قبل نحو 4 سنوات، بينما كان ينتظر هيثم عبدربه السيد، مدرس اللغة الإنجليزية، صديقًا له، بأحد طرق قرية دوامة فى مركز فاقوس محافظة الشرقية، وعندما أحس بتأخر صديقه عليه، اتكأ على سيارته وأخرج مجلة للأطفال لتملأ فراغه حتى يصل من ينتظره، وفى هذه الأثناء ظهرت له طفلة صغيرة تشاركه هذه اللحظات وعيونها كلها شغف عن ما يحمله بين يديه. حوار قصير، دار بينه وبين الصغيرة كانت السبب فى تغيير مجرى حياته بشكل كلى، فتساءلت الطفلة عن المجلة وفحواها، فكان من الغريب ألا تكون طفلة بعمرها -لم تتجاوز ال10 سنوات- على علم بوجود مجلات للأطفال والرسوم بين الورقات الملونة، فأوضح لها مما تتكون المجلة الممزوجة بالألوان المختلفة التى ساهمت بشكل كبير فى لفت نظرها، بما تحتوى عليه من أشكال للزهور ورسومات الحيوانات، فحاول تبسيط الأمر، وشرحه بكونها تشبه كتاب المدرسة، وتحتوى على قصص جميلة للاستمتاع، واستكمل الموقف المختلف، بإعطائها المجلة هدية. سعدت الطفلة بها كثيرًا، لتُحدث أصدقاءها من أطفال القرية عن «الرجل صاحب السيارة الذى أعطانى مجلة أطفال هدية»، توجه الأصدقاء والأطفال بالقرية نحوه قائلين: «نحن نريد مجلات جميلة»، وفى تلك اللحظة، قرر هيثم أن يصبح فعلاً الرجل الذى يعطى الأطفال كتباً ومجلات، وبرزت فى ذهنه فكرة «عربة الحواديت» التى حملت شعارًا «خذ كتابا وأعطنى ابتسامة» وبدأ فى وضع خطة التنفيذ. بدأت الفكرة تظهر بوضوح أمام «هيثم»، ليبدأ فى نفس اليوم فى وضع خطة البدء فى إطلاق مبادرة لتوزيع مجلات للأطفال، وكتب ترفيهية ذات رسومات ملونة وزاهية على الأطفال بالقرى المصرية الفقيرة، جمع كتب أطفال ليوزعها مجانًا على أطفال قريته كبداية لتنفيذ الفكرة، كان هيثم بحاجة لبعض الوقت حتى نجح فى جمع 900 كتاب ومجلة على الأقل ليبدأ بها، فاضطر للجوء للساحة الأوسع التى تجمع أكبر عدد من المتفاعلين، وهى السوشيال ميديا، فكتب منشورًا على صفحته الشخصية على فيس بوك، ليشرح من خلاله فكرته، وطالب الداعمين لها بالانضمام له، والتبرع بالكتب غير الراغبين بها بمنازلهم. تلقى هيثم عبدربه بعض التعليقات المحبطة، منها من طالبه بتوزيع خبز ولحم أفضل من الكتب، والبعض رأى أن ما يفعله تعب للنفس، لأن الأطفال الفقراء سيبيعون الكتب، ويشترون بثمنها طعامًا؛ ليأكلوه، لكن ذلك لم يحبطه، بل على العكس جعله يفكر بطريقة عملية، ماذا يفعل ليضمن أن الأطفال سيقرأون الكتب والمجلات، ولن يستخدموها كمصدر رزق لهم؟. الهدف الأهم من المبادرة، انتشال أطفال القرى والنجوع من الجهل وفقر التعليم عن طريق الطواف وتوزيع الكتب على الأطفال، وأن يحكى لهم القصص والحواديت الهادفة بلغة سهلة وسلسة وبسيطة، فبدأ بقرى الشرقية ثم قرى محافظة المنيا، حتى أصبح أيقونة القصص الترفيهية التى يعرفها صغار القرى الريفية، وينتظرونه فى شوارعهم الضيقة وساحات أرواحهم الواسعة ليحصلوا على مجلاتهم الجديدة. استفاد المعلم الثلاثينى، من موهبة الكتابة والتحدث لديه فى التعامل مع الأطفال وتشجيعهم على الإقبال على الثقافة بالإقناع، فيجمعهم تحت إحدى الأشجار فى الهواء الطلق، ويحكى لهم ويتبادل معهم أطراف الحديث: «الثقافة الحقيقية تفرض نفسها وأسلوب العرض هو الفيصل، كما أن الطفل يميل إلى التفاعل أكثر من أن يكون متلقيًا طوال الوقت». مع الوقت طور هيثم السيد وأصدقاؤه الفكرة، فتحولت جلساتهم مع الأطفال إلى ما يشبه ورش عمل فنية، إضافة إلى القراءة والحكايات، وتنقلت عربة الحواديت التى كانت بالأصل سيارة