ليست أهميتها فقط أنها المكان الذى شهد مسقط رأسه، بل لأنها أيضا، الموضع الوحيد الذى رأى فيه طه حسين النور، فعندما خطا الطفل «طه حسين على سلامة» المولود فى الخامس عشر من نوفمبر من عام 1889 فى «عزبة الكيلو» بمركز مغاغة محافظة المنيا، أولى خطواته فى سن الرابعة، كان النور فى عينيه قد خبا وما لبث أن انطفأ نهائيا، فلم يعلق بذاكرته البصرية غير مشاهد من العزبة أمام منزلهم. ...................................................................... سياج القصب الممتد إلى ما لا نهاية فى جهة وقناة المياه التى تحده فى الجهة الأخرى والأرانب التى تقفز إلى ما وراءه وحديقة المعلم والكلبان الرابضان أمام بيت العدويين ومنزل سعيد الأعرابى وزوجته «كوابس».. تلك هى حدود عالم الطفل الصغير الذى تلاشت قدرة عينيه على أن ترى النور بعد ذلك!. لكن بجانب ما انطبع فى الذاكرة الواقعية التى أدركها بالعينين قبل أن يهزمهما الرمد ويسلمهما إلى عالم الظلام الأبدى، كان الطفل يعيش عالما آخر مرئيا فى خياله يكمل به ما تحصل عليه من ذكريات عالمه المرئى، كالعفاريت التى تحوم فى أجواء الغرفة عند النوم وخاصة شبح ذاك المارد الرابض فوق رأسه والطفل يتلحف بغطائه، فلا يترك ثغرة صغيرة يمكن أن ينفذ منها. أيضا العالم السفلى القابع تحت الأرض حيث تلوذ به العفاريت هاربة من نور الفجر الذى يتحسسه الطفل طه بأذنيه هذه المرة من أصوات فتيات العزبة وهن يرددن الأغانى «الله يا ليل الله» فى طريقهن لملأ جرارهن بالمياه كعادة يومية ارتبطت بظهور نور الفجر فى الريف المصرى. يعرف الطفل وهو السابع بين فى الترتيب بين إخوته، أن الضوء قد غمر الأرض، فيقفز من فراشه ليبدأ يومه كعفريت آدمى يرتعد من الظلام الذى يعيش فيه ولكنه لا يخشى النور وإن لم يره. هناك أيضا خيالات عن تماسيح فى قناة الماء وأسماك فى جوف إحداها خاتم سليمان الذى طالما حلم الطفل بامتلاكه ليحول أحلامه إلى حقائق ويبدل خوفه أمنا ويشفى عينيه. كان هذا المكان المحدود بقناة المياه من جهة واللانهائية من الجهة الأخرى، هو كل عالم طه حسين فى فترة مبكرة من عمر طفولته، فبمجرد التيقن من إصابته بالعمى الكامل، استسلم أبوه الموظف البسيط بشركة السكر، للقدر وسلك الطريق التقليدى للتصرف فى مثل هذه الحالات التى لا يندر أن تجدها فى الريف والمدن، فقرر أن يعهد بالطفل إلى كتاب الشيخ محمد جاد الرب وهو المؤسسة التعليمية الوحيدة فى العزبة، فمصير الطفل طه لن يختلف عن مصير من سبقوه من المكفوفين بأن يتم تحفيظهم القرآن الكريم وتجويد قراءته، لعله يصبح مقرئا للقرآن أو عالما من علماء الأزهر، فهذا المجال وحده هو الذى يجاور فيه المكفوفون إخوانهم من المبصرين وقد يتفوقون عليهم. رغم ضيق حاله، إلا أن الموظف حسين على سلامة اهتم بتعليم أولاده، فنجد ابنه محمود الفتى النابغ الذى حصل على البكالوريا ثم شرع فى دراسة الطب ولكنه مات فى أثناء تطوعه للعمل فى مكافحة وباء الكوليرا الذى اجتاح مصر فى صيف عام 1902، وكان موته فاجعة مروعة يبكيك حديث صاحب الأيام عنها عندما تقرأها فى الجزء الأول من أيامه. ذكريات هذه المنطقة امتدت لثلاثة عشر عاما من حياة طه حسين قبل أن يرحل عنها مسافرا لطلب العلم فى الجامع الأزهر بعد أن قرر أبوه إرساله إلى القاهرة ليقيم لدى أخيه الأزهرى أحمد. بعدها اختلف عالم طه حسين، فتوارت عزبة الكيلو إلى الخلفيات البعيدة بسياجها القصبى اللانهائى والأرانب المتقافزة والقناة وشاعر الربابة وقصص أبو زيد والكتاب والعفاريت وكوابس ذات الخزام فى أنفها والذى كان يؤذى الطفل عندما تصر على تقبيل وجنتيه. لكن عزبة الكيلو صارت لا تعدو أنها كانت موطن ذكريات لبصيص النور