فاز بالرئاسة ليجد نفسه أمام تحديات التسلح البيولوجى بدول البلطيق وفوضى الشرق الأوسط وانخفاض أسعار النفط وتعاظم قدرات الناتو فضلا عن عسكرة الفضاء.. بنى تكتيكاته انطلاقا من الفلسفة القتالية للجودو التى تعتمد على استغلال أخطاء واندفاعات الخصم لهزيمته باستغلال ثغراته.. فى مدينة سان بطرسبرج «لينينجراد» شمال غرب روسيا التى شهدت مولد القيصر «بطرس الأول» والزعيم السوفيتى «لينين»، رزق فلاديميروفيتش بوتين وهو جندى يعمل بالبحرية السوفيتية طفلا فى العام 1952 فأسماه «فلاديمير»، نشأ هذا الطفل منذ صغره يهوى السينما خاصة الأفلام التى تتضمن قصصًا حول عمليات المخابرات الروسية، درس القانون بجامعة سانت بطرسبرج، وتخرج فيها عام 1975. بدأ بوتين أول عمل له خلال خدمته العسكرية الإجبارية بجهاز أمن الدولة، ثم عمل بالمخابرات الروسية «كى جى بي» لمدة ستة عشر عاماً، وكان مسئولاً عن المصادر الأجنبية، عمل خلالها بألمانيا الشرقية لمدة خمس سنوات، إلى أن رُقى إلى ما يعادل رتبة «المقدم» وذلك قبل تقاعده عام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفيتى، ليتولى منصب مساعد رئيس جامعة لينينجراد للشئون الخارجية، حيث إنه كان قد حصل على درجتى الماجستير والدكتوراه فى القانون الدولي. بوتين الذى أتقن العمل المخابراتى، أجاد أيضا فى عدة رياضات لم يزل حريصا على ممارستها أغلبها يتسم بالقوة والعنف، واللافت أنه لا يستخدم يده اليمنى إلا نادراً رغم أنه «أيمن» ولا يحركها أبداً أثناء سيره، إلا أن قوة يده اليمنى الحقيقية كانت تظهر بقسوة أمام خصومه أثناء ممارسته لعبته المفضلة «الجودو» والحاصل فيها على الحزام الأسود، وأيضاً أثناء ممارسته لحمل الأثقال والسباحة. قرر فلاديمير التحول بسرعة للعمل السياسى فى ليننجراد أيضاً حيث تولى منصب رئاسة لجنة الاتصالات الخارجية فى بلدية «لينينجراد»، ثم أصبح مستشارا لرئيس مجلس المدينة، حتى انتقل لموسكو عام 1996 وانضم إلى إدارة الرئيس الروسى «بوريس يلتسين»، ليصبح رئيساً لوزراء روسيا الاتحادية خلال عامى 19992000. وقد فاز بوتين بالانتخابات الرئاسية اللاحقة عام 2000 بنسبة 53 % وأعيد انتخابه رئيسا لروسيا عام 2004 حاصلاً على أغلبية كبيرة بنسبة 72 % من الأصوات. خلال فترة رئاسة فلاديمير بوتين الأولى، نما الاقتصاد الروسى لمدة ثمانى سنوات على التوالى، وارتفع الناتج المحلى الإجمالى فى القوة الشرائية بنسبة 72 % ونظراً لحدود الولاية المقررة دستوريا، لم يؤهل بوتين للترشح لولاية رئاسية ثالثة متتالية عام 2008 ليفوز بها ديمترى ميدفيديف، الذى عين بوتين رئيساً لوزرائه، فى سبتمبر 2011، وبعد تمديد فترة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات، أعلن بوتين أنه سيسعى لولاية ثالثة كرئيس. استراتيجية حاسمة لمواجهة التحديات واستعادة الهيبة فاز بوتين فى الانتخابات الرئاسية فى مارس 2012 بنسبة 64 % من الأصوات، ليجد نفسه أمام عدة تحديات أهمها تسليح المعامل البيولوجية بدول البلطيق التى تبعد عن حدوده الغربية حوالى 60 كم فقط، وفوضى الشرق الأوسط بعد اندلاع ثورات الربيع العربى، وانخفاض أسعار النفط