أحزان وراء القضبان تتحول بعد خروجها إلى طاقة أمل ونور ونشاط وإنتاج.. الغارمات السجينات لعدم القدرة على سداد الدين، الذى قد يكون صغيرا.. فقط عشرة آلاف جنيه وربما أقل قد تدفع إحداهن إلى السجن.. هن لسن مجرمات ولا متهمات بالقتل أو المخدرات أو السرقة.. جريمتهن هى الفقر والتعثر بعد أن اقترضن الأموال لتجهيز بناتهن أو لافتتاح مشروع، إلا أنهن يوقعن على إيصالات أمانة، ليزج بالضحية فى السجن. هنا يبدأ دور المجتمع ومعه الدولة من أجل انتشال هؤلاء الضحايا من السجون وإعادة تأهيلهن وتحويلهن إلى طاقة منتجة.. وهو ما دفع «جمعية رعاية أطفال السجينات»، لتنظيم معرض «اشترى فى الخير»؛ لمنتجات من صنع الغارمات بالتعاون مع وزارة الداخلية ومؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان». ووسط أجواء تخيم عليها البهجة ووجوه يملأها الأمل، يمكنك أن تشاهد المنتجات المتنوعة داخل المعرض بين ملابس الأطفال التى تحاكى احتياجات السوق، وملابس منزلية وخروج للنساء والرجال. بالإضافة لتيشيرت مصر، لتشجيع المنتخب فى كأس الأمم الأفريقية، كما توجد بعض المنتجات» الهاند ميد» من تابلوهات، وصوانٍ وسجاجيد صلاة. سجينات الفقر تعرفت مارى «اسم مستعار» على طريق جمعية رعاية أطفال السجينات من خلال سجينة سابقة، مارى «40 عاما» من محافظة الجيزة، وكانت تعمل فى أعمال كتابية وحسابية سابقا فى البيع والشراء، وحاليا بلا عمل. وبدأت حكاية مارى عندما كانت تعمل فى الأعمال الكتابية والحسابية بإحدى الجهات الحكومية، وكان من إحدى مهامها تسليم شيكات، وفجأة أصبح هناك بعض الشيكات التى لا يوجد أمامها إمضاء، فتوجهت وقتها فى فترة الثمانينيات إلى معهد التخطيط القومى من أجل الإبلاغ عن ذلك ثم لرفع المسئولية عنها. تورطت السيدة فى قضية كبرى حتى دخلت إلى السجن تحت مسئولية الشيكات بلا إمضاء، وكم من جهل أدخل صاحبه إلى غياهب السجن. بدأت الأزمة عندما حاولت مارى فتح باب جديد للرزق، وفى ذلك الوقت فى التسعينيات، وأصبح عليها شيكات كثيرة، وتراكمت عليها الديون وفى ذلك الوقت بدأ يشتكى الدائنون، وحتى قبض عليها وحكم عليها ب6 أشهر، وبعد محاولة الأخوات بسداد النصيب الأكبر من الديون.. خرجت مارى من السجن وهى لا تملك شيًا، وكانت والدتها قد توفيت وهى بالسجن بسبب الحزن الشديد على ابنتها، ولم يكن لديها أى عمل تقوم به أو رزق تعيش منه غير معاش والدها فى ذلك الوقت وحتى الآن. لا تملك مارى من الأشقاء سوى اثنين من الذكور، الأول توفى بعد معاناة مع المرض، وكانت تعثرت فى سداد الديون بسبب مرض هذا الأخ، والأخ الآخر يحتاج للإنفاق عليه من معاش الوالد، من أجل مرضه أيضا والإنفاق على المصروفات والتحاليل الخاصة به، وتحتاج إلى إنفاق متزايد بسبب مرضه بالفشل الكلوي، ولا يستطيع القيام بغسيل الكلى بسبب ضعف عضلة القلب، والمعاش لا يكفى بكل ذلك حتى أخذت قرضًا بضمان المعاش. كانت مارى تحتاج إلى الدعم الاجتماعى والنفسى والمهنى، فالعمل الثابت كان غايتها من أجل سد حاجتها من جهة، وللإنفاق على شقيقها المريض من جهة