إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    بكام الفراخ البيضاء اليوم؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 4 مايو 2024    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    شهداء وجرحى في قصف لطيران الاحتلال على مناطق متفرقة بقطاع غزة (فيديو)    5 أندية في 9 أشهر فقط، عمرو وردة موهبة أتلفها الهوى    احذروا ولا تخاطروا، الأرصاد تكشف عن 4 ظواهر جوية تضرب البلاد اليوم    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    تعثر أمام هوفنهايم.. لايبزيج يفرط في انتزاع المركز الثالث بالبوندسليجا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجوه «نبى الإرهاب»!

داخل «المركز القومى للترجمة» لم تلتهم ماكينات الطباعة بعد أحدث الإصدارات التى تتناول سيرة «نبى الإرهاب» (سيد قطب).. الإصدار الجديد، عبارة عن رسالة دكتوراة «فرنسية» عن السيرة الأدبية للرجل الذى ملأ الدنيا عنفًا، وخضّب الأرض بالدماء!
لا تتعرض الرسالة لكتب التطرف التي أنتجها قطب.. لكنها تحاول أن ترسم له جانبًا أدبيًا فى ضوء أحداث عصره (ومن وجهة نظر الباحثة بالتأكيد!).
لم يغب عنّا جانب «التحيز» فى منهج الدراسة عندما طالعناها قبل طباعتها.. لذلك؛ قررنا أن نحاور صاحبتها للوقوف على أبعاد منهجيتها البحثية، فى ضوء المؤلفات التى اقتربت (نوعيا) من مضمون رسالتها.
فى كتابه الأحدث، «بعثة سيّد قطب.. الوثائق الرسمية»، يوجّه حلمى النمنم، الكاتب الصحفى ووزير الثقافة السابق، هجوما لاذعا إلى من أسماهم «مُريدى سيّد قطب».. حيث أدان النمنم «الرؤى المُتعاطفة» مع قطب من بعض الكُتّاب من خارج الإخوان، كاعتباره «ضحيّة» نظام عبدالناصر، وهو ما تنتهى إليه الباحثة اللتوانية فى هذه الرسالة بصورة أو بأخرى.. مُحاولة «أسطرة قطب» وتكوين صور جديدة عنه بين الحين والآخر، هو ما جعل منه - كما يذهب النمنم - «حالة خاصة فى مجال الفكر المتطرّف».
من جانبها، لا تنفى الباحثة التقديس الذى يلحق بتُراث سيد قطب فى الدوائر الإخوانية، لكنها تُراجع كذلك ما تراه «شيطنته»! ما هى وجوه سيّد قطب (1906-1965) المخفيّة، وكيف يُمكن أن نفهم تعاطف شُركاء قطب من الأدباء الشباب ذوى الميول اليساريّة، وتبنّى الإسلاموية؟
تطرح جيادرا سابا السؤال فى أطروحتها للدكتوراه فى علم الاجتماع «من الأدب للدين عبورا بالسياسة» من كلية الدراسات العُليا للعلوم الاجتماعية فى باريس، وترى أنه لا ينبغى التقليل من شأن «الجاذبية الثوريّة التى ألهمتها شخصيّة مثل سيّد قطب فى هؤلاء الشباب».. كان مُلهما ومُرشدا فى «سوق أدبية» مثل التى كانت رائجة فى الأربعينيات، هكذا ينطلق افتراض سابا.
«إنتاج قطب الأدبى تمّت زحزحته من دنيا الثقافة إلى فضاء الإنتاج الدينى»، وهذا استنتاجها.. هذا الإقصاء نؤمن أنه جاء بفعل قطب نفسه، لكن ما تقترحه الباحثة بشيء يُشبه المغامرة العلمية، أن الإقصاء جاء أيضا بفعل ظروف أخرى أحاطت بقطب وبالوضع الثقافى فى مصر فى الأربعينيات، وهى الظروف التى عبّرت عنها بوصف «مشروع نهضة متوتّر».
أثناء المظاهرات ضد وزير الثقافة الإخوانى، صيف 2013، التى تطوّرت إلى اعتصام مُرتجل؛ عاد «سيّد قطب» مُجدّدا ليلعب دوره فى صورة «المثقّف» الذى يُذكّر ب«الماضى الإرهابى الأسود للجماعة فى السُلطة». من هذه الواقعة، تنطلق جيادرا سابا، الباحثة فى معهد الدراسات الشرقية فى أكاديمية العلوم التشيكية فى براغ، فى أطروحتها للدكتوراه، وتُعدّ أحدث الدراسات الأكاديمية عن سيد قطب، ناقشتها عام 2015 كلية الدراسات العُليا للعلوم الاجتماعية فى باريس.
الرسالة مُهمّة من حيث تركيزها على إحدى صور ووجوه قطب التى لم تُولّها الدراسات السابقة الاهتمام الكافي، إلا من خلال منظور انتساب قطب لما أطلق عليه مندور «النقد الأيديولوجي». لكن هنا، ومن تحليل شبكة العلاقات التى أحاطت بقطب من ممثلى جميع التيارات، تقدم الباحثة صورة صانع الصحافة والمثقف المُشتبك مع القضايا الثقافية ورعايته لشباب الأدباء، قبل أن «يُكيّف الرجل أسلوبه وفق مفاهيم الجماعة ويتخلّى عن كل مشاريعه الثقافية».
من هو سيد قطب؟ الرجل الذى تحوّل من الثقافة إلى «مُفتى القتل»، كما وصفه شاعر مصرى مُعاصر، مضت الباحثة تسأل كل من التقتهم من رجال الثقافة فى مصر أثناء إعدادها الرسالة.
ومن الجوانب اللافتة، تتبّع المُحيطين بقطب، من أصدقاء وخصوم، وحتى عائلته. فالباحثة تُشير إلى «أمينة» أخت قطب، التى ارتبطت لاحقا هى وشقيقها بمجلة «الأدب» يسارية الهوى، التى تأسّست فى بيروت فى عام 1953، وكان من بين كُتابها يوسف الشارونى واللبنانى رائف الخورى والمفكّر السورى قدرى القلاجي، والعراقى إبراهيم الوايلى وعباس خضر اللذان كانا من كتيبة «الفكر الجديد».
نشرت مجلة الأدب قصصا قصيرة عديدة لشقيقة قطب. بينما تصدّرت عددها الأوّل مقتطفات من حديث سيد قطب الإذاعى بعنوان «أدب الثورة»، ثم أجرت المجلة حوارا موسّعا مع قطب عن «حالة الشعر العربي»، قبل أن يُقرّر الأخوين بعد تعاون عام كامل قطع الصلة نهائيا بالمجلّة، لاستشعارهما بأن المجلة «أخذت منحا علمانيا».
مضى قطب بعد ذلك إلى تأسيس مشروعه الخاص ب«إنشاء نسخة إسلامية من الأدب الواعى سياسيا» عقب انضمامه رسميّا إلى الجماعة الإرهابية. ونشر فى العدد الأوّل من جريدة الإخوان المسلمين (مايو 1954) مقالة بعنوان «منهج الأدب الإسلامي» مُنتقدا فيها أدب طه حسين، وداعيا إلى ما أسماه «الفن الموجّه»، «المُفعم بالقيم الروحية للإسلام».
مع هذا التاريخ السابق لانخراط قطب فى القضايا الثقافية والأدبية فى أربعينيات القرن العشرين، تختبر «سابا» الباحثة اللتوانية فى رسالتها، العوامل التى أدّت إلى ما تراه «إسقاط سيّد قطب من تاريخ الذاكرة الأدبية» فى مصر. وأنه حتى عندما يُجيبها ناشر محسوب على الإخوان على سؤالها من هو سيد قطب؟ بأنه أديب، يكون وصف أديب حُجّة ل«مُحاولة جعل تغيّر قطب أمرا نسبيّا ومفهوما فى سياق الحرية الإبداعية المُتاحة للكاتب»، وهى محاولات لا قيمة لها فى الوسط الأدبى المصرى اليوم، تقول سابا.
