هنا تشم رائحة البهارات المميزة المخلوطة بعبارات حول سوريا الجريحة.. تأكل طعاما له مذاق خاص ونكهة مميزة ممزوجة بكلمات حول الوضع فى اليمن الذى كان سعيدا يوما.. مرحبا كيفك.. أهلا ً وسهلا.. نورت المكان، تلك العبارات الصغيرة تسمعها أثناء دخول الكافيهات والمطاعم لتناول المشروبات والمأكولات، لكن الجديد حاليا أن الأمر لا يخلو من جلسة تاريخية مع صور تعبر عن الأوضاع السياسية الخاصة بحالة أصحاب المكان، برزت أزمتهم السياسية على ملامح جدران العمل الخاص بهم. منذ الصباح الباكر حتى الساعة الثامنة مساء يعمل 13 شابا سوريا بحثاً عن الرزق فى مطعم «سريانا» فى شارع التحرير من أجل أسرهم فى سوريا، ويظهر ذلك على ملامح المكان الذى يؤكد ارتباطهم القوى ببلادهم، فرصد الشباب معاناتهم على جدران المكان بصورة تستقبلك فى بداية دخولك أبواب المطعم بخريطة سوريا عليها بعض الشعارات التى تطلب من أى زائر الدعوة لها بالتخلص مما هى فيه حالياً وانتهاء الحرب مع توضيح كامل لجميع المحافظات السورية، واختلطت الخريطة بالدماء تعبيراً عن نزيف الحرب. كما حرص الشباب أصحاب المطعم على رصد 13 صورة لأهم الآثار الخاصة ببلادهم التى ذهبت مع الريح بسبب الحرب وتم تدميرها أو ما يوجد منها حالياً مجرد بقايا، وكل صورة عليها المسمى الأثرى. وكان من اللافت بجوار الصور وجود أشهر الزيوت والبهارات والمخللات السورية كنوع من التعريف بها لأنها وضعت فى مدخل المطعم كنوع من الديكور. شباب سوريا فى مصر محمد عبدالحميد، شاب ثلاثينى بمجرد وقوفنا أمام الصور الخاصة ببلاده بادر بالاقتراب ليشرح تفاصيل كل صورة أثرية وضعت على جدران المطعم فى حالة من الحماسة والفخر والحزن أيضاً على ما وصلت له بلاده وكأنها مهمة رسمية له يحرص عليها. قال محمد سوف أروى قصة ال«13» شابا الموجودين هنا أولاً، فنحن لسنا مجرد عاملين فقط فى المكان للبحث عن المال فنحن لنا وطن نشتاق إليه ويؤثر فينا كثيراً، قصتنا بدأت منذ 5 سنوات عندما قررنا أن نخرج من مدينة «حماه» للبحث عن الرزق والمال من أجل أسرنا جميعاً، فكنا لا نمتلك قوت يومنا جميعنا كشباب فى مدينة واحدة وأصدقاء ونعلم ما يحدث فى بيوت بعضنا البعض. تابع محمد: وهو ينظر بدقة تظهر الاشتياق إلى الصورة التى تعبر عن مدينة «حماه» وهى مسقط رأسه: حصلت على مؤهل إدارة أعمال وباقى أصدقائى الموجودين معى منهم من هو محام والآخر مهندس ديكور والآخر طبيب صيدلي، جميعنا حاصلون على مؤهلات عليا، لكن البحث عن الرزق وسط دمار بلادنا كان دافعا قويا لأن نتجرد من تلك المؤهلات من أجل مساعدة أسرنا على العيش وقررنا بالاتفاق مع بعضنا البعض النزول إلى مصر وترك أسرنا لنرسل لهم الأموال للعيش منها بعد أن توقفت الحياة فى سوريا وتحولت إلى ساحات للحرب فقط، وأسرة كل شاب منا لا يقل عدد أفرادها عن 6 أشخاص، ولا يوجد بيننا شخص متزوج سوى فرد واحد فقط. وأوضح محمد: كانت الدولة الأولى وقتها التى تفتح ذراعيها للسوريين فى المقدمة هى مصر فكانت قبلتنا مصر بلا منازع، وبعد وصولنا عملنا بشكل متفرق فى مهن بسيطة وشركات للتعرف على السوق أولاً والتجارة، وجلسنا ال13 شابا فى شقتين إيجار لنكون يدا واحدة وانطلقنا فى وضع الخطط لرسم مستقبل جيد فى الغربة خاصة أن أسرنا تنتظر منا المال فى سوريا للعيش. وفى حالة من الحزن قال محمد، ألم المعاناة والحرب خلق منا رجالا مبكراً، قررنا أن نعمل فى شيء يعبر عن بلادنا وكانت فكرة المطعم تلقى رواجا جيدا فقمنا بها بعد أن تدربنا تحت يد شيفات سوريين لأننا لا نعلم شيئا عن عالم الطبخ، لكن تحولنا إلى طباخين مهرة. وكل شهر نجمع المال الموجود معنا لنرسله بشكل فورى لأسرنا التى تنتظرنا، ويستطيع كل فرد توفير 150 دولارا لأسرته من العمل فى المطعم شهرياً وهو مبلغ جيد جداً بالنسبة للأوضاع السيئة هناك. وبعد نجاح فكرة المطعم قررنا أن نخرج ما بداخلنا من حزن على بلادنا وقمنا بوضع اللوحات على الجدران، وهى عبارة عن مدينة تدمر الأثرية وحلب ومسجد خالد ابن الوليد، وقلعة حلب، من كل محافظة صورة 13صورة. لكن للأسف معظم الأماكن الأثرية الموجودة قامت ما تدعى أنها دولة إسلامية بتدميرها كما ذبحت المئات من الشباب، ووصفت تلك الآثار بالأصنام والكفر. أحمد شاب عشرينى شارك فى الحوار قائلاً: اللوحات الموجودة تاريخنا وكنا نحلم بحمايته لكن كان مصيرنا الموت على يد «داعش» إذا جلسنا فى بيوتنا أو ضمنا بشكل فورى للجيش السورى بعد تدريب شهر واحد فقط ونكون فى الصفوف الأولى للقتال. وأضاف أحمد: على مدار خمس سنوات مضت نستقبل الزوار فى المطعم ونحرص على شرح تفاصيل الآثار الخاصة بنا لأننا وجدنا الكثير من الزوار المصريين لا يعرفون المحافظات السورية سوى دمشق العاصمة، فلا نخجل أثناء تقديم الطعام أن نحكى بعض القصص عن سوريا وطلب الدعاء لها ووضعنا لوحة بذلك فى مقدمة المطعم، وكل ما يسعدنى أننى فى نهاية الشهