«دواء وعِلل.. قصّتى مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة» هو عنوان كتاب مليء بالتفاصيل صدر عن دار الطنانى للنشر، ويؤرّخ لسيرة ذاتية ووطنية فى نفس الوقت لواحدة من أبرز كوادر صناعة الدواء فى مصر، الدكتورة ناهد يوسف. انتقلت د. ناهد يوسف من الشغف بالأدب والصحافة إلى دراسة الصيدلة. لتكون لها على حد نصيحة الأبّ «مهنة غير خاضعة لنفوذ الحكّام». لنكتشف عبر كتابها عن العِلل، أنّ مجال صناعة الدواء فى مصر، كغيره، خاضعٌ للسياسة والسلطة ونفوذ المال، بل وللدين أيضا. ارتبطت الأفكار التحرريّة والنضالات وقتها بكيفية العمل من أجل تحقيق التنمية المستقلّة لصناعة الدواء فى مصر، وبسط السيادة المصرية على هذا القطاع المنهوب ،ورغم ذلك يمكن اعتبار الكتاب سيرة بطولية من الأفضل فصلها عن السياسة. الكتاب، كما تُمهّد له مؤلّفته؛ هو «سيرة بناء وقصّة تطوّر صناعة الدواء فى مصر، بمراحلها الثلاث: البناء، التقزّم، وأخيرا الانهيار». هى قصّة سقوط القطاع العام. «حرب مستمرّة حتى اليوم»، «ملحمة» كما تقول عنها. لأن «صناعة الدواء فى مصر تقع فى القلب من معركة التصنيع فى ستينات القرن الماضى». وهى لم تكن أبدا كما تقول د. ناهد معركة سهلة أو شريفة. تحكى المؤلفة عن خبرتها فى مجال صناعة الأدوية، والأمبولات، حيث تولّت من بين ما تولّت إدارة مصنع الأمبولات بمسطرد الذى افتُتح فى 1978. عن تاريخ «السباحة ضد التيّار». وعن أذرع الحزب الوطنى فى مصانع الأدوية، ثم تغلغل القيادات المنتمية إلى التيّارات الإخوانية. تكتب: «فى تلك الفترة؛ كان لسان حال السياسات التصنيعيّة يقول كيف تفسد صناعة مصرية فى عشر خطوات». نتعرّف فى الكتاب، وهو عبارة عن مذكّرات داومت على تدوينها منذ ديسمبر 2015، كيف اقترنت رحلة اليسار المصرى بتطوير قطاع الدواء، وكيف ساهمت الناصرية بعد ذلك فى تمكين الكوادر ذات الكفاءة رغم أن معظمهم كان «رد سجون عبدالناصر» بدأت حياة الدكتورة ناهد يوسف العملية فى «إيكاديل»، أحد مصانع الأدوية فى شبرا، وكان صاحبه يهوديا. الذى ما يلبث أن يترك مصنعه ويهرب بعد العدوان الثلاثى وتأزّم وضع اليهود فى مصر، ثمّ لجوء الدولة إلى تأميم الشركات والمصانع والتوكيلات المملوكة لليهود والأجانب. وأُنشأت عى إثر ذلك «الهيئة العُليا للأدوية» التى سيكون لها اليد العُليا والأولى والأخيرة فى السيطرة على الأمور والتحكّم فى الصناعة وتعديل مسارها. ثم يرأس الهيئة العُليا للأدوية الدكتور محمّد الشحّات، أستاذ الكيمياء، الذى تُعدّد المؤلفة مآثره كأحد الفاعلين فى قطاع صناعة الدواء فى مصر مع آخرين، وكان الشحّات قد شغل مدير «دار الأبحاث العلمية» التى أُنشأت فى الحقبة الملكيّة، وكان مقرّها شارع نوبار بالمنيرة. وكانت من أشهر الأندية والروابط العلنية للشيوعيين المصريين، وضمّت فى إدارتها شُهدى عطيّة الشافعى وآخرين. وإليها يرجع الفضل فى الانتباه إلى مُشكلات الصناعة ومتطلّباتها. وفى عام 1962، أُنشأت المؤسّسة المصرية العامة للأدوية، ونالت دعما حكوميا، على رأسه الدكتور النبوى المهندس وزير الصحّة آنذاك، الذى تصفه د.ناهد ب«العالِم الوطنيّ». وكان من نتائجها الإيجابية؛ إنشاء 8 شركات لتصنيع الأدوية، مصرية خالصة، وبأياد وطنية. وامتدّ التطوير بعد ذلك إلى تصنيع عبوّات الأدوية. فى 1964 اُفتتح مصنع الأميرية. تفرد المؤلفة صفحات لتحكى عن تجربتها الفريدة فى شركة النيل للأدوية، حيث أمضت أكثر من 15 عاما من عمرها. قبل أن تنتقل إلى العمل على رأس شركة النصر لصناعة الزجاج والبلّلو. تمضى المؤلّفة فى استعادة سنوات البناء التى ارتبطت بالحقبة الناصرية ومؤازة ناصر نفسه. قامت ثورة يوليو ولم تكن مصر تمتلك سوى مصنع واحد لتصنيع بعض المواد الدوائية الخام، بناه روس. ثم ارتبطت صناعة الدواء فى مصر، كغيره من المجالات بالحلم الناصرى، وانضمّت إلى مشروع التكامل العربى الذى سيّدته الجامعة العربية، وما صاحبه من مدّ قومى عربى. ثم تسير التجربة رويدا رويدا إلى مُنعطف الاحتضار. بعد حرب 1973؛ يتحوّل الاقتصاد المصرى من الاستقلال إلى التبعية بسبب سياسات السادات الانفتاحية، ويحدث ما أسمته المؤلفة «التفكيك المؤسسى لما تمّ بناؤه عبر سنوات عشرين»، والذى سار بموازاته «تفكيك لتجربتى التى عشتُها فى القطاع العام» تقول د. ناهد يوسف وتختتم بالأمل فى النهوض من جديد.