وغير ذلك من مشكلات. حدد الرجل تحدياته بدقة فوجد أنها تتلخص بالإضافة إلى ما سبق فى تعاظم القوة الأمريكية وقدرات حلف الناتو، من خلال أنظمة الدفاع الصاروخى الأمريكية المتمركزة قواعدها العسكرية الخارجية، و«الأسلحة الاستراتيجية غير النووية عالية الدقة»، فضلا عن عسكرة الفضاء، وتعاظم وسائل حرب المعلومات المعادية.. وكذا الجهود الغربية لخلق بؤر للتوتر فى إقليم وسط آسيا، وذك من خلال ما أسمته «حروب الجيل الرابع متمثلة فى الثورات الملونة». فضلاً عن ذلك وجد أيضا حالة من عدم الاستقرار العالمى الناتج عن الحروب الأهلية فى الشرق الأوسط والتى أتاحت الفرصة لاحقاً لتزايد وانتشار الإرهاب والتطرف.. والتخوف من الأسلحة البيولوجية ارتباطاً بإنشاء معامل بيولوجية أمريكية قريبة من حدودها بدول البلطيق.. والفساد والتهديدات الناتجة عن الجرائم العابرة للحدود. كل ما سبق وأكثر أكد لبوتين حجم الصعوبات التى سيقابلها إذا استمر بنفس أسلوبه البراجماتى الذى اتبعه خلال فترتى الرئاسة السابقتين خلال العقد الماضى، وكان أمام خيارين رئيسيين: إما انغلاق روسيا على نفسها والنأى بها من المشكلات الإقليمية والعالمية بهدف حل المشاكل الداخلية المتراكمة ببلاده وإعادة بنائها اقتصادياً أولاً، أو التحول لاستعادة الهيبة إقليمياً وعالمياً أمام النفوذ الأمريكى والغربى المتعاظم والذى يمكنه من الاستفادة من الموارد المتوفرة بمناطق النفوذ.. وقرر بوتين العمل على الخيار الثاني. قام بوتين بتحديد أهداف قصيرة المدى تعيد لروسيا ريادتها بالمنطقة من خلال عدة محاور رئيسية، أهمها تعزيز قدرات الدفاع خاصة القدرات النووية والسيبرانية.. سرعة الانتشار فى البحرين الأسود والمتوسط من خلال أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسوريا وتركيا ومصر.. والأهم استغلال الثغرات لإفشال الاستراتيجيات الأمريكية خاصة بمناطق الاهتمام، مستنداً على الموالين لبلاده بشرق أوكرانيا وبالقرم، مستغلاً المشكلات السياسية والأمنية التى تواجه دول الشرق الأوسط. فوضى بوتين تواجه خطط أميركا أتفق تماماً مع الكاتب الصحفى أ.أحمد الدرينى فيما جاء بمقاله بعنوان «بوتين.. سيد الفوضى المتوج»، مشيراً للفلسفة القتالية للجودو التى تعتمد على استغلال أخطاء واندفاعات الخصم لهزيمته، حيث يفتح تحرك الخصم ثغرة ما تسمح باستغلالها، أظن أن هذا ما بنى عليه تكتيكاته لاعب الجود الماهر «بوتين» خلال مواجهته مع الولايات المتحدة فى مناطق الصراع على النفوذ. ربما كانت مناطق الفوضى هى ساحة القتال الأفضل لصاحب هذا النوع من القتال، والتى يخسر فيها عادة أصحاب الفكر المنظم والخطط المُحكمة، فيرى المراقبون أن بوتين وراء تسريبات وثائق «ويكيليكس» وأنه وراء تسريبات مراسلات وزارة الخارجية الأمريكية للتخلص من هيلارى كلينتون، وأنه تلاعب بمجريات الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة من خلال نظام التصويت الإلكترونى ضد هيلارى، فضلاً عن دوره فى الاختراق الإلكترونى للولايات المتحدة وإغراق دول البلطيق وشمال أوروبا والشرق الأوسط بمعلومات وآراء وشائعات تعاون بدرجة كبيرة على تحقيق أهدافه. واتساقاً