من جانب آخر؛ تبحث من خلال تخصّصها فى رصد وتحليل الشبكات الفكرية العربية المعاصرة، فى «أزمة الثقافة المصرية فى أواخر الأربعينيات» وظهور ما عُرف ب«الأدب المُلتزم»، و«الثقافة النظيفة». وتنتهى إلى ما يُمكن التعبير عنه بأن راديكالية سيّد قطب كانت جزءً من راديكالية المرحلة ككل.
فى ذلك الوقت، كان لأغلب التيارات الفكرية والسياسية المصرية مجلّاتها ومنابرها للتعبير بقوّة عن توجّهاتها ومطالبها فى التحرّر الوطني، ومع ذلك فشلت جميعها فى إيجاد مشروع ثقافى متماسك قابل للتنفيذ، إلّا فى الخمسينيات. بعد أن انسحب مفهوم الإصلاح الاجتماعى على الأدب والفنون والسينما، تأثّرا بدعاوى قطب فى مقالاته فى مجلة الفكر الجديد «لاستنكار اللامسئولية الاجتماعية للفنون»، والرقابة على الأغانى الشعبيّة التى «استنزفت قُدرة الناس على التمرّد، وتنشر شعورا زائفا بالسعادة»!
المُلفت، وهو ما ترصده سابا فى أطروحتها وتُحاول إثباته، هو اشتراك التيارات اليسارية فى هذا المسار، فمجلة الفجر الجديد الناطقة باسم اليسار اتّهمت السينما «بتقديم قصص غير واقعية لا تُحرّض المصريين على الثورة». هذه الصورة/الاستنتاج، أن سيد قطب لا يختلف عن الليبراليين أو عن الشيوعيين، يعتبره الكاتب والباحث شريف يونس «استنتاج مغامر».
يعلق يونس صاحب كتاب «سيد قطب والأصولية الإسلامية، على تحفظه على هذا الاقتراح: «لا تستطيع هذه الرؤية أن تفسر الصراع بين قطب واليسار، الذى وصل إلى إدانة اليسار بالكامل واعتباره استعماريا».
فى طرح سابا جزء من الإجابة على هذا التحفظ. لقد قاد أفكار مثل الإصلاح الاجتماعي؛ النُخبة الأدبيّة التى آمنت فى ذلك الوقت بأن الأدب لا ينفصل عن النضال المُجتمعى والوطني. واعتبروا الفنّانين «فئة مُذنبة تقوم بتخدير الناس». فها هى مجلة الفكر الجديد، فى فبراير 1948، تنشر مقالا تحت عنوان «أدباؤنا المُترفون»، انتقدت فيه احتفالات مجلة الهلال بأربعين الزعيم مصطفى كامل، مُعتبرة أن هذا النوع من الأحداث «ترف» فى بلد «تُعانى من تبعية سياسية واضطهاد اجتماعي».
هكذا تمضى الأطروحة، فتقرن التحوّل فى مسيرة قطب، وهجومه على جيل الكتّاب الأوائل، بسياق تعميم مانيفستو الثقافة النظيفة. كان قطب يرى جيل الشيوخ من الأدباء جيل استغلالي، يكتب ويرتبط ب«صحافة تُجارية». من هنا انتظم فى الهجوم على صحيفة أخبار اليوم، وندّد ب»الكتّاب الذين رغم شيخوختهم لا يزالوا يركضون لتحقيق مكاسب مادية»، يقصد العقّاد والمازنى لاستمرارهما فى نشر عمود مُنتظم فى الصحيفة التى اعتبرتها مجلّة الفجر الجديد اليسارية «صحيفة جنسيّة»!
