لو كانت اعتداءات الداخلية علي المتظاهرين حدثت مبكرا بضعة أيام ربما لم تكن «دينا عبدالله» ذات ال17 عاما جالسة الآن في ميدان التحرير لليوم الثامن عشر علي التوالي دون انقطاع.. لو كانت الداخلية تركت المتظاهرين علي حريتهم كانت «دينا» ستعود إلي والدتها في الساعة الرابعة من مساء الثلاثاء 25 يناير كما وعدتها.. فقبل أن تنزل لمشاهدة المظاهرات قالت لوالدتها «سأذهب لألقي نظرة لمدة ساعة واحدة ثم أعود».. ذهبت دينا فضربها ذلك الشرطي بالعصا علي رأسها وعند هذه اللحظة قررت ألا تعود إلي بيتها حتي الآن. شاهدتها بعد مرور أسبوعين علي يوم25 يناير فعرفت أنها لم تعد إلي بيتها منذ ذلك اليوم؟ وجدتها ترتدي بنطلونا رياضيا و«سويتر» طويلاً تغطيهما أتربة الأيام ال14 وطرحة منحسرة علي رأسها تتطاير من تحتها قصاصات شعرها المبللة بالعرق وترتدي في قدمها «شبشب» حيث إن حذاءها قد تمزق من كثرة المشي في التظاهرات.. تحدثت إليها فوجدت قصة إنسانية مليئة بالدلالات والمعاني ربما تحتاج الحكومة إلي قراءتها ألف مرة وهي تصيغ أسلوب تعاملها مع الشعب. - البداية.. مايكل جاكسون لم يسبق أن قرأت «دينا» صحيفة أو نظرت في صفحة مجلة سياسية كما تقول. ولم يسبق لها حتي إن اهتمت بمشاهدة برنامج يتناول الأحداث الجارية.. والأغرب أنها لا تمتلك حسابا علي الفيسبوك ولا حتي إيميلا شخصيا. كانت هوايتها الأساسية الاستماع إلي أغاني الفيديو كليب خاصة «مايكل جاكسون» الذي تبهرها حركاته فتشاهدها باندهاش وإعجاب شديدين يأخذانها إلي عالم آخر ربما تتصور فيه أنها تقوم بنفس حركاته السحرية المبهرة.. فكل الأشياء كانت ممكنة ل «دينا» فقط في عالم الخيال. كانت تعشق الأفلام الأجنبية خاصة أفلام الرعب وبالأخص فيلم «سكريم» أو «الصرخة». - الوزير قتل حلمي حصلت «دينا» علي مجموع في الإعدادية يؤهلها لدخول الثانوية العامة لكنها قررت أن تلتحق بالمدرسة الصناعية لتوفر علي والدها مصاريف الدراسة في الثانوية العامة. دخلت إلي المدرسة الصناعية وهي تحلم أن تستكمل دراستها بعد ذلك في كلية الهندسة لتصبح «المهندسة دينا».. تقول: أحببت جدا ماكينات النسيج وأحببت قطع غيارها وميكنة عملها وكان أسعد وقت بالنسبة لي هو ذلك الوقت الذي أقضيه داخل حلمي عندما أتخيل أنني أصبحت مهندسة ميكانيكا.. إلا أن وبعد السنة الأولي من الدراسة أصدر الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي قرارا بإلغاء مجانية التعليم لهؤلاء الذين يلتحقون بكليات الهندسة من خريجي مدارس الصنايع.. مات حلم «دينا» لحظة سماع القرار الذي تظاهر علي إثره مجموعة من الخريجين لكن دون جدوي. علمت أن مصاريف دراستها في كلية الهندسة عقب تخرجها ستتكلف5000 جنيه كحد أدني وقد تصل إلي11000 جنيه فاكتشفت أن الطريق الذي سلكته إلي كلية الهندسة لتتجنب تكاليف الثانوية العامة هو طريق مسدود. والد «دينا» الأستاذ «عبدالله» يعمل مديرا لإحدي مدارس المكفوفين التي أنشئت ضمن مشروعات سوزان مبارك. سألتها عن راتب السيد المدير فقالت «ألف جنيه».. أما والدتها فهي طبيبة تحاليل لكنها لا تعمل أي أن حلم «دينا» كان يتطلب دخل المنزل كاملاً لمدة5 أشهر. سألتها «كم مرة في الشهر تأكلين لحوما».. أجابت «مرة واحدة في الأسبوع. أسبوع لحمة وأسبوع فراخ والكميات تكون محدودة جدا» - شعرت بالإهانة ولأن «دينا» ليس لديها حساب علي الفيسبوك علمت بأمر المظاهرات من أختها التي قالت لها «يوم الثلاثاء القادم مصر هاتتقلب». كانت «دينا» لديها امتحان في نفس يوم المظاهرات بالرغم من أنه كان في عيد الشرطة لكن كان امتحانا عمليا في إحدي الورش.. قالت لأهلها أنها ستذهب إلي المظاهرات لمدة ساعة بعد الامتحان ثم تعود للمنزل فإذا بهم يقلبون المسألة مزاحاً.. تقول «لم يصدقوني». خرجت من امتحانها في اليوم التالي وتوجهت إلي منطقة وسط البلد وانضمت للتظاهرات لتفاجأ بعصي ضباط الشرطة تضربها هي ومن حولها علي رؤوسهم.. تقول «في هذه اللحظة شعرت بإهانة.. تلك الإهانة