مع ما سبق، كنت قد لاحظت بنفسى خلال زياراتى المتكررة لإلقاء محاضرات بالناتو وأثناء نقاشاتى مع بعض محلليهم أعربوا لى عن قناعاتهم بأن بوتين قد يستخدم العديد من الأدوات غير المتوقعة من خلال أجهزة استخباراته، لدرجة أنهم يعتقدون فى ضلوع الاستخبارات الروسية بالتعاون مع قوى داخلية وإقليمية فى صناعة داعش بدلا من تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين لضرب الاستقرار الذى تعتمد عليه الولايات المتحدة ودول عظمى أخرى لتنفيذ استراتيجياتهم بعيدة المدى والتى تشمل شرائح كبيرة من المصالح الغربية مع دول الخليج والتى بنجاحها تقوض من قوة إيران وأذرعها خاصة فى سوريا ولبنان والعراق واليمن.. بل واستغلال شعبية تنظيم داعش لتفريغ روسيا والجمهوريات الحليفة المحيطة بها من معظم العناصر الجهادية. وهو ما يتسق مع تقارير سابقة أفادت بأن بوتين قد انفرد بأهم القرارات المصيرية لروسيا خلال هذه الفترة وانفرد فى تفاصيل تنفيذها مع الاستخبارات الروسية «كى جى بي». التنفيذ على الأرض بالفعل نفذ بوتين قراراته التى اتخذ معظمها منفرداً، فتدخل عسكرياً فى شرق أوكرانيا مستغلاً تلكؤ الاتحاد الأوروبى والناتو فى محاولات ضمها، وقام بعمل استفتاء مدنى وضم شبه جزيرة القرم لروسيا بهدف استعادة الهيبة والنفوذ الإقليمى التاريخيين، وعاود محاولات التفاوض مع تركيا لتمرير الغاز لأوروبا عن طريقها مع إعطائها حاجتها من الغاز الروسى أيضاً. فى نفس الوقت ومن حسن حظ بوتين نجحت مصر فى يونيو 2013 فى إسقاط حكم الإسلام السياسى الذى لم يستمر بها أكثر من عام، فلم يتردد بوتين فى أن يتواصل مع الحكومة المصرية لطرح المصالح المستقبلية المشتركة عسكرياً وسياسياً والتى تعود بالنفع على البلدين، خاصة أن العلاقات المصرية الأمريكية أصبحت فى أسوأ حالاتها وقت إدارة أوباما. استغل فلاديمير تباطؤ الولايات المتحدة فى تصديها للإرهاب فى سوريا والعراق، فقرر التدخل العسكرى لحسم الأمور فى سوريا وأنشأ بالاتفاق مع الرئيس السورى قاعدتين عسكريتين فى حميميم وطرطوس بمهمة دحض الإرهاب والإبقاء على النظام السورى، والذى أزعج بشدة المعسكر الغربى ودول الخليج وتركيا. بالطبع، ونتيجة للتحركات الروسية فى أوكرانيا والقرم حدث ما توقعه بوتين وذلك بقيام الولايات المتحدة وأوروبا بفرض حزمة عقوبات اقتصادية عليه، والتى أدت بجانب تراجع أسعار النفط عام 2014 إلى تقلص الناتج المحلى لبلاده عام 2015. ويرى المراقبون أن أسلوب بوتين وتصريحاته السياسية قد اختلفت خلال فترات رئاسته، حيث كان خلال فترتى رئاسته الأولى والثانية خلال العِقد الماضى يتسم بالبراجماتية العقلانية محدداً أهدافًا اقتصادية نجح فى تحقيقها بنسبة كبيرة، أما خلال فترة رئاسته الثالثة هذا العِقد والتى ربما تأثر خلالها من تزايد النفوذ الأمريكى فى مناطق الاهتمام المشتركة، فترك البراجماتية التى عُرف بها وتبنى خطاباً وطنياً حاداً معادياً للغرب. بنهاية عام 2015 تأكد بوتين أن الأمور تسير فى المسارات التى حددها، وربما قد عوضه اقتصادياً تحالفات سرية مع دول مناوئة لسياسات المعسكر الغربى سأتحدث عنها لاحقاً، ولا يتبقى