لم تكن الأزمة الدبلوماسية التى اندلعت بين كندا والمملكة العربية السعودية مجرد موقف عابر أو زوبعة فى فنجان، فهى تعكس تراكم سياسات استمرت لفترة طويلة من الزمان، ولفهم أعمق للأزمة ينبغى وضعها فى سياقها التاريخى. اعتادت الدول الغربية التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية ودول العالم الثالث منذ فترة طويلة، واستخدمت فى ذلك وسائل عدة كالجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية المعنية بحقوق الإنسان وإنشاء فروع للمعهد الديمقراطى والجمهورى الأمريكى فى عدد من الدول العربية، وكانت الحجج التى يتم تسويقها من جانب تلك الدول ومنظماتها وفروعها العاملة فى الدول العربية، دراسة أوضاع الأقليات وحقوق الإنسان، والحريات والديمقراطية، ثم تمكين المرأة والحكم الرشيد، وتارة أخرى الدفاع عن نشطاء المجتمع المدنى. كان لمن يعرفون ب «نشطاء المجتمع المدنى» الدور الأبرز فى دخول عناصر تخريبية لتلك المجتمعات عن طريق مراكز ومؤسسات حقوقية أو جمعيات أهلية فى ظاهرها التنمية أو المساعدة والتدريب، وفى باطنها التخريب والتدمير، كانت عبارة عن مراكز أو وكالات للتدريب على الاعتصامات والاحتجاجات وكيفية مواجهة رجال الأمن وتخريب مؤسسات الدول وكيفية صنع فوضى داخل المجتمعات، وبالفعل نجح مخططهم فى عدد من الدول العربية ودخلت تلك الدول فى مرحلة من الحروب والصراعات الأهلية، ولم تنته حتى الآن ولعل ما يحدث فى سوريا واليمن وليبيا والعراق ولبنان وما حدث فى مصر فى مرحلة سابقة خير نموذج على ذلك. كان الإدراك المبكر من جانب دول كالسعودية ومصر والإمارات لخطر تلك المنظمات والقائمين عليها هو الضمانة الوحيدة لاستقرار تلك الدول فى تلك المرحلة وخروجها من حالة السقوط والاستهداف التى شهدتها دول المنطقة منذ عام 2011. أسست الأزمة الدبلوماسية الحالية بين كندا والمملكة العربية السعودية، لمرحلة جديدة فى التفاعلات الدولية بين كل من السعودية والدول الغربية التى تتشدق بين الحين والآخر بحقوق الإنسان.. وهى الأزمة التى جاءت نتيجة لتدخل من جانب كندا فى الشؤون الداخلية للسعودية من خلال تصريحات رسمية صادرة عن وزيرة الخارجية الكندى والسفارة الكندية فى المملكة بشأن ما أسمته نشطاء المجتمع المدنى «سمر بدوى ونسيمة السادة»، اللتين تم إيقافهما فى المملكة قبل أسابيع وقول وزير الخارجية الكندى إنها تحث السلطات فى المملكة للإفراج عنهما فورًا». يأتى الموقف الكندى فى الوقت الذى بدأ ولى العهد الامير محمد بن سلمان سلسلة من الإصلاحات والتغييرات لم يكن أحد يتوقع حدوثها فى واحد من أكثر المجتمعات محافظة فى العالم، فمواقفه من المؤسسة الدينية وسلسلة الإصلاحات التى بدأها فى الاقتصاد والمجتمع بل وحتى الأسرة الحاكمة، شكلت تحولًا جذريًا فى واحدة من أكبر الدول تأثيرًا على العالم اقتصاديًا ودينيًا وسياسيًا، لذلك فإن السمعة الدولية التى نالها ولى العهد عبر إصلاحاته، لابد لها أن تكمل مسيرتها. الرد السعودى على تصريحات وزيرة خارجية كندا، هو بمثابة رسالة موجهة ليس لكندا فقط وإنما لكل من يتذرع بملفات حقوق الإنسان، أنه لا تسامح مع أى انتقاد خارجى لحقوق الإنسان أو تدخل فى الشئون الداخلية للمملكة. ولعل هذا ما أدركته الدول العربية الأخرى التى ذاقت مرارة هذا التدخل من قبل، وكان موقف مصر والإمارات من تلك الأزمة واضحًا، إذ أكدت مصر فى بيان لوزارة الخارجية موقفها الداعم لاستقرار وسيادة الدول العربية، علاوة على تضامن مصر مع المملكة العربية السعودية فى موقفها الرافض لأى تدخل خارجى فى شئونها الداخلية، أو محاولة المساس بسيادتها. خلال الاجتماع الذى جمع الرئيس عبدالفتاح السيسى مع ولى عهد أبو ظبى الشيخ محمد بن زايد يوم الثلاثاء الماضى بالقاهرة، أعربت مصر والإمارات عن رفضهما أى تدخل فى دول المنطقة بأكملها، وأكد البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية رفض البلدين التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية، كما شدد الطرفان على أهمية تضافر الجهود لدعم سيادة الدول على أراضيها». كما استنكرت باقى الدول العربية ومجلس التعاون الخليجى عدا إمارة الإرهاب قطر، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامى، التدخل الكندى. الحزم السعودى تجاه التدخل الكندى فى الشئون الداخلية تمثل فى استدعاء سفيرها فى كندا للتشاور، واعتبرت السفير الكندى فى المملكة شخصًا غير مرغوب فيه، وعليه مغادرة البلاد خلال ال24 الساعة المقبلة، كما أعلنت تجميد التعاملات التجارية والاستثمارية الجديدة كافة بين السعودية وكندا، مع احتفاظها بحقها فى اتخاذ إجراءات أخرى. إصدار وزارة الخارجية السعودية بيانًا، استغربت فيه الموقف السلبى والمستغرب من كندا، الذى صدر عن وزيرة الخارجية الكندية والسفارة الكندية فى السعودية، بشأن ما أسمته «نشطاء المجتمع المدنى» الذين جرى إيقافهم فى السعودية. عبر عن مرحلة جديدة فى التعامل السعودى والعربى مع التدخلات الغربية ولعل الرد القوى من جانب المملكة على كندا دفع الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى اتخاذ موقف حيادى من تلك الأزمة؛ إذ حثت واشنطن السعودية وكندا على حل خلافهما، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية: «ينبغى لكلا الجانبين أن يحلا ذلك بالوسائل الدبلوماسية، لا يمكننا فعل ذلك نيابة عنهما، ويتعين عليهما حل ذلك معًا». بريطانيا أيضًا طالبت كندا والسعودية بضبط النفس. راهن كثير من منتقدى المملكة وخصومها السياسيين على التداخل الأمريكى الأخير على خط الأزمة وتوقعوا تفاقم الأزمة، وأخذ فريق منهم يحاول الوقيعة بين المملكة والولاياتالمتحدةالأمريكية التى قالت المتحدثة باسم وزارة خارجيتها إنها تحض المملكة على احترام حقوق الإنسان وطالبتها بالكشف عن أسماء المحتجزين فى السجون. ما يغيب عن كثير من المراقبين أن العلاقة بين البلدين تأتى انعكاسًا لتوجهات الرئيس الأمريكى ولمواقفه من قضايا حقوق الإنسان ومن رئيس الوزراء الكندى شخصيًا، فترامب لا يهتم كثيرًا بملف حقوق الإنسان ولا يضعه كأولوية فى سياساته وعلاقاته الدولية مع الدول العربية خاصة السعودية، خلافًا لما كانت تقوم به إدارة باراك أوباما السابقة، من دعم وتمويل للناشطين والدفع بهم فى المحافل والمنظمات الدولية، مثلما فعلت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون مع سمر بدوى شقيقة رائف بدوى، وتسليمها جائزة دولية عام 2012. علاوة على ذلك فإن العلاقات غير جيدة بين أمريكاوكندا، عقب انتقاد ترامب لرئيس الوزراء الكندى «جاستن ترودو»، فى أعقاب قمة مجموعة الدول الصناعية السبع «جى 7» فى مدينة كيبيك الكندية، متهمًا إياه بالإدلاء ببيانات كاذبة حول التجارة». كل هذا من شأنه أن يدعم موقف السعودية تجاه كندا خاصة وأن الرياض حليف رئيسى لواشنطن، فهى حليف إقليمى وحليف استراتيجى مهم، علاوة على تأثيرها فيما يتعلق بالنفط، لهذا لم تضغط الولاياتالمتحدة بقوة فى هذا الشأن».