين الأطفال الذين لا يدركون ربما على وجه الدقة خطورة ما يحيق بوطنهم، وأن أحسوا الخطر بحكم ما رأوا بأعينهم عند المغادرة. لكننا وعلى اكتظاظ المعبر بالعابرين أو منتظرى العبور، كنا نراقب من المشاهد التى تدون بمداد من نور فى شأن العلاقة بين الشعبين المصرى والسودانى. صحيح أن تاريخ النبل الحاضر فى سجلات المصريين عبر العصور كبيرة مشهودة.. لكن دفء العلاقة مع أهل السودان له وضعه الخاص. كنا شهودًا على ذلك الموقف الذى اعتذر فيه رجل سودانى لبائع المرطبات والعصائر بعدما نفدت الأموال المصرية، وطلب إرجاع شىء مما اشتراه، فإذا بذلك الشاب البائع يقوم بزيادة العصائر إلى الكيس الذى كان يمسكه الرجل مقبلاً رأسه. لا يشعر السودانيون أنهم أغراب فى مصر.. تقول سيدة سودانية، ولذلك كانت مصر الاختيار الأول وربما الأوحد. لم تكن مشاهد رعاية المصريين للمواطنين السودانيين فى أبوسمبل أو فى أسوان غريبة أو غير مألوفة، البشر والتبسم فى المقابلة قبل فتح البيوت واقتسام كسرة الخبز. لقد كان خطيب الجمعة فى مدينة أسوان وهو يتحدث عن الوطن، كان يذكر المصلين بكرمهم وبإعانتهم لطالبى العون، ثم يقول إذا كان هذا حالكم مع الأغراب، فماذا عن جيراننا وإخواننا من أهل السودان ثم يضع ثناء القرآن على الأنصار.. «يحبون من هاجر إليهم». لقد كان لافتا للغاية ذلك الحرص المصرى «الرسمى» على أن تقتصد فى بياناتها الرسمية حول أعداد السودانيين الواصلين إلى مصر، وكأنه التعفف والبعد عن المن، فبينما كانت آخر البيانات الرسمية تشير إلى أكثر من 14 ألف عابر سودانى، كانت التقديرات الأممية تقول أن السودانيين العابرين شارفوا 55 ألفًا. لم يكن السودان بحاجة إلى ما يزيد معه الإرهاق والمشقة على أهله.. لكنها المحنة التى ستفرز لأهل السودان الغث من السمين، وسينقى معها السودانيون أحبابهم بحق، من أولئك الذين يعطونهم من طرف اللسان حلاوة، ويروغون منهم كما يروغ الثعلب.