فى 28 أكتوبر من عام 1973 وبعد رحلة وسلسلة من المعارك امتدت طوال 84 عامًا أبحرت - وفى رحلة نهائية بلا عودة - سفينة أشهر باحث مصرى عن الحرية وأعظم المبصرين الذى كان يرانا جميعًا وكنا - أيضًا جميعًا - نعجز عن رؤيته.. ابن صعيد مصر الأوسط الشيخ - بحق - طه باشا حسين. ظهر مركز مغاغة إلى النور فى الرابع والعشرين من مارس عام 1890 عندما أصدر الخديو عباس حلمى «دوكريتو» بضم أراضٍ ناحيتى «نموى» و«جزيرة الحجر» أقصى شمال مديرية المنيا وتحويلهما إلى قسم - أى مركز - يحمل اسم مغاغة وهو الاسم الذى كان شائعًا على ألسنة العامة والأهالى وينسبون فيه المكان إلى أقدم العائلات المقيمة بالمنطقة، وهى «بنى مغاغة» أحد فروع قبيلة لوانة الأمازيغية التى أقامت بالمنطقة قبل قرون. عندما ظهر اسم مغاغة إلى الوجود كان عمر عميد المبصرين لا يتجاوز بضعة شهور، فهو من مواليد 15 نوفمبر 1889 بعزبة الكيلو الملاصقة حينذاك لبندر مغاغة والتى تحولت اليوم إلى واحد من أكثر أحياء المدينة ازدحامًا وعشوائية، وهى المنطقة بأكملها التى قررت «روزاليوسف» اليوم أن تستقل آلة الزمن لتعود إليها وترصد تاريخها وأهم ملامح شخصيتها، وأشهر أبنائها وأبرز أحداثها منذ ميلاد العميد حتى غياب شمسه فى أكتوبر 1973.
فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اكتسبت مدينة مغاغة - ومن ثم المركز بأكمله - اكتسبت أهميتها من عدة محاور كان أولها وأهمها وقوع البندر على خط السكك الحديدية القادم من القاهرة حتى أسيوط، ثم ما تلاها من محطات ومدن فيما بعد وتمتعها بوجود محطة هى الأكبر منذ مغادرتك لمحطة الجيزة حتى وصولك إلى محطة المنيا، وكذلك لتلك المساحات الشاسعة التى تعدت الخمسين ألف فدان المنزرعة قطنًا وقصبًا، وما واكب ذلك من تأسيس الخديو إسماعيل لعدد من «فواريق» السكر وعدد أكبر من محالج الأقطان وهو نشاط توسع فيه من بعد إسماعيل عدد من رجال الصناعة والاستثمار من الأجانب والمصريين على حد سواء، وهو ما نتج عنه ما يمكن أن نطلق عليه ثورة صناعية بالمنطقة تلاها بالتبعية ثورات وطفرات اجتماعية وثقافية وتعليمية بنفس القدر والحجم، حيث تواجدت فورًا جالية أجنبية كبيرة ومؤثرة عملت فى مجالات التجارة والسمسرة والخدمات من مقاهٍ ومطاعم ولوكاندات وغيرها من النشاطات الخدمية ذات النكهة الأوروبية، وقد واكب ذلك استقرار بعثتين تبشيريتين بالمنطقة واحدة إنجيلية وأخرى كاثوليكية قامتا بتشييد أقدم مدرستين أجنبيتين شمال الصعيد ضمت إحداهما - لفترات متقطعة - فصولاً لتعليم الفتيات، وكان ذلك فى نفس توقيت إنشاء أول مدرسة ابتدائية أميرية - أى حكومية - بالمركز، ومع كل هذا الزخم الاجتماعى والتعليمى كان لا بُدَّ أن تولد نهضة ترفيهية وفنية وثقافية لافتة للنظر وسابقة للزمن لتفاجئنا فى هذا التوقيت المبكر وقبل ميلاد القرن العشرين وثيقة مفرطة الندرة ننفرد بنشرها على العالم كله لأول مرة تقدم كشفًا فنيًا وثقافيًا مذهلاً. الوثيقة عبارة عن رخصة صادرة فى أبريل 1895 إلى مواطن مصرى اسمه محمود صبرى لإنشاء «تياترو» أى مسرح فى بندر مغاغة وكانت الموافقة مشروطة بالتزام واحد هو التعهد بعدم السماح بممارسة أى نوع من أنواع القمار فى محل التياترو الذى كان وجوده يعنى وجود فرقة مسرحية تؤدى أعمالها عليه، ومهما كانت بساطة هذه الفرقة وتواضع إمكاناتها فهى فى نهاية الأمر تتويج مشرف لوضع بندر مغاغة. ولدينا وثيقة أخرى ورخصة جديدة تخص يونانيًا قبرصيًا حاصلا على الجنسية المصرية، وهو الأمر الذى عرفناه من خلال ما هو مثبت فى الوثيقة ومتعلق بتبعيته الإدارية والقانونية لأن المكتوب أنه تابع للحكومة المحلية - أى الخديوية - وليس لجهة أجنبية أخرى.. صاحب الرخصة اسمه «بنايوتى حاج خورجى»، وقد تحصل على رخصة قهوة بملكه الخاص بشارع المحطة بتاريخ 3 يوليو عام 1907. الرخص التى نعرضها ليست مقصورة على الأجانب، ولكنها تضم المصريين أيضا وفى نشاطات متنوعة ننقل منها هذه المرة رخصة صادرة إلى جزار فى مسقط رأس الدكتور طه حسين وهى عزبة الكيلو عام 1898 ومليئة بالبيانات والتفاصيل اللافتة للنظر وأولها التصنيف نفسه، حيث تحمل عنوان «محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر»، مما يشير إلى نشاط غير اعتيادى أو تقليدى، حيث كان يتم اعتبار محلات الجزارة من الأنشطة التى لها تأثير سلبى نوعًا ما على البيئة، واحتياجها إلى اشتراطات صحية مشددة ومثبت فى الرخصة اسم صاحبها، وهو «على خميس» الساكن بعزبة الكيلو بمغاغة وأيضا اسم صاحب المحل وموقعه وهو دكرورى إبراهيم، وكان موقع المحل «غرب البلد بالشارع العمومى»، ثم يأتى فى النهاية اعتماد مدير المديرية - المحافظ - ممثلاً فى الخاتم الخاص به.