التي جعلتني أقرر أنني لن أعود إلي منزلي أبدا قبل تحقيق كل مطالبي». سردت «دينا» عددا من المشاهد المؤلمة.. كنا نحاول الجري من البوليس لكنه أخذ يلاحقنا بالغازات المسيلة للدموع فوقع أحد الذين كانوا معنا من كثافة الغاز فدهسه جنود الأمن المركزي بأرجلهم حتي مات. شعرنا بارتخاء في عضلاتنا لكن عنف الأمن المركزي وقسوته كانت تقوي من عزيمتنا وتجعلنا أكثر إصرارا علي أننا لن ننهزم ولن نرحل. انقض علينا بعض الضباط وقبضوا علينا وأخذونا داخل سيارة بوليس وهناك أخذوا كارنيه المدرسة الخاص بي وسلبوني كل ما معي ثم تركوني فأصررت علي العودة إلي وسط البلد.. رأيت كثيرين يتساقطون من حولي من الرصاص المطاطي ومن الضرب دون ذنب اقترفوه فشعرت بالإهانة والذل فتساءلت «لماذا نترك هؤلاء يفعلون بنا ما يشاءون؟ إذا تركناهم اليوم فمن يدري بماذا هم فاعلون بنا غدا؟ فازداد إصراري علي عدم الرحيل». - ماما.. لن أعود اتصلت أمها بها فأجابتها «ماما لن أعود من هنا!».. أخذت الأم تبكي وتصرخ علي التليفون وأخذ الأب يعرب عن اعتراضه الشديد إلا أن «دينا» أنهت المكالمة وأغلقت التليفون المحمول تماما حتي لا تتلقي أي اتصالات تثبط من عزمها. ومنذ ذلك اليوم و«دينا» لم تبرح ميدان التحرير. تقضي الليل كله واقفة في نهاية الميدان أمام الكوبري الذي وقف عليه قناصة وقتلوا بعضا من شباب المتظاهرين في إصرار منها علي حماية ميدان التحرير.. لا تنزل عينيها من علي الكوبري.. وإذا شعرت بخطر تخبط علي عواميد السور المحيط بالميدان فيستيقظ الجميع. تؤكد «توقفت عن النوم تماما.. أخاف أن أنام فتفقد الثورة حماستها.. وعندما أسقط في النوم وأنا جالسة في أي مكان أستيقظ بعد10 دقائق وفي الليل عندما أشعر أن كثيرين يريدون أن يناموا وبدأوا ينهكون أقوم وأبدأ في الهتاف بقوة حتي أوقظهم وأوقظ حماستهم». لا يوجد جنيه واحد في جيب «دينا» لكن المتظاهرين يتشاركون في ساندوتشات متواضعة بها مربي وجبن.. تقول «في اليوم الأول لم نكن مستعدين بأي طعام لم نتمكن من الحصول إلا علي بضعة أرغفة من العيش البلدي فقطعناها إلي قطع صغيرة كل منا حصل علي قطعة حتي نتمكن أن نعبر أحياء إلي اليوم التالي». تصمت ثم تكمل «بعد أن كان المصريون يخطفون اللقمة من أفواه بعضهم لأول مرة أري الشعب المصري يقدم أخاه عن نفسه.. رأيت أناسا تخرج اللقمة من أفواههم ويعطونها لمن يحتاجها. من شدة الإعياء وقلة النوم ونقص الطعام سقطت «دينا» مرتين في شبه إغماء وتم نقلها لمستشفي الميدان بالمسجد وتم تركيب محاليل لها إلا أنها كانت تصر علي أن تقوم بعد نصف ساعة علي أكثر تقدير لتعاود مزاولة نشاطها. اصطحبتنا إلي لوحة معلق عليها ملابس شهداء انتفاضة الشباب ملطخة بدمائهم وأخذت تتحدث بحنق صادق جدا «هؤلاء قتلوا فإذا عدت إلي بيتي أكون بذلك قد خنتهم وفرط في حقهم.. من لا يدافع عن هؤلاء فهو يرتكب ذنبا كبيرا!» ثم أشارت إلي «تي شيرت معلقة ملطخة بالدماء ومعلق معها عبوة بسكوت» وقالت هذا الولد قتل وهو يأكل البسكوت.. قطعة البسكوت لم تمر من حلقه عندما قتلوه!!». تحول موقف والدة «دينا» تماما فاستبدلت البكاء وتوسلات العودة بتشجيع وكلمات تنم عن فخر أما أبوها فمازال غير راض عن قضاء طفلته 14 يوما متواصلين خارج المنزل «18 في يوم طبع المجلة». أما أختها فقد جاءت إليها لتطمئن عليها إلا أنها لم تعد إلي أهلها هي الأخري قبل5 أيام قضتهم في ميدان التحرير. سألتها قبل أن أرحل «تقضين الليل كله عند منطقة السلك الشائك.. ألا تخافين من الموت؟».. لم تجبني الطفلة الشابة بنعم أو لا لكنها أجابتني بتلقائية «لا أريد أن أنجب أطفالا لا أضمن لهم عيشة كريمة ولا معاملة محترمة». حقا إنها قصة ولد فيها العنف عنفا والعنف أنجب كرها والكره ولد عدوا والعدو خلق حماسا عنيدا والحماس أنجب ترابطا والترابط أنجب حبا وحد أناسا كان لا يمكن أن يتوحدوا.. والوحدة فجرت آبارا من الاكتشافات الجديدة داخل النفس البشرية لم يكن أصحابها أنفسهم يدرون بوجودها بداخلهم.