«دواء وعلل» هو الكتاب الصغير الحجم الكبير القيمة للدكتورة «ناهد يوسف» الذي تحكي لنا فيه قصتها مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة، أي منذ بلغت هذه الصناعة أوج إزدهارها لتنتج 85% من احتياجات الشعب المصري من الدواء فى ستينيات القرن الماضي، وبعد نجاح الخطة الخمسية الأولى، إلى أن أطلق «السادات» ماسماه سياسة الانفتاح ليحطم الصناعة الوطنية، وتقوم الاحتكارات الأجنبية والرأسماليون الجدد بالاستيلاء على صناعة الدواء فتعود مصر إلى الوراء حتى أن الإنتاج الوطني لم يعد يغطي سوى 5% من احتياجات مصر من الدواء بينما يحتكر الوكلاء الأجانب استيراد وتخزين وتوزيع 95% من الأدوية اللازمة. تتبعت صديقتي « ناهد» تاريخ صناعة الدواء فى مصر منذ أنشأ « طلعت حرب» شركة مصر للمستحضرات الطبية عام1932. وواجهت هذه الشركة حربا شعواء شنتها عليها الشركات الأجنبية فى ذلك الحين، تتبعت « ناهد» هذه الملحمة والأداء التي لعبها اليساريون المصريون والعمال والعلماء والباحثون الوطنيون الذين تفانوا فى العمل للنهوض بهذه الصناعة الاستراتيجية أثناء وبعد إنشاء الهيئة العليا للأدوية برئاسة الدكتور»محمد الشحات» والذي كان يمتلك رؤية مكنته من القيام بدراسة عالم الأدوية فى مصر بدار الأبحاث العلمية التي التحق بها مجموعة رائعة من صيادلة مصر اليساريين وأطبائها وعلمائها الذين تطلعوا قبل أي شئ لتلبية احتياجات الفقراء أي أغلبية المصريين وكانوا جميعاً مبدعين كل بطريقته من «النبوي المهندس» إلى» جمال غالي» إلى» ناهد يوسف» وعشرات غيرهم حرصوا على اتباع أسلوب الإدارة الديموقراطية، واشراك العمال والعاملين بفاعلية فى إتخاذ القرارات الخاصة بإنشاء المصانع وتنظيم العمل بها. تم ذلك كله فى ظل مناخ عام غير ديموقراطي يلعب فيه الأمن دوراً محورياً وسلبياً، وكان» لناهد» نصيبها من ملاحقة الامن والوقوف فى طريق تقدمها لا فحسب كصيدلانية وإنما أيضا كإدارية كفء وموهوبة « وهكذا ظلت محرومة من هذا المنصب بسبب أن الأجهزة الأمنية ترى أن علاقتي بالعمال قريبة ومبنية على الود والثقة». وتحكي لنا كيف أن بعض الوكلاء الأجانب تواطأوا مع المعتدين أثناء العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس وتلاعبوا فى استيراد الأدوية الاستراتيجية المهمة وتوزيعها لإحراج الحكومة بإدعاء عدم قدرتها على توفير الاحتياجات الأساسية. ولم تكن المعركة مع الشركات الكبرى سهلة ولا شريفة». ولكن مصر حظيت فى ذلك الحين بصداقة الإتحاد السوفيتي، ولم يكن تمويل السوفيت لمشروع السد العالي الذي رفض البنك الدولي تمويله حدثاً منفرداً بل حين رفضت شركات الدواء الأوروبية الغربية تصنيع الكيماويات فى مصر قدم الإتحاد السوفيتي المعونة اللازمة لإنشاء مصنع الكيماويات. وقامت مصر بدورها الرائد فى إفريقيا، وتحكي» ناهد» فى هذا السياق واقعة طريفة حين طلب منهم « عبد الناصر» فى يوم جمعة تعبئة كمية كبيرة لمصل الكوليرا فى زجاجات صغيرة لأنها ستنقل بالطائرة صباح السبت إلى دولة إفريقية لمجابهة وباء الكوليرا الذي إجتاحها. ولم يتمكن المدير من استدعاء العمال يوم العطلة فاقترحت عليه» ناهد» أن يخرج إلى الميدان أمام الشركة ويطلب من المارة الدخول إلى المصنع والعمل على خط الإنتاج بعد شرح المهمة القومية لهم، وبالفعل أقبل الكثيرون على المهمة وأنجزوا العمل. ومع الانفتاح التعيس تقول الكاتبة تم تحويل ما أنجز من تنمية مستقلة فى قطاع الدواء إلى تبعية واضحة لمصالح الشركات الدولية العملاقة. كذلك بدأت حملة موسعة بجميع الجرائد والمجلات لتشويه القطاع العام، والتشكيك فى كفاءة إداراته والعاملين به وأوقف «السادات» نظام التعيين وتكليف المهندسين كذلك أوقف تخصيص أي اعتمادات لأي إحلال أو تجديد فى شركات القطاع العام، وبعد «كامب دافيد» ومن ضمن الخسائر التي ألحقتها بالتضامن العربي والعمل المشترك، جرى تجميد المشروع الذي كانت قد أطلقته الجامعة العربية لصناعة متكاملة عربيا للأدوية والكيماويات والعبوات اللازمة لها بحيث يغطى إنتاجها العالم كله. وأسند « السادات» فى إطار خطته لدعم الإخوان والجماعات الدينية المتطرفة لمواجهة اليسار أسند رئاسة مصنع الخلاصات لكادر إخواني لا يمتلك أي خبرة أو كفاءة، وفشل المصنع فشلا ذريعا. وأخذ الفساد يتمدد بعد الانفتاح، وفى إطار تنفيذ خطة تدمير القطاع العام، وظهور الطبقة الجديدة من رأسماليين لا يستهدفون إلا مراكمة الأرباح حتى لو تحقق هذا الربح عن طريق بيع الصرح الصناعي نفسه. كتب الروائي « صنع الله إبراهيم» قبل بضع سنوات روايته « شرف» عن الاحتكارات العالمية فى الدواء وأعمالها الإجرامية فى العالم، ولم يهتم بها أحد وأتمنى أن لا يكون هذا هو مصير هذا الكتاب الذي هو رسالة لتحفيز الإبداع فى كل الميادين كما أنه ملحمة إمرأة لا يسعنا إلا أن نتساءل أمام غزارة وثراء عالمها والأعمال المجيدة التي قامت بها ضمن كتيبة من المصريات والمصريين الشرفاء والأكفاء للنهوض بصناعة الدواء، لا يسعنا إلا أن نتساءل كيف استطاعت أن توفق وببراعة بين كل الأدوار : وقالت لنا هي ببساطة وتواضع أنه تنظيم الوقت. كانت صديقتي «ناهد» على حق حين قالت إن كتابها ليس مجرد سيرة ذاتية إنه سيرة صناعة دمرتها التبعية وسيرة أمة.