كشف تقرير صادر مؤخرا عن صندوق النقد الدولى، عن أن الديون العالمية بلغت نحو 188 تريليون دولار، وأن هذه الديون تشمل الدول المتقدمة والأسواق الناشئة والدول الفقيرة، كما أن هذه الديون لا تقتصر على الحكومات والشركات العامة بل إنها تضم الشركات الخاصة والقطاع الأسرى أيضا، ما يشير إلى أنه لا يوجد أحد فى الكرة الأرضية ليس مثقلا بهذه الديون، دون الإشارة إلى الجهات أو الأفراد الدائنة لكل هؤلاء. وفى هذا التقرير نلقى الضوء على تقسيمة هذه الديون، ونبحث عن الجهات الدائنة التى يجب ألا تخرج عن جهتين وفق أى منطق، وتأتى البنوك والمؤسسات العالمية على رأس هذه الجهات، بينما تأتى العائلات العالمية الكبرى كمتهم ثانٍ، وذلك حسب ما أشارت إليه كثير من التقارير السرية العالمية، والتى زعمت أن تلك العائلات هى من تتحكم فى السياسة الدولية من وراء الستار منذ أمد بعيد، وأنها تقبض على هذه السياسة عبر فخ الديون التى طالما كانت بمثابة الشباك التى توقع بها الحكومات والشعوب على حد سواء. حجم الديون أعلن صندوق النقد الدولى عبر موقعه الرسمى يوم الخميس قبل الماضى، أن إجمالى الدين العالمى (العام والخاص) وصل إلى 188 تريليون دولار فى نهاية عام 2018، بزيادة 3 تريليونات بالمقارنة مع عام 2017، وكشف أن متوسط نسبة الدين العالمى للناتج المحلى الإجمالى (موزون بالناتج المحلى الإجمالى لكل بلد) ارتفع إلى 226 % فى عام 2018، ونوهت مدونة صندوق النقد إلى أنه على الرغم من أن هذه كانت أصغر زيادة سنوية فى نسبة الديون العالمية منذ عام 2004، لكن إلقاء نظرة قريبة على البيانات الخاصة بكل دولة يكشف عن مواطن ضعف متزايدة، الأمر الذى يشير إلى أن عددا من البلدان قد تكون غير مهيأة للانكماش المقبل. وكانت المفاجأة التى ذكرها التقرير أن إجمالى نسبة ديون الصين بلغ 258 % من الناتج المحلى الإجمالى وهو تقريبا نفس معدل الولاياتالمتحدة ويقترب من المتوسط بالنسبة للاقتصادات المتقدمة، التى كانت عند 265 %، ومن المعروف أن الدول المتقدمة هى أكبر الدول ذات مديونية فى العالم، وأن اليابان تعتلى هذا التصنيف كونها الدولة الأكبر دينا فى العالم بعدد سكانها، حيث يبلغ دينها 235 % من الناتج المحلى الإجمالى، فيما تأتى اليونان فى المركز الثانى بدين يصل إلى 191 % من الناتج القومى الإجمالى بتعداد سكان يبلغ 11 مليون نسمة. وبالنسبة للدول العربية، تحتل السودان المركز الثالث فى قائمة الدول المدينة حيث تبلغ ديونها 176 % من ناتجها القومى، فيما تأتى لبنان فى المركز الخامس بعد فنزويلا التى تحل المركز الرابع، بحجم ديون تصل إلى 160 % من الناتج القومى. وكشف تقرير أصدره البنك الدولى أكتوبر الماضى، عن إحصاءات الديون الدولية لعام 2020 أن إجمالى الديون الخارجية للبلدان منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل قفزت بنسبة 5.3 % إلى 7.8 تريليون دولار فى عام 2018، وأن صافى تدفقات الديون (إجمالى المدفوعات مطروحا منها أقساط سداد أصل القروض) من الدائنين الخارجيين هبطت 28 % إلى 529 مليار دولار.