خاصة لصاحب المبادرة قبل تجميلها بالرسومات الطفولية الجميلة، بين المحافظات والقرى البسيطة، فتوجهت إلى سوهاج وقنا وأسوان فى أقصى جنوب مصر، بعدما زارت الشرقية وبورسعيد والإسماعيلية والمنيا خلال الأعوام الماضية. وعلى عكس الشائع أن أبناء العاصمة القاهرة أكثر إقبالاً على الثقافة باعتبارهم أوفر حظاً من أطفال الريف، كشفت تجربة الشاب الريفى أن أبناء الريف كانوا الأفضل فى الاستجابة والحرص على طلب الثقافة والبحث عنها فى الكتب والمجلات، حتى إن الأهالى كانوا يخبرونه بأنهم فى حاجة إلى مزيد من المطبوعات التى ساهمت فى توفيرها تبرعات بعض دور النشر والجهات الثقافية. فريق المبادرة، جميعهم من تلاميذ مدرس اللغة الإنجليزية بالشرقية، درس لهم فى المرحلة الإعدادية والثانوية، وهم المهندس أحمد مرعى، والدكتور محمد القرناوى، والمهندس محمد على المحمودى، والضابط أحمد القرناوى.. وغيرهم»، واختار هيثم أن تكون مبادرته موجهة للأطفال لأنه لاحظ أن الدولة ترفع شعار «مصر تكافح الإرهاب»، وفى رأيه أن مكافحة الإرهاب تبدأ بمحاربة الجهل ونشر الوعى بالإضافة إلى التوعية الثقافية الصحيحة. تفاعل الأطفال مع هيثم كان غير عادى، على حد تعبيره، حيث ينتظرونه عندما يمر ب«عربة الحكايات»، وينتظرون الكتب والروايات، ويتم اختيار الكتب بالتركيز على كتب «الحكايات» فى المقام الأول بما يتناسب والمراحل العمرية للأطفال، بالإضافة لحصوله على الكتب فى المقام الأول من التمويل الذاتى، حيث خصص كل شهر جزءًا من دخله، يشترى به الكتب والمجلات، ثم بعد ذلك تمويل الفريق ثم الأفراد المهتمين. تمكن الفريق منذ 2015 حتى الآن من توزيع 53 ألف كتاب مجانى، وعمل 92 ورشة حكايات وقصص، و75 ورشة رسم، و80 جلسة قراءة، جميعها مجانية تمامًا لأطفال القرى، وكانت من أهم الصعوبات التى واجهت الفريق، هى التمويل، فقد تأتى لهم دعوة من قرية معينة لتوزيع الكتب فيها، ورصيد الفريق من الكتب حينها يكون صفرًا، وأيضًا السفر إلى القاهرة وشحن الكتب فى سيارات يكلف الكثير، والفريق إلى حد ما ليس لديهم أى جهة للتمويل، فهم يمولون أنفسهم بأنفسهم فقط، فضلًا على مشكلة المتشددين الكارهين للتنوير كانوا يروجون أنهم يوزعون كتبًا تفسد عقول الأطفال وكان ردهم حينها أنهم ينشرون صور جميع الكتب وهى لدور نشر معروفة مرخصة والكتب جميعها برقم إيداع. فكرة عربة الحواديت لم تكن وليدة الوقت الحالى، ترجع الفكرة إلى عام 1927 فى ألمانيا، حيث بدأت فكرة المكتبة المتجولة أو المتنقلة من هناك، كانت عبارة عن سيارة مصممة للاستخدام كمكتبة، وهى مصممة لعقد الكتب على الرفوف فى مثل هذه الطريقة أنه عندما كانت متوقفة المركبة التى يمكن الوصول إليها من قبل القراء. غالبا ما تستخدم المكتبات المتنقلة لتقديم الخدمات المكتبية للقرى وضواحى المدينة أو الأفراد الذين لديهم صعوبة فى الوصول إلى المكتبات، على سبيل المثال، شاغلى دور المسنين، وكذلك الكتب العادية، والمكتبة المتجولة قد تحمل أيضا الكتب الكبيرة المطبوعة والصوتية، وسائل الإعلام الأخرى، معدات تكنولوجيا المعلومات، والوصول إلى الإنترنت. لكن العربة المصرية تعتمد على المجهودات الذاتية، وهو ما يكبل مجهودها فتحتاج إلى دعم للكتب، وتزويدها بتمويل ثقافى أكبر، وهو ما بادرت به وزارة الثقافة العام الماضى، حيث فاز المشروع، بمعرض الكتاب 2018، بالمركز الأول، فى جائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب «المبادرة»، كأفضل مشروع ثقافى، من محافظة الشرقية.