الوحيد فى حياته، غير أن الفتى انشغل عنها برحلة العلم بالقاهرة وضجيج الحياة فيها فى كل المجالات ومنها شق طريقه إلى فرنسا ليدرس فى جامعاتها ويهبط إلى باريس مدينة النور الذى لم يره محسوسا بعينيه إلا فى ذكريات عزبة الكيلو البعيدة. «غربة مكان» لو حسبنا المكان بحدوده العامة، فالعزبة الآن مازالت فى مكانها ولكنها تصبح فى عداد المفقودات عندما فقد خصوصيتها فتلاشت حدود المكان القديم وزحفت إليها المدينة القروية، فتلاطمت مساكنهما، فهدمت وبنيت مرارا حتى صارت البيوت عمائر ذات أدوار لا تقل عن الستة. لم نأت هنا لنرثى مكانا كان يوما مسقط رأس واحد من أعظم كتاب العرب صار اسمه علما فى العالم كله، لن نتباكى على الأطلال، ذلك لأن الأطلال نفسها لم يعد باقيا ولا باكيا منها طلل واحد، فعندما شرع طه حسين فى عامه الأربعين لكتابة «الأيام» كواحدة من عيون الأدب وكنبراس للأدباء فى تسجيل السير الذاتية بأقلام أصحابها أو بغيرها، كانت تلك الملامح الأولية الساذجة للمكان، قد طمرت وهو الذى ذكر ذلك فى صفحات «الأيام» فمن السذاجة أن نعود الآن إلى العزبة لنبحث عن معالم ذكرت عنها قبل ما زاد عن قرن من الزمان. ومن العبث أن نقتفى خطوات الغائبين عن مواطنهم الأولى حتى إذا ما عادوا إليها، تراهم يبكون حزنا إذا ما وجدوها كما تركوها لأنها لم تتغير وهم يبكون أيضا، إذا ما تبدلت معالمها حزنا على ما طرأ عليها من تغيير!. وعندما تلج إلى مدينة مغاغة من مدخلها الحالى على طريق الصعيد الزراعى المكتظ بكل أنواع المركبات، ستجد فور اجتيازك الكوبرى المؤدى إليها على ترعة الإبراهيمية، شارعا عريضا فى مواجهتك يتوسطه تمثال رأس طه حسين يرتفع فوق نصب، وقد تم وضعه حديثا كإعلان عن الاعتزاز بأن مغاغة هى بلده. الشارع العريض اسمه شارع طه حسين ويخترق المدينة إلى جانبها الشرقى وتحت تمثال طه حسين تقف «التريسكلات وهى مركبات صغيرة للنقل» فى موقفها تنتظر أدوارها لتحميل البضائع القادمة والخارجة من المدينة، وعلى بعد أمتار موقف موتوسيكلات تستخدم كوسيلة مواصلات لنقل الأفراد إلى المصالح الحكومية والمحال التجارية وباقى أنحاء المدينة وذكر لنا صاحب موتوسيكل بنوع من الفخر أن المنطقة خالية من التكاتك وراح يعدد من فضائل النقل بالموتوسيكل ماذا عن طه حسين؟! فأشار إلى التمثال بلا اكتراث أهو قدامك!! اقترب سائق تريسكل وقال لنا عزبة الكيلو هناك ماذا تعرف عن طه حسين؟! هو من عزبة الكيلو لكن هنا اسم الشارع طه حسين ومثلما ترى أصبح تمثاله علامة على مواقف التريسكلات والموتوسيكلات والكارو!. لا يبعد مدخل عزبة الكيلو عن التمثال بأكثر من عدة أمتار وهى مكان صغير مزدحم بالمساكن المنشأة حديثا وصارت جزءا من المدينة لا يميزها عنها سوى اسمها القديم. وداخل الشارع الذى ذكروا أن به منزل طه حسين، كانت المحال التجارية تطغى على المشهد أمام محل يقع فى منزل من عدة أدوار حدثنا خالد محمد أحمد، أن الكتاب الذى درس فيه طه حسين يقع فى موضع هذا المبنى الذى خلف مبنى آخر كان مكانه بنى فى مكان الكتاب! وعلى بعد خطوات منه فى مبنى يعترض الشارع، ذكر لنا خالد أمير الرفاعى وهو يجلس فى محل ملابس حريمى بين المعروضات، فقال: «هنا كان منزل طه حسين ولكن هذا المبنى عمره عشرون سنة فقط وتم بناؤه بعد هدم مبنى قديم والمبنى القديم أيضا تم بناؤه فى مكان منزل طه حسين أما عن المنزل نفسه فلا يعرف أحد هنا معالمه وأنا من مواليد 1968 ولم أشاهده ولا بقى فى العزبة من رآه، ربما حفيدة صاحب الكتاب وهى امرأة مسنة ودائما تأتى الصحافة للقائها». يلتقط طرف الحوار محروس محمد خضر فيشير إلى مبنى فى نهاية الشارع هناك أيضا كان منزل ابن بمبة عريف الكتاب ولكن كما