له سوى تركيا التى ما زالت خارج الصف الذى أعده. وبالفعل أصدر بوتين بنهاية عام 2015 استراتيجية الأمن القومى لروسيا معلناً أهدافه لأول مرة والتى تلخصت فى «الهيبة والريادة واستعادة النفوذ وتوسيعها ثم تحصيل الموارد» وبما يحقق دوراً روسياً مناظراً للولايات المتحدة فى حل المشاكل الدولية وألا تتخذ الولايات المتحدة فى أى بؤرة مصالح مشتركة دون العودة لروسيا وإلا سيكون ال«فيتو» جاهزاً بصفة مستمرة ودون تردد، فضلاً عن تعظيم المشاركات فى المنظمات والتحالفات الدولية وبما يحقق زيادة القدرة التنافسية والمكانة الدولية للاتحاد الروسى. استهدفت أيضا التحول لسيناريو التنمية القائم على الابتكارات وتحديث الجيش والاستخبارات ورفع مستوى التعليم، وضرورة تنامى دور روسيا فى حل أهم القضايا العالمية وضمان الاستقرار الاستراتيجى وسيادة القانون الدولى فى العلاقات بين الدول فى ظل مقاومة من قبل أمريكا وحلفائها سعياً لتكريس هيمنتها على شئون العالم، والتهديدات الناتجة عن نشاطات الناتو على الحدود الروسية. وفى ظل ظهور داعش والذى ترى روسيا أنه ما هو إلا صنيعة ازدواجية المعايير «وذلك رداً على الاتهامات الموجهة لها بخلقه ودعمه فى المنطقة»، وأن روسيا تعتمد فى الدفاع عن مصالحها القومية على سياسة مفتوحة وعقلانية وبراجماتية تستثنى مواجهة مكلفة «بما فى ذلك سباق التسلح»، وأن روسيا تعمل على تطوير تعاونها مع شركائها فى مجموعة «بريكس» ومنظمة شنغهاى للتعاون، ومجموعة العشرين، وأن روسيا تهتم بتعزيز شراكة متبادلة المنفعة مع دول أوروبا والاتحاد الأوروبى، وبناء شراكة متكاملة مع الولايات المتحدة على أساس المصالح المتطابقة بين البلدين، من منطلق تأثير العلاقات الروسية الأمريكية على الوضع الدولى العام. أرى أن بوتين قد بنى استراتيجيته مستنداً على أربعة عناصر رئيسية كمحاولة للخروج من حالة التآكل التى تعرضت لها بلاده منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وهروب الكثير من دول حلف وارسو إلى الحلف الأطلنطى، وهى كالآتى: الأول: ثروتها الكبيرة من الغاز والبترول، والتى قادت أمريكا بمساندة الخليج بعملية كبرى لتحجيم مكاسبها فيها، والتى تسببت فى أزمة اقتصادية روسية، فلجأت روسيا للعنصر الثاني: وهو الاستفادة من عناصرها القديمة فى تفجير الوضع فى المنطقة العربية، خاصة فى العراق وليبيا وسوريا واليمن، الذين كانوا ضمن مناطق نفوذها حتى وقت قريب لفتح جبهة استنزاف تورط فيها أمريكا والخليج، واستخدمت فى هذا العنصر الثالث: وهو تحالف روسيا غير المُعلن مع إيران التى دعمتها عسكريا وتكنولوجيا واستنزفتها ماديا خلال فترة العقوبات الغربية عليها، ووجدت أنها بعد الاتفاق النووى الأخير أنها ستفقد جزءًا من أسواقها فبدأت بفتح أسواق جديدة فى معظم الدول العربية والخليج نفسه لصناعتها العسكرية والتكنولوجية ولتعويض خسائرها الاقتصادية وتحقيق النفوذ فى المنطقة استغلالا لحالة العداء الطائفى. العنصر الرابع فى الاستراتيجية هو صناعة آلة إعلامية موجهة قوية استهدفت بها كل خصومها بشكل مؤثر «آر تى RT » كأحد أدواتها أيضاً ضمن خطة أكبر للعمليات النفسية لتمهيد