ولم يسلم من هجوم قطب، الكاتب الكبير توفيق الحكيم، رغم عموده «قفص الاتهام» فى أخبار اليوم، الذى كرّسه لفضح المسئولين عن «العلل المصرية»، بينما اعتبره قطب «مُجرّد استراتيجية لإخفاء نوايا مُخزية للصحيفة لحماية المُستغلّين».
بتتبّع دقيق لدور قطب فى مجلة «الفكر الجديد»، ورصد علاقات الصداقة والعداوة مع جيل شباب المثقفين فى ذلك الوقت حتى قيام ثورة 1952، تهدم الباحثة كافة التفسيرات التى قرنت التطرّف السياسى لقطب بسمات شخصيّة على شاكلة: مزاجه المُتقلّب والطابع المُحافظ ثم الإحباط من فشل تحقّقه ككاتب وأديب.
«عادةً، يشرح الباحثون فى سيرة قطب أسباب حملته ضد كُتّاب مصر الأوائل، من خلال ربطها بجوانب من شخصيّته أو حياته الشخصية: مزاجه سريع التغيّر، طابعه المُحافظ، أو إحباطه من طموحاته غير المُكتسبة فى أن يُصبح كاتبا، فى حين، هذه التفسيرات تتجاهل مفكّر مصر فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، حيث كان انتقاد النُخبة فى ازدياد»، تكتب جيادرا سابا.
هى تُجادل بأنّ «الثورة ضدّ كُتّاب مصر الأوائل كانت جزءًا من تمرّد محلّى أوسع ضد النُخب الاقتصادية والسياسية والثقافية، قاده جيلٌ جديد من الكتّاب والمثقفين المصريين الذين اكتشفوا السياسة من خلال حركات راديكالية ظهرت خلال الثلاثينيات (الإخوان المسلمين، مصر الفتاة، والأحزاب الشيوعية) وشاركوا فى النشاط الطلّابى والعُمّالى خلال الأربعينيات، وهتفوا بعد ذلك فى ثورة 52».
تقرأ فى هذه الدراسة المشهد الثقافى العربى أواخر الأربعينيات، عبر ثلاث دوريّات نشرت على التوالى ليساريين وإسلاميين و«كتّاب مُستقلّين طموحين»: الأولى مجلّة الفكر الجديد التى نهضت على أكتاف قطب، وبواسطتها مهّد لتنظيراته فى الفكر العُصابى المتطرّف. وبعد ذلك مجلتا (الفجر الجديد 1945-1946) مجلة اليسار، و(الإخوان المسلمين 1945-1948) الممثّلة للتيّار الإسلامي. لتضع انتقادات سيّد قطب للنُخب السياسية والاقتصادية والثقافية فى مقالاته فى ذلك الوقت فى سياق هذا (الجيل الجديد من المثقفين النقديين)، وتُسلّط الضوء على التعاون «الفكري» بين قطب وكل من الإخوان المسلمين والماركسيين والكُتّاب المستقلّين، وتتحدّى أخيرا ما تقول إنه «الروايات الرسمية الراسخة التى تُحدد موقع المشروع الإسلامى خارج الحقل الفكرى والثقافى المصري».
باختصار، تستدعى أطروحة جيادرا سابا الإسلاميين إلى المشهد، وتجلب تجربتهم فى الثقافة فى الأربعينات المصرية، تقول: «إن السياق الراديكالى الذى عمل فيه هذا الجيل الجديد من الكُتّاب والمثقّفين قدّم أرضية خصبة لاستقبال مفهوم سارتر للأدب المُلتزم».