المؤسسات الدولية يظن كثيرون أن صندوق النقد والبنك الدوليين، والمؤسسات التمويلية التابعة لهما، قد تكون هذه الجهات هى من تمتلك النصيب الأكبر من الديون العالمية، لكن الأرقام والميزانيات الخاصة بهذه المؤسسات لا تعكس ذلك تماما، فهذه الجهات تمتلك أموالا محدودة للغاية بمقارنة بحجم الديون العالمية، كما أنه من المعروف أن هذه المؤسسات أنشأت للقيام بمسئوليات دولية متعددة، منها الإقراض، وفى الواقع فهذه المؤسسات غالبا ما تقدم قروضا للدول المنخفضة الدخل فقط، مقابل تنفيذها برامج اقتصادية تشجعها فيها على الاقتراض من الخارج. ولعل الأرقام التى ينشرها صندوق النقد توضح تلك النظرة، فحسب الموقع الرسمى لصندوق النقد الدولى، فإن إجمالى الأموال التى يستطيع الصندوق إقراضها للدول الأعضاء تصل إلى تريليون دولار، فيما تصل المبالغ المرصودة بموجب اتفاقيات الإقراض الحالية 189 مليار دولار، منها 134 ملياردولار لم تسحب بعد. وكانت اليونان وباكستان ومصر أكبر المقترضين من الصندوق، قبل أن يبدء الصندوق فى صرف دفعات أكبر قرض فى تاريخه للأرجنتين فى يونيو الماضى بقيمة تصل ل56.3 مليار دولار، ولا تتعدى فائدة قرض صندوق النقد 2 %، ويصل معدل الفائدة إلى صفر للقروض التى تمنح لدول فقيرة، وغالبا ما يعطى الصندوق فترة سماح لتسديد القروض تصل إلى 3 سنوات. أما البنك الدولى والمؤسسات التابعة له، فتبلغ الديون المستحقة لدى الدول المقترضة نحو 325 ملياردولار حتى 2018، وتأتى الهند وإندونسيا والصين والبرازيل وباكستان وفيتنام والمكسيك وبنجلادش وتركيا على رأس القائمة. نادى باريس يعد نادى باريس أحد الأطراف العالمية المدينة، حيث غالبا ما يتم اللجوء للنادى من جانب الدول الفقيرة لإعادة جدولة الديون أو شطب جزء منها أو إلغائها بالكامل كملاذ أخير قبل التعثر فى السداد، وتشكل نادى باريس من إحدى عشرة دولة متقدمة فى عام 1957، ارتفعت بعدها إلى تسع عشرة دولة، ثم انضمت لهم إسرائيل مؤخرا ليصبح العدد عشرين، وأصبح النادى بجانب صندوق النقد والبنك الدوليين فى عام 1962، بمثابة أداة استراتيجية للدول المتقدمة كى يكون لها قبضة على اقتصاديات الدول منخفضة الدخل. من أبرز تلك الدول: «أسترالياوأمريكا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وآيرلندا وإيطاليا واليابان وروسيا والسويد وسويسرا وبريطانيا وكندا»، وهى عبارة عن الدول الدائنة وأحيانا ينضم لها دول أخرى غير دائمة فى بعض المناسبات. يلتقى أعضاء نادى باريس كل ستة أسابيع فى حى «بيرسى» بباريس، ويترأس هذا الاجتماع الذى يحضره مسؤولون من العشرين دولة مسؤول رفيع المستوى من وزارة المالية الفرنسية. وخلف الأبواب المغلقة، يتم مناقشة العديد من القضايا المالية المتعلقة بالدول المدينة والتى أثقلت الديون كاهلها ربما نتيجة حروب أو صراعات دموية أو أزمات اقتصادية، ويكمن الهدف العام لنادى باريس فى مساعدة الدول المدينة على سداد ديونها والخروج من أزماتها المالية، وتحسين أحوالها الاقتصادية والحيلولة دون إفلاسها. وتتم جدولة ديون تلك الدول من قبل النادى بتوصية ضرورية من صندوق النقد، وبالتالى، لا بد أن تكون الدولة عضوا فى الصندوق وأبرمت اتفاقا معه، وقبل جدولة ديونها بواسطة النادى، ستكون مرت بالعديد من الإجراءات التقشفية وبعض الإصلاحات الأخرى. وعند تقدم دولة مدينة بطلب لجدولة ديونها أو شطب البعض منها كملاذ أخير، يرسل صندوق النقد برنامجه وشروطه التى اتفق عليها مع تلك الدولة لنادى باريس لمراجعتها ومعرفة مدى التزام تلك الدول بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة. ويتم عقد مناقشات بين مسؤولى نادى باريس، ومندوب الدولة المدينة لبحث كيفية الخروج من أزمتها والحيلولة دون إفلاسها، وفى هذه الأثناء، تتم جلسة أشبه باستجواب للدولة المدينة وهنا تكمن قوة الدول الأعضاء، بعد ذلك، يخرج مندوب الدولة المدينة من الاجتماع، وتنعقد جلسة مغلقة على الدول الأعضاء للنادى لبحث كيفية جدولة ديون هذه الدولة وإخراجها من أزمتها ومدى إمكانية شطب ديونها، وبعد التوصل إلى اتفاق مشترك، تبلغ المقترحات للمدينين لبحثها مجددا. ويرى بعض الخبراء أن وجود دولة مدينة فى مناقشات مع نادى باريس أشبه بالخضوع بالنظر إلى كيفية الاستجواب والمفاوضات معها وعرض الشروط والمقترحات عليها.