تدخلها المخطط فى دول الاهتمام، مما دعا بريطانيا لطرد RT من بلادها ودعا الولايات المتحدة لتقييد عملها، وربما كان للصين دور للتعاون مع روسيا نفذت خطتها بالتعاون الجزئى مع الصين كقوة دولية لها أهداف مشتركة فى منطقة جنوب الخليج والقرن الأفريقى، وتهدف روسيا لإخراج تركيا من حلف الناتو لإزالة تهديد قديم ودائم فى جنوبها الغربى استغلالا لوجود نظام براجماتى فيها وتوسيع مناطق نفوذها فى مناطق الفراغ العربى وإضعاف الولايات المتحدة وحلفائها فى معظم الجبهات وتدعيم اقتصادها المنهك. ومن ثم كان «الهدف الاستراتيجى» الروسى تعظيم قوى الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية سعياً للعودة كقوة عالمية مناظرة لأمريكا قادرة على ردع حلف الناتو، وذلك للحد من نفوذ أمريكا فى مناطق المصالح، خاصة أقاليم آسيا والباسيفيك، فضلاً عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك من خلال تعظيم العلاقات الاستراتيجية المتبادلة مع دول تلك الأقاليم، واستمرار احتكار روسيا لسوق الغاز فى أوروبا. عداء روسى دائم للولايات المتحدة والناتو عندما قرر الناتو عام 2015 الشروع فى ضم دولة الجبل الأسود «مونتنيجرو» رغم صغر جيشها الذى لا يتجاوز عدده ألفى مقاتل، أعطى الناتو بذلك للعالم بياناً عملياً كيف تعلم من درس روسيا القاسى بتدخلها فى شرق أوكرانيا وضمها للقرم، ثم بداية استعادة نفوذها فى شمال الشرق الأوسط.. فدولة الجبل الأسود كانت الدولة الساحلية الوحيدة الباقية من الدول المطلة على الساحل الشرقى للبحر الأدرياتيكى من غير دول الناتو «ذلك الساحل الذى يهدد العديد من دول الناتو وهى إيطاليا وألبانيا واليونان وكرواتيا»، والتى حالة تحالفها مع صربيا الواقعة شرق دولة الجبل الأسود، لكانت تعتبر منفذاً ساحلياً شديد الخطورة تستغله روسيا لتهديد دول الناتو التى ذكرتها. تركيا وسوريا ومصر.. حلفاء بوتين الأهم تحسب بوتين مسبقاً لاحتمال قيام الناتو بضم دولة الجبل الأسود لغلق نافذة البحر المتوسط عليه من باب البحر الأدرياتيكى، ليحين الدور على تركيا «تلك القوة الإقليمية الكبرى، ثانى قوة بالناتو والحليف القوى لأمريكا وإسرائيل» والمطلة على البحر المتوسط وتمتلك مضيقى «البوسفور» و«الدرنديل» كأهم نافذتين لعبور روسيا للبحر المتوسط من خلال البحر الأسود، والتى يجب أن تكون الأنبوب الأهم والأفضل لتمرير الغاز الروسى لدول أوروبا.. قد نتفهم الآن مدى صبر بوتين على صفاقة أردوجان وغروره بعد إسقاط إحدى مقاتلاته لمقاتلة قاذفة روسية فوق الأراضى السورية عام 2015 وعلى مقتل السفير الروسى فى أنقرة بعدها على يد أحد رجال الأمن الأتراك، وغير ذلك الكثير. إن لسوريا ومصر الأولية قبل تركيا، بصفتهما مفتاحى البحر المتوسط الواصل بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الجنوب، واللذين قد يمثلان صمامًا للأمان أو مصدراً للتهديد تجاه نفوذ الولايات المتحدة فى المنطقة وعلى أمن دول جنوب أوروبا، وهما بالتأكيد الأسهل فى التحالف فى ظل الضغوط الكبيرة التى يتعرضان لها خاصة ضد الوكلاء الإسلاميين، سواء «الإخوان» المدعومين من قطر وتركيا، أو «السلفيين» المدعومين