أخرى، وكانت قبل الانضمام إلى مشروع «حياة جديدة» لا تعرف أى مهنة يمكن أن تربح منها رزقا حلالا، يساعدها كونها العائل الوحيد لشقيقها المريض، وكذلك تساعد شقيقتها وابنتها فى سد رمق الحياة. أعادت جمعية رعاية أطفال السجينات الأمل لحياة مارى، بدأت بالتدريب فى الخياطة والحياكة فى حاضنة أعمال حياة جديدة بالهرم للحياكة والنسيج، ومنه تحصل على راتب شهرى، وكانت مارى فى أوائل دفعة للورشة، والتى تلقت تدريبا للخياطة والحياكة، لكن السيدة الأربعينية لا تزال تحمل الأمل فى بدء مشروعها الخاص، تقول «أحلم بأن أكون مشروعا خاصا بعد ذلك، لكنى لازلت أبحث عن تمويل». ساعدت الجمعية مارى فى التعافى من ورم ألم بها، واحتاجت له إجراء عملية جراحية فى الرحم، كما انضمت إلى ورشة العمل الخاصة بالحياكة والخياطة فى حاضنة الأعمال فى مارس 2017، تقول مارى: «فرحة شديدة رغم المشقة والتعب اللى بحس بيه، فرحة بحس بيها وأنا بشتغل فى المشغل على ملابس أطفال فى العيد، لكن كل التعب هيروح لما ينتهى ويلبسه طفل أو طفلة، وإن شاء الله مع الوقت هكبر ومهنتى هتكبر». واستمرارا للدعم الاجتماعى لها، حصلت مارى على ماكينة سنجر من جمعية واحد من الناس عن طريق جمعية رعاية أطفال السجينات، كما التحقت بالدورة التدريبية الأولى فى سبتمبر 2014. حياة جديدة من ضمن حالات محافظة المنيا كانت السيدة «أسماء السيد» التى يشهد لها الجميع بحسن السلوك، وبدأت قصة أسماء خلف قضبان القهر، فكانت تعمل فى تجارة الملابس منذ 2002 لمساندة الزوج على المعيشة والتخلص من ضيق الحال، مما أدى إلى تراكم الديون عليها، ولم تجد ملجأ سوى توقيع شيكات «على بياض»، ونتيجة لكثرة الشيكات «على بياض» ظلت «أسماء» فى السجن لمدة ثلاث سنوات، حتى ظهرت جمعية رعاية أطفال السجينات التى قامت بسداد ديون الأم التى لديها ثلاثة أبناء، خاصة بعد تخلى الزوج عنها وتزوج بزوجة أخري. 50 ألف جنيه كان مجمل ديون المرأة الثلاثينية ؛ ونظرا لحسن سلوكها تم التفاوض مع التجار حتى تقلص إلى 18 ألف جنيه وتم سدادها بشكل كامل من قبل الجمعية، على الرغم من أن المبلغ المخصص لكل غارمة هو ثمانية آلاف جنيه فقط، بينما صممت رئيسة الجمعية «نوال مصطفى» على دفع المبلغ كاملا. وأتت اللحظة التى تنتظرها على أحر من الجمر فى عام 2013 وتركت الجدران المغلقة متمنية أن تضم أبناءها الثلاثة بين ذراعيها، بينما استقبلها الواقع بعكس أمنياتها فعقب خروجها لم يستقبلها الأهل واصفين إياها بأنها وصمة عار لن تمحى طوال الدهر، سرعان ما تركت مكان مولدها مركز ملوى وذهبت إلى زحمة القاهرة حاملة قسوة الزمن خلف ظهرها تاركة أبناءها مع زوجة الأب. لم تجد أمامها سوى البحث المكثف عن عمل، حتى وجدت عملًا فى محل «ترزي» بمقابل 60 جنيها فى الأسبوع إلى جانب تعلمها للحياكة، وظهرت المهمة الثانية أمام أعينها وهى البحث عن أربعة جدران ليستروها من وحشية الواقع، ساعدتها الجمعية فى الحصول على شقة أيضًا وتوفير الخزين الشهرى الذى يسد رمق أسرتها. عندما تمكنت أسماء من الحياكة، فأصبحت تقوم بمهمة تقفيل