البنوك العالمية بالنظر إلى الجهات الدائنة السابقة تبين أن تلك الجهات ماهى إلا أدوات تستخدم من جانب الدول المتقدمة لإقراض الدول الفقيرة وأنها لا تملك إلا جزءا بسيطا من ديون تلك الدول، أى أنها ليست هى الجهات الكبرى التى تتحكم فى الديون المهولة التى تثقل كاهل كل الاقتصادات العالمية. أما بالنسبة لأكبر البنوك العالمية الخاصة التى يمكن أن تكون ضمن الأطراف المقرضة للدول، فوفقا لتقرير نشرته شركة الخدمات المالية « ستاندرد آند بورز ماركت جلوبال إنتليجنس» فإن البنك الصناعى والتجارى الصينى ،هو أكبر بنك فى العالم بإجمالى أصول تتجاوز 4 تريليونات دولار، بينما تبلغ قيمته السوقية 312 مليار دولار وتبلغ أرباحه السنوية نحو 40 مليار دولار، بينما يحتل بنك التعمير الصينى «ccb» المرتبة الثانية، بإجمالى أصوله 3.4 تريليون دولار، بينما تبلغ قيمته السوقية 238 مليار دولا، ويحتل البنك الزراعى الصينى المرتبة الثالثة، فيما يحتل بنك أوف اتشاينا الصينى المرتبة الرابعة . وتأتى شركة الخدمات المالية اليابانية «ميتسوبيشى يو إ فجيه فاينننشال» فى المرتبة الخامسة بقيمة أصول تبلغ 2.6 تريليون دولار، ويحتل المرتبة السادسة «جيه بى مورجان تشيس» وهو أكبر بنك فى الولاياتالمتحدةالأمريكية حاليا، وتبلغ قيمة أصوله نحو 2.53 تريليون دولار. ويحتل «إتش إس بى سى» HSBC المرتبة السابعة، ويعد هذا البنك البريطانى أكبر مصرف فى أوروبا، وتبلغ أصوله 2.521 تريليون دولار، ويأتى «بى إن بى باربيا» الفرنسى فى المرتبة الثامنة، بإجمالى أصول تصل 2.235 تريليون دولار. لكن بالرغم من الأصول الضخمة التى تمتلكها كبرى البنوك العالمية، وبغض النظر عن مراكز البنوك الصينية العامة القوية فى الوقت الحالى، فإنه لا يمكن إغفال أن أزمة الائتمان التى حدثت فى الولاياتالمتحدة عام 2007 وتسببت فى نشوب الأزمة المالية العالمية عام 2008، أدت إلى إفلاس عدد كبير من البنوك الكبرى حول العالم، وهو ما اضطر الحكومات للتدخل لإنقاذ هذه البنوك من الانهيار الكامل عبر تقديم حزمة تمويلية بمئات المليارات من الدولارات لإنقاذها. لذلك لا يمكن اعتبار هذه البنوك هى الجهات التى تمتلك تلك الديون الضخمة، خاصة أن كثير من التقارير الدولية تشير إلى أن نسبة ديون البنوك العالمية تمثل 30 ضعف مقارنة برأسمال هذه البنوك. الشركات العالمية وبالعودة لتقرير صندوق النقد الدولى، فتختلف تطورات الديون الخاصة– خاصة ديون الشركات– اختلافًا كبيرًا بين الدول، فإنه على عكس الدين العام، فإن الزيادة فى الدين الخاص العالمى خلال العقد الماضى قد تم توزيعها بشكل غير متساو، وأوضح التقرير أنه فى الاقتصادات المتقدمة، ارتفعت نسبة ديون الشركات تدريجيًا منذ عام 2010، وهى الآن فى نفس المستوى الذى كانت عليه فى عام، 2008، ولكن هناك اختلافات فى بعض الاقتصادات الكبيرة، ففى الولاياتالمتحدة، نمت ديون الشركات بشكل مستمر منذ عام 2011 ووصلت إلى مستوى قياسى فى نهاية عام 2018. ووفق تحليلات صادرة عن بنك أوف أمريكا ميريل لينش، فإنه منذ انهيار بنك الاستثمار الأمريكى ليمان براذرز فى 2007، اقترضت الحكومات 30 تريليون دولار، وحصلت الشركات على 25 تريليون دولار، واقترضت الأسر تسعة تريليونات دولار. البنوك المركزية تلعب البنوك المركزية بجانب مؤسسات أخرى فى معظم الدول الغربية، دور الدائن الأول للحكومات والشركات، حيث أن الكثيرين لا يعرف أن البنك الفيدرالى الأمريكى على سبيل المثال ما هو إلى بنك يملكه بعض الشخصيات النافذة اقتصاديا فى المجتمع