كان مركز مغاغة مسرحًا للعديد من القصص الواقعية التى تحولت إلى جزء من التراث الفنى والفولكلورى المصرى منها ما عاصره الدكتور طه صبيًا على أرض الواقع، ثم سجله فيما بعد فى أحد أعماله الأدبية مثل قصة «هنادى ومهندس الرى» التى أعطاها عنوان «دعاء الكروان»، وعرفتها جموع الشعب المصرى، بل العربى كله، من خلال الفيلم الذى حمل الاسم نفسه وقد جرت أحداث القصة فى قرية «بنى وركان» غرب مغاغة، ومن الجدير بالذكر أن عميد الأدب العربى قد أملى قصته على سكرتيره الخاص باستراحة وزارة المعارف بالمنطقة الأثرية فى «تونة الجبل» التى كان يعشقها وكتب عنها الكثير. من حكايات العشق الخالدة التى شهدتها مغاغة أو إذا شئنا الدقة قلنا إنها كانت شريكًا أساسيًا فيها أحداث قصة حسن ونعيمة، فإذا كانت نعيمة ابنة لقرية «منشأة اليوسفى» التابعة لمركز بنى مزار المجاور فإن حسن المغنواتى هو ابن قرية «بنى واللمس» القريبة من «بنى وركان» غرب مغاغة، ومن المهم هنا التأكيد على أن أحداث القصة حقيقية بنسبة مائة بالمائة، كما خلدها الفيلم الشهير الذى كان البطولة والمشاركة الأولى فى حياة «السندريلا سعاد حسنى» وجسدتها، كما جمع مادتها وكتبها الراحل الخالد جليل البندارى الذى طاف أرجاء القطر المصرى فى أعقاب ثورة يوليو بتكليف من وزارة الإرشاد القومى لجمع تراث مصر المحكى غير المسجل.
امتدادًا للحديث عن الجانب الفنى والثقافى لمغاغة طه حسين، فإنه تجدر الإشارة إلى أن المنطقة كانت مفرخًا للعديد من العائلات المبدعة فى مجالات شتى مثل الشقيقين الدكاترة لويس عوض وأخيه رمسيس وأبناء الشارونى - يعقوب وإخوته - المبدعين بلا حدود فى مجالات الرواية والقصة القصيرة وأدب الأطفال والرسم والفن التشكيلى على وجه العموم والصحافة، والعائلتان - عوض والشارونى - من قرية واحدة هى «شارونة» ومن بندر مغاغة نفسه لدينا الثلاثى الفنى الشقيقات صفية وثريا وليلى حلمى، فالأولى هى صاحبة الكازينو التاريخى الشهير بكوبرى الإنجليز، ثم ميدان الأوبرا والثانية هى الممثلة والمنولوجست الشهيرة والثالثة كانت مطربة متميزة الصوت والأداء، لكنها ومع بداية شهرتها فى مصر قررت الارتباط بفنان عراقى هاجرت معه إلى بلاده، حيث أكملت مسيرتها الفنية هناك. فى مجال الصحافة ومعارك القلم قدمت مغاغة - وحديثنا هنا مقصور على الزمن القديم - قدمت عددًا من الأسماء اللامعة، وتكفى الإشارة إلى أبناء مؤسسة «روزاليوسف» صلاح الدين حافظ ودرية الملطاوى والمفكرة الكبيرة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التى كانت أول فتاة مصرية تحصل على المركز الأول فى نتائج شهادة البكالوريا - الثانوية العامة - وكذلك الدكتور حسن الملطاوى الذى كان يمتلك أكبر وأهم مكتبة خاصة فى صعيد مصر وواحدة من أكبر مكتبات مصر والعالم العربى حيث تضم أكثر من 30٫000 كتاب الجانب الأكبر منها كتب وطبعات نادرة غير متوافرة حتى فى دور الكتب الرسمية. وعلى مستوى القوات المسلحة نكتفى بالإشارة إلى المشير محمد على فهمى قائد سلاح الدفاع الجوى فى حرب أكتوبر المجيدة.