الملابس وتم رفع راتبها الأسبوعى أربعين جنيهًا، وتزامنا مع ذلك وفرت لها الجمعية التدريب على تعلم «الخياطة» لمدة ثلاثة أيام فى الأسبوع، والتحقت أسماء بالمشروع منذ بدء تدشينه. سيدة أخرى ثلاثينية امتنعت عن ذكر اسمها.. بدأت عملها بالجلوس على ماكينة «السنجر» و«الأورليه»، وحاليا هى المسئولة عن «تقفيل الأوفر»، بينما أفصحت عن رغبتها «نفسى أمسك الحتة من أولها لآخرها وتطلع من إيدى». تشترك السيدة فى جلسات التأهيل النفسى التابعة للجمعية، وتحدثت عن الطفرة التى حدثت لشخصيتها، فأصبحت أكثر اعتمادا على النفس، وزادت ثقتها بنفسها. تأهيل نفسى عبلة، 46 عاما، كانت تعيش فى منطقة عشوائية بالقاهرة، متزوجة وتسعى إلى العيش بكرامة، ولديها خمسة أبناء، أصغرهم فتاة 11 عاما فى المرحلة الابتدائية، وأكبرهم 25 عاما. كانت عبلة تعيش حياة مستقرة مع أسرتها وزوجها يعمل سائقا بسيطا «على باب الله»، وابنها الأكبر أخذ من والده مهنة السواقة، لكن على «توك توك»، يساعد والده فى العيش والمصروفات، لكن وحش الإدمان التهم ابنها الأكبر، العائل الثانى والأساسى للأسرة، ونتيجة الإدمان إذا دخل البيوت لا تقف الأزمة عنده، وتتطور الخطورة إلى أبعد من ذلك، لتفترس كل أفراد الأسرة. لم تقترب عبلة من السجن، لكنها عرفت الكثير والكثير من مراراته وآلامه، بلا يوم واحد داخله، فعقب الإدمان وقع ابنها فريسة فى مشاجرة كبرى، واتهم فى قضية سرقة، وحصل على حكم مدته ثلاث سنوات، قضى منها سنة وثلاثة أشهر. تراكمت الديون على عبلة بمبلغ وصل إلى 4 آلاف جنيه، ثم واجهت عبلة وحشًا جديدًا، اسمه الإنفاق على أسرتها، وبسجن ابنها أصبحت الأم تبحث عن طريق جديد يوفر لأسرتها دخلًا آمنًا لحين خروج الابن، وذلك من أجل أن تجهز ابنتها التى كتب كتابها، لكنها بحاجة إلى أدوات المنزل والمصروفات، جمعية خيرية أخرى «جمعية زهور خير الله» كانت البداية ل«عبلة»، تتوجه إليها وتطلب فرصة عمل قبل الإعانة. أحبت عبلة أن تتعلم فى مهنة تناسب عمرها وظروفها العائلية، فدفعتها الجمعية إلى جمعية «رعاية أطفال السجينات»، لتقدم لها الدعم المهنى بتعلم حرفة جديدة، ثم العمل فى حاضنة أعمال حياة جديدة فى الهرم, والتحقت عبلة بالورشة التدريبية الرابعة من أجل التدريب على الحياكة والخياطة والباترون. تقول مؤسسة جمعية «رعاية أطفال السجينات» نوال مصطفى، تأتى فكرة معرض «اشترى فى الخير» كواحدة من آليات التسويق لمنتجات الغارمات اللاتى يعملن فى حاضنة أعمال «حياة جديدة»، بعد الانتهاء من فترة العقوبة، وجمعية رعاية السجينات التى تأسست بعام 1990، وهى أول جمعية تعمل داخل السجون المصرية منذ 25 عاما. وأكدت أن الجمعية استطاعت الإفراج على أكثر من 2000 غارمة، والمبالغ تتراوح بين 4000 إلى 10000 آلاف جنيه، وأن أغلب الغارمات يقعن فى فخ إيصالات الأمانة بهدف الصرف على أبنائهن وتجهيز بناتهن، وأشارت إلى أن الأمر لا يتوقف على الأمهات الغارمات فقط، بل نقوم برعاية أبناء الغارمات من خلال توفير كافة احتياجاتهن التعليمية والتأهيل على الجانب النفسى أيضًا.