الأمريكى، وليس بنكا مملوكا للدولة الأمريكية. ويتخطى الدين الحكومى الأمريكى فى الوقت الراهن نحو 22 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يظل فى ازدياد خلال الفترة المقبلة نظرا للعجز الكبير فى الموازنة الذى يصل لتريليون دولار. ومعظم هذه الديون تدين بها الولاياتالمتحدة لنفسها، بمعنى أن أغلب الديون تكون لدى الحكومة الفيدرالية. كما تدين الولاياتالمتحدة لكثير من دول العالم على رأسها الصينواليابان عبر السندات التى تصدرها الخزانة الأمريكية. بينما تتخطى الديون الحكومية الصينية حاجز ال25 تريليون دولار، لكن تتميز الديون الصينية أن نسبتها العظمى تأتى من جانب البنوك الصينية العامة وبعض المؤسسات المحلية . فيما أن الدين اليابان العام الذى يتخطى حاجز ال11 ترليون دولار يعود معظمه إلى بنكها المركزى وبنوك محلية ومؤسسات يابانية غير بنكية. فيما وصل الدين العام للملكة المتحدة إلى أكثر من نحو 4 تريليون دولار، وتدين المملكة المتحدة بأكثر من 40 % من دينها إلى مؤسسات محلية غير بنكية، بينما تدين ب25% لبنكها المركزى وحوالى 12 % لمؤسسات أجنبية.
نظرية المؤامرة يرى الكثيرمن المحللين الاقتصاديين أن نظام البنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى هو من يدير لعبة الديون العالمية منذ نشأته فى عام 1913، وأنه وراء كل الأزمات المالية العالمية التى مر بها العالم القرن العشرين، بسبب سياسة طبع الدولار التى ينتهجها والتى لا تخضع لأية معايير منطقية، بل أنها عبارة عن عملية احتيال لأنه لا يلتزم البنك فيها بتغطية النقد بغطاء ذهبى مما يجعله يبيع أوراقا بلا قيمة للعالم بأسره . وفى هذا الصدد يرى البروفيسور فالنتين كاتاسونوف الباحث فى جامعة العلاقات الدولية بموسكو فى كتابه الذى يحمل عنوان من العبودية إلى العبودية، أن معظم سكان الولاياتالمتحدة وباقى العالم يجهلون آلية عمل منظومة الاحتياطى الفيدرالى ولمن تتبع وحتى إن كانت مؤسسة حكومية أم خاصة؟ ويكشف عن تكتم وسائل الإعلام عن العائلات التى تقف وراء الشركات العالمية الكبرى وكيفية تتغلغلها بسلاسة فى معظم بلدان العالم، وتساءل عن صمت السياسيين عما تسمى بالأهرامات الائتمانية ونهب الشعوب من خلال الترويج لآلية القروض الغامضة والقروض المسيسة والمفروضة على دول بأكملها من طرف البنك الدولى وصندوق النقد. وقال إن المنظومة المصرفية الأمريكية محجوبة بمجملها، ففى الولاياتالمتحدة من المألوف التسخيف والتعريض بالسخرية لكل من يحاول فهم حقيقة عمل المنظومة المالية الأمريكية، وسرعان ما يتم اتهامه بأنه يتبع نظرية المؤامرة.
قنبلة موقوتة ويعتبر بعض المحللين زيادة الديون العالمية لذلك المستوى غير المسبوق، مؤشرا خطيرًا على حتمية استمرار الأزمة المالية العالمية التى اندلعت فى عام 2008، بسبب أزمة الرهون العقارية، ويرى دانيال ستلتر المستشار المالى والخبير فى الأزمات المالية، أن ما نعيشه منذ سنوات، ليس أزمة بنوك أو أزمة ديون سيادية، وإنما أزمة ديون فى جميع أنحاء العالم الغربى، وذكر ستلتر فى كتابه قنبلة الديون التريليونية، إنه منذ عام 1980 تضاعفت ديون الحكومات والشركات والأسر من مستوى 160 إلى نحو 320 % من الناتج المحلى الإجمالى، وهو ما يجعل تلك الديون عبارة عن قنبلة موقوتة، تعاملت الحكومات معها بسياسة المسكنات، مما يزيد من المخاطر وما يمكن أن يترتب عنها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، خاصة أن كل الدول الاقتصادية والصناعية الكبرى هى الدول الأكثر استدانة.