ترى لم يبق أى أثر لمبانى العزبة القديمة. وليس عجيبا أن أيا من إخوة طه حسين الأشقاء أو غير الأشقاء (إذ ان والده كان متزوجا وأنجب قبل زواجه من والدة طه حسين وهناك من يقول بأن ترتيبه كان السابع بين أبناء أبيه والخامس من أبناء أمه) لكنهم رحلوا جميعا عن العزبة وفقد أثرهم فيها، فقيل أن منهم من عاد إلى قرية بنى وركان التابعة لمركز العدوة والقريبة من مغاغة أو قرى أخرى كانت تحوى أصول أسرة عميد الأدب، لكن الجميع هنا يؤكدون أن أيا من اثنى عشر أخا وأختا لطه حسين صاروا هم ونسلهم فى عداد المجهولين بالنسبة لعزبة الكيلو ويبررون ذلك بأن أسرة الشيخ حسين لم يكن فيها مزارعون ولا أصحاب أملاك وهو نفسه كان موظفا، فلم يكن لهم أرض أو مصالح ثابتة يمكن أن تربطهم بالمكان، فلم يهتموا بأمر العزبة كما أن العزبة نفسها شهدت حركة معمار كبيرة بعدما التحمت بالكتلة السكنية بالمدينة، فنزح إليها كثيرون وفقدت خصوصيتها القروية كما فقدت المدينة سماتها كذلك، فأصبح تشابه الأماكن هو أساس غربتها!. وهذا صحيح وملموس، فأنت هنا تشعر كأنك فى قلب عشوائيات القاهرة بمبانيها التى ترتفع على جوانب الشوارع الضيقة حتى تكاد تسد السماء، فغربة عزبة الكيلو المعمارية التى أفقدتها شخصيتها، تجسد فى قسوة غربة الريف التى زحف إليها بنفسه أكثر مما زحفت إليه، حتى كاد يتحول وادى النيل ودلتاه إلى تكتلات أسمنتية من العشوائية تتواصل كاللانهائية التى ظنها الطفل طه فى منشأ سياج القصب. وعلى ناصية الشارع وقف شاب فى السابعة والعشرين تقريبا اسمه «على عبد الله» خريج كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، آثر العمل فى محل الفرارجى ولم يستسلم لأوهام شغل الوظيفة الميرى ولم يقبل بالإحباط وهبط إلى سوق العمل الذى لا يهدأ هنا، كان الشاب صريحا فى اعترافه بأنه مقصر فى التعرف الكافى على بلدياته العظيم طه حسين ولكنه قرأ له بعض أعماله. «ما بعد طه» لمحة خجل على وجه الشاب «على» أحيت الرجاء فى إمكانية لعودة ذكرى طه حسين مرة أخرى، فهنا لا يعرفون عن طه حسين إلا انه كان رجلا ذا شأن فى الأدب أو فى الحكومة، لكن عن قضاياه الفكرية والأدبية، فلا مجال للاهتمام. وهناك من اعتز بانتساب العميد إلى المكان ومنهم تلك السيدة السمراء التى تمثل فيها أحد أشكال المرأة فى الريف والحى الشعبى بسمرتها واكتنازها ونبرة صوتها القوية، فقد قالت «أم هاشم»: «طبعا عارفة الدكتور طه حسين كفاية إنه ابن حتتى وأولادى بيقروا له وبيحبوه وكمان أبويا وأمى شافوه لما جاء مرة هنا.. لكن يا خسارة لا نعرف عن باقى أهله أى شيء». أحد السكان بدا على ملامحه أنه يوارى حنقا مع ذكر طه حسين!. وكان الظن أنه قد تأثر بالعميد ولو سلبا، فاتخذ موقفا ما من أفكاره ومواقفه، ولكنه لم يكن قرأ له صفحة واحدة، لكن حنقه بسبب أن طه حسين «ما عملش حاجة للبلد وماخدمش حد»!. لكن الرجل بدا عليه الخجل عندما سمع: طه حسين لم يفعل شيئا وهو الذى جعل التعليم من حق كل مصرى كالماء والهواء وكل من يقرأ ويكتب الآن، لطه جميل فى رقبته!. »هل ظننته عضوا بمجلس محلى المركز ليرصف طريقا أو يستخرج ترخيصا لبناء مخالف، ام تراه نائبا عن الدائرة ليتوسط فى دخول كلية الشرطة ويعين الناس فى المصالح الحكومية؟!». وتسأل عنه فى شوارع العزبة المتشابكة المتشابهة والتى كاد يختنق هواؤها لعدم مناسبة ارتفاعات مبانيها مع عرض شوارعها كان وزير التعليم أخذ جائزة نوبل!! مؤلف وأديب كبير أخذ الدكتوراه من فرنسا كان عمل لنا إيه طه حسين يعني؟! وقال رجل هم بركوب سيارة: هناك من قرأوا وهناك من لم يعرفوا عنه إلا قليلا، ولكن الذين قرأوا لا يخبرون من لا يعرفون بما قرأوه لطه حسين وغير طه حسين!.