إن كانت الصناعة الوطنية فى أى دولة تعد أساسا أولياً للتنمية، فصناعة الدواء تجىء فى صدارة هذه الاستراتيجية، لأهميتها فى توفير الدواء كسلعة حتمية فى الحياة. وهو ما يوضحه هذا الكتاب «دواء وعلل»، الكبير فى قيمته وأهميته، والصادر عن دار الطنانى للنشر، ويقع فقط فى 160 صفحة، لكنها من الصفحات المضيئة فى تاريخنا الحديث، وأضفت عليها الدكتورة الصيدلانية «ناهد يوسف» صدقا مضاعفا بدقتها وإخلاصها لتاريخ صناعة الدواء فى مصر، وهو مجال استراتيجى مهم، ويدخل فى منطقة الأمن القومى لأنه مسئول عن صحة الشعب مباشرة، وهو ليس مجرد كتاب سيرة ذاتية، بل سيرة بناء وتطور صناعة الدواء الوطنية فى مصر، ضمن القطاع العام الصناعى الهائل الذى بنته مصر فى الخمسينيات والستينيات. وصاحبة الكتاب من الرعيل الأول الذى أسهم فى تخطيط صناعة الدواء وتنفيذها، وتختلط لديها الذكريات الخاصة بالمشاهد العامة التى تضم أبطال هذه الصناعة غير المعروفين، بمراحلها الثلاث: البناء، والتقزيم، وأخيرا الانهيار. بدأت سنوات تكوين الدكتورة «ناهد» من رحلة مدرسية مع زملائها بمدرسة شبرا الابتدائية إلى مصانع ياسين للزجاج فى شبرا الخيمة، حيث انطبع فى ذاكرتها تشكيل العمال المهرة الزجاج المنصهر فى زجاجات، وأكواب، ولمبات جاز، ومشكاوات المساجد، والتحف الفنية. كما ترسخ فى أعماقها شعور بالحب والاحترام تجاه العمل المنتج. وتطرح سؤالا مهما فى الكتاب: لماذا ترى تجربة صناعة الدواء مهمة وجديرة بالحكي؟، والسؤال الثاني: كيف بنت مصر شبكة متكاملة من شركات الأدوية؟، حيث كان لدى الرئيس جمال عبدالناصر حلم ورؤية لتحقيق التنمية المستقلة بمصر، فبعد تأميمه قناة السويس، استخدم الغرب ملف الدواء للضغط على مصر، ضمن الضغوط الأخري، لعدولها عن قرار التأميم، فانتبه عبد الناصر لأهمية صناعة المادة الخام الدوائية داخل مصر، فأنشأ، بمساعدة الاتحاد السوفيتي، «شركة النصر للكيماويات الدوائية» سنة 1960، فى أبو زعبل، الذى أصبح أول مصنع فى إفريقيا والشرق الأوسط لإنتاج المادة الخام الدوائية للمضادات الحيوية، وقامت مصر بدور رائد فى إفريقيا. وتذكر الدكتورة ناهد واقعة طريفة، حيث طلب الرئيس جمال عبد الناصر فى يوم جمعة تعبئة كمية كبيرة لمصل الكوليرا فى زجاجات صغيرة لأنها ستنقل بالطائرة صباح السبت إلى دولة إفريقية لمجابهة ذلك الوباء الذى اجتاحتها. ولم يتمكن المدير من استدعاء العمال يوم العطلة فاقترحت الدكتورة «ناهد» أن يخرج إلى الميدان أمام الشركة ويطلب من المارة الدخول إلى المصنع والعمل على خط الإنتاج بعد شرح المهمة القومية لهم، وبالفعل أقبل كثيرون على المهمة وأنجزوا العمل. ثم تصل التجربة إلى عهدى الرئيسين السادات ومبارك، حيث تم تحويل شركات الأدوية من كيانات ناهضة مستقلة إلى تبعية واضحة لمصالح الشركات الدولية العملاقة، وكان من الطبيعى أن تنهار هذه الصناعة العظيمة، وبالضرورة تلازم معها انهيار نظام التأمين الصحي. لكن الدكتورة «ناهد» لا تفقد الأمل، حيث تقول إن ما تمتلكه مصر حتى الآن من الكوادر الفنية، والثروة البشرية، والاستثمارات، رغم كل التخريب الذى جري، لا يزال قادرا على إحداث طفرة وطنية مجددا فى وقت قصير، إذا وضعت سياسات دوائية وتصنيعية مناسبة.