«سيرة التحوّلات»
ما تفعله جيادرا سابا لمُراقبة هذا التحوّل من منظور «اجتماعي»، هو أنها تدرس «قطب» ضمن هذا السياق، (النقد الثقافى المُتزايد). وتعتمد دراستها، وهو الشئ النادر فى أغلب الدراسات الأكاديمية عن سيد قطب، على تحليل شبكات المعرفة والأشخاص الذين ارتبط بهم قطب فى علاقات صداقة أو مُجايلة أو عداوة أو سجال أو تلمذة. تكتب: «سعت صفحات مجلة الفكر الجديد (1948) لكُتّاب لا يُذكرون اليوم كإسلاميين: عبد الحميد جودة السحّار، الناقد الأدبى عباس خضر، والشعراء فايد العمروسي، عادل غضبان، والعراقى إبراهيم الوايلي، ثم كاتب المقالات عماد الدين عبد الحميد، والكاتب المسرحى عبد المنعم شميّس، وأغلبهم من مواليد بين 1913 و1919».
فى حوارى معها، الذى سيلى هذا العرض، عندما سألتُها عن تعليقها على السيَر العديدة التى تناولت سيّد قطب، كيف يُمكن نزع تجربة ومسيرة قطب ذات الخصوصية «المتطرّفة» وإدخالها ضمن «الجو العام» بكل هذه البساطة؟ قالت: «من بين السير الذاتية العديدة التى تناولت قطب، حدّد البعض فكره الإسلامى فى الخطاب المُضاد للاستعمار، لكن تأثّرا بثنائية الإسلاموية - العلمانية، جرى عند الأغلبية النظر إلى قطب من منظور إسلامى حصري. اقتصر تناول سيرته الذاتية عند ثيمة تحوّله، وأغلب هذه السير يفترض فى تحوّل قطب أن الإسلاموية كُتلة أيديولوجية موحّدة، مُحصّنة ضدّ التحوّل التاريخى بالتبعيّة. أمّا الأهم، فهو عزل قطب عن علاقته الطردية ببيئته خلال الأربعينيات من القرن العشرين، وهى بيئة، تميّزت بالسيولة الأيديولوجية الكبيرة».
هل يمكن أن نقرأ هذا الاستنتاج ضمن سياق التبرير!
دائرة «الفكر الجديد»
قبل الفكر الجديد، كانت نغمة قطب الانتقادية الجارحة قد بلغت ذروتها فى مجلة (العالم العربي). حيث نشر مقالا ضدّ «جيل الشيوخ» من الأدباء، واتهمهم ب«خيانة البلد، والمجتمع، والإنسانية». كانت هذه الحجرة الأولى فى الهجوم الكامل على الثقافة المصرية ككل، الذى سينفّذه قطب بكل منهجيّة بعد ذلك بالتعاون مع فريق (الفكر الجديد).
هنا يأتى تعليق صاحبة الدراسة بأنّ سيّد قطب رسم فى «الفكر الجديد» ملامح برنامج العدالة الاجتماعية بهواه الإسلامى الأصيل. برنامج «دَمَجَ المفاهيم الدينية فى النقد الاجتماعى والسياسى والثقافى الذى يستخدم تعبيرات: التخلّف والإمبريالية والخسارة الأخلاقية». وهى رؤية سيطوّرها قطب فى كتابه الأكثر مبيعاً فى العام 1949 «العدالة الاجتماعية فى الإسلام». ومع ذلك «لا توجد دراسة حتى الآن، تولّى اهتماما كافيا بالأفراد الذين تعاونوا مع قطب فى الفكر الجديد»، تكتب سابا.
وتُضيف: «يوفّر فهم تكوين فريق التحرير والشخصيّات التى قدّمت الدعم المادى لمجلة الفكر الجديد، رؤية مهمّة حول وضع الإسلاموية، أو الحركة الإسلامية فى مصر الأربعينيات».