من دول الخليج، مع الوضع فى الاعتبار أن ذلك كان بقبول ودعم من إدارة أوباما.. حيث استغل بوتين وقتها بطء الأمريكيين فى تقويض داعش فى سوريا، فقرر التدخل العسكرى فوراً للقضاء على داعش من جانب، وإطالة مدة حكم الأسد من جانب آخر. أخيراً، جاءت اللحظة التى صبر عليها طويلاً بوتين، عندما يئس أردوجان تماماً من استمرار التحالف مع المعسكر الغربى وإسرائيل والعربى السنى، ليس بسبب قيام القوات الإسرائيلية بقتل نشطاء أتراك على باخرة المساعدات الإنسانية التركية مرمرة للفلسطينيين، ولكن بعد إصرار الولايات المتحدة وإسرائيل على دعم انفصال الدولة الكردية والذى بالتأكيد سيقسم كلاً من تركيا وسوريا والعراق.. فنجح بوتين فى إيجاد عدو مشترك وهو «الأكراد ومن يدعمونهم»، وهدف مشترك وهو تماسك الدولة التركية والعراقية والذى يعاون بالطبع على تماسك الدولة التركية، وهو ما يأتى تماماً فى صالح إيران فى حربها ضد العرب السنة فى اليمن وضد إسرائيل إذا لزم الأمر فى سوريا.. وبعد أن نجحت روسيا فى مهامها الأولية فى سوريا، والذى أدى لإضعاف النفوذ الأمريكى والعربى السنى عقدت مؤتمر «سوتشي» فى نوفمبر 2017 بحضور زعماء روسياوإيران وتركيا كقوى جوار إقليمى دون تواجد عربى واحد لتقرير مصير سوريا. عقب ذلك، نجد أردوجان اليوم يشن هجوماً عسكريا شاملاً ضد أكراد سوريا فى مدينة «عفرين» كمرحلة أولى على الحدود التركية شمال سوريا، وذلك بعد إعلام تركيا لكل من روسيا وسوريا وإيران والولايات المتحدة، بهدف إنشاء منطقة عازلة كاملة على الحدود التركية الجنوبية داخل سوريا، وفى نفس الوقت تقوم القوات الحكومية السورية بشن هجوم على جبهة النصر فى إدلب جنوب غرب «عفرين» مستغلة الهجوم التركى المدبر، وبنجاح العمليتين تزداد فرص بقاء بشار الأسد مع وحدة الأراضى السورية، وتقل فرص الأكراد فى الانفصال، ويقل معها النفوذ الأمريكى السعودى فى سوريا. الدور المصرى الحالى من منظور بوتين تستقبل مصر دعوة بوتين للمشاركة فى مؤتمر «سوتشي» القادم خلال الأسبوع الأخير من شهر يناير، كأول دولة عربية يدعوها المعسكر الشرقى لإقرار مصير سوريا.. ففى الوقت الذى تنشغل فيه مصر بتسوية الأزمة الليبية والتصدى للإرهاب داخل أراضيها تحاول روسيا إشراك مصر فى قضايا الشرق الأوسط، الجارى عزلها عنه، موجدة دورا لها فى نقاش مستقبل سوريا، خاصة أن المسير الروسى يتسق مع الموقف المصرى «الداعم للحل السياسى فى سوريا بما يحفظ كيان ووحدة الدولة السورية، وأن مصر أعلنت مراراً دعمها للمفاوضات الجارية تحت رعاية الأممالمتحدة».. على صعيد آخر ترى روسيا مصر على أنها خطوة تالية لها بعد سوريا لفرض نفوذها جنوب المتوسط، فروسيا بلا شك تتمنى إنشاء أو حتى تأجير قاعدة عسكرية لها فى مصر أو ليبيا من منطلق أنها تسعى لتأمين حصتها من الغاز على السواحل المصرية حيث أنهت شركة «روس نفط» الروسية للطاقة، صفقة شراء 30 % من مشروع «ظُهر» المصرى للغاز، من شركة «إيني» الإيطالية، وترسيخ النفوذ الروسى وضمان توسعه تجاه المتوسط. زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا استشارى الأمن الدولى - أستاذ زائر بالناتو