ما نراه في قطاع حيوي مثل قطاع الأدوية، يعكس الصورة الحقيقية للأزمة التي قادتنا إليها سنوات من السياسات المتخبطة، والرؤية الغائبة، وعدم الاهتمام بالصناعة الوطنية، وترك قطاعات مهمة وأساسية في أيدي سماسرة الاستيراد أو وكلاء الشركات الأجنبية أو الاحتكارات بالغة الثراء والثروة.. والفساد أيضا!! اختفت التصريحات العنترية من وزير الصحة في بداية الأزمة الحالية مع تحرير سعر الصرف. وبدأ الخضوع لطلبات زيادة أسعار الدواء بدءا بنسبة 15٪ من انتاج شركات الأدوية لتكون المدخل لزيادة باقي الأدوية ولو علي مراحل!! وبالأمس طرحت الشركة المصرية لتجارة الأدوية التابعة لقطاع الأعمال العام 700 ألف عبوة لبن أطفال مدعومة من »تحيا مصر» لتباع بأقل من نصف ثمنها في الأسواق. كما تقرر أن تقوم شركات الأدوية العامة ببذل كل طاقتها لتلبية احتياجات السوق من الأدوية خاصة تلك التي امتنعت الشركات الخاصة عن انتاجها أو استيرادها.. انتظارا لرفع الأسعار، وحتي لا تتحمل أي خسائر بعد ارتفاع سعر الدولار. لكن المشكلة ستبقي في أن الدعم لا يمكن أن يغطي كل الأدوية، وأن شركات القطاع العام لم تعد تمثل إلا أقل من 4٪ من الانتاج المحلي، بعد أن كانت في وقت ما تنتج ثلثي احتياجات المصريين من الدواء. وها نحن نواجه الحقيقة.. حين نكتشف أن 90٪ من المواد الفاعلة التي تستخدمها المصانع المحلية، تأتي من الخارج!! واننا -في ظل عدم وجود سياسة وطنية لصناعة الدواء- نستورد كل حاجتنا من لبن الأطفال، وأن ما ننتجه حتي من حفاضات الأطفال يعتمد بالكامل علي الخارج، وأن ما يسمي بمصانع محلية لا تفعل شيئا إلا التعبئة.. ورحم الله أيام عبده سلام رحمه الله، عندما كانت صناعة الدواء تعتبر قضية أمن قومي. وعندما كنا نكاد نكتفي محليا، بل ونصدر للخارج كميات تتصاعد، مع سمعة جيدة للدواء المصري!! الأزمة في صناعة الأدوية تكشف الخلل الهائل في اقتصادنا، وتستحق أن نحاسب كل من وضعنا في هذا الطريق. قبل عشرين عاما كتبت منبها أن بعض الشركات التابعة للاحتكارات العالمية تشتري بعض المصانع الناجحة ثم تغلقها أو تحدد انتاجها، بحيث لا ينافس الدواء المصري انتاجها في مراكز أخري تابعة لها في المنطقة!!.. ولم يستمع أحد، ولم يتحرك أحد لمواجهة ما يخطط ضد الدواء المصري.. والنتيجة تظهر أمامنا الآن حين يحتاج الأب إلي ألف جنيه شهريا ليوفر لطفله اللبن والحفاضة.. لأنه -في الواقع- يشتريها بالدولار، ولأن صناعتنا الوطنية قد تم ضربها، ولأن المسئولين عن الدواء لا يخجلون وهم يعلنون أن 90٪ من خامات الدواء قادمة من الخارج!! ولأن الحل هو اعادة الحياة لصناعة الدواء التي لم تعد قادرة علي توفير لبن الأطفال أو »الحفاضات» التي يحتاجونها إلا بالدولار!! و.. تحية لروح رجل اسمه عبده سلام.. أرجو أن يقرأ وزير الصحة سيرته، لعله وغيره يعرفون الطريق الصحيح الذي تاهوا عنه.. فوضعوا حتي أطفالنا في قلب الأزمة!!