السحّار.. الحلقة الأولى فى الدائرة
قصّة ميلاد دار الكتاب العربي، يبرز فيها محمد حلمى المنياوى صاحب مجلة الفكر الجديد، وسعيد السحّار مؤسّس «مكتبة مصر»! تُعرّفنا الباحثة بأنّ قطب كان يعرف السحّار منذ عام 1945 على الأقلّ، عندما نشر الأخير له كتابه «الأطياف الأربعة». ترى جيادرا أن تاريخ قُطب مع النشر، يُرجّح أن السحّار كان له دور فى تقديم قطب للمناوي، وهذا الأخير ساهم فى إدماج قُطب فى الشبكة الفكرية للإخوان المسلمين.
تأسّست دار الكتاب العربى فى 1946، كشراكة بين هذين الرجلين، قطب والمناوي. فى بداية الخمسينات، ستشمل عناوين الدار كُتبا لإخوان مسلمين، من بينهم الشيخ الصغير وقتها محمد الغزالي، إلى جانب مطبوعات الإخوان المسلمين الرسميّة. هكذا، فى عام 1952، ستطبع دار الكتاب العربى بيان الإخوان المسلمين المؤيّد لثورة الضبّاط الأحرار التى اندلعت فى صيف ذلك العام. فى تلك الفترة، برزت الدار أيضا كساحة التقاء واجتماع أبرز قادة الإخوان لمناقشة القضايا الحسّاسة، مثل صراع تعارض المصالح مع النظام الجديد، أو الانقسامات الداخلية بعد انتخاب الهضيبى مُرشدا عاما. تجربة سيّد قطب مع (الفكر الجديد) تُمثّل أولى مظاهر ما يُمكن وصفه بتذوّق قطب لأفكار الإخوان، والاستعداد لهضمها، كما تطرح الرسالة.
من بين شباب الأدباء الذين استقبلهم ونشر لهم قطب فى «الفكر الجديد»، سينضمّ عدد قليل منهم فى عام 1954 إلى المجلة الجديدة (الإخوان المسلمين). ومع حملة الدولة على الإخوان بنهاية ذلك العام، تخلّى معظمهم عن الأفكار الإسلامية لصالح الناصريّة.
وبعد سنوات من إغلاق المجلّة؛ سيظل قطب يُشير إلى فريق الفكر الجديد ب«الكتيبة»، الكتيبة المتّحدة فى معركة تحقيق «الثقافة النظيفة». هؤلاء الشباب فى نظر سابا وجدوا فى «إسلام قطب» الحل للخروج من شرنقة «الانحلال الأخلاقى فى السينما» و«المحسوبية فى الأوساط الأدبية».
فى عام 1953، بينما بدأ العالم العربى ما بعد الاستعمار فى التشكّل، كان قد تبلور مشروعين مختلفين من الإبداع الأدبى الملتزم: المشروع اليسارى للأدب الملتزم، والأدب الإسلامي. وفى الوقت الذى أصبح الأوّل «صرخة حاشدة لجيل بأكمله من المثقفين العرب فى الخمسينيات والستينيات، تعطّل المشروع الإسلامى نتيجة قمع الحكومة»، بتعبير الباحثة. وكلا الاتجاهين حاولا «تسييس الثقافة»، أو ربط الإنتاج الأدبى بالمعارك السياسية المُعاصرة.
بينما بدأ المشروع الإسلامى ب«مُساهمات لكتّاب يُصنّفون اليوم كممثّلين للثقافة المصرية العلمانية»، مثلما حاولت أن تشرح الباحثة.
تُركّز هذه الدراسة على الشبكات الثقافية الفكرية، لتستنتج أن اليساريين والإسلاميين أصحاب «لغة مشتركة»، وأن التاريخ الأدبى للاتجاهين يقول بأنهما كانا «مائعين أيديولوجياً» وليسا متميّزين بشكل حاد. وهى النتيجة التى قادت إليها المُحاولة/ الفرضية الأساسية لتلك الرسالة فى اكتشاف «الظروف التى تمّ من خلالها نسيان الانسيابية بين الإسلام والأدب واليسار فى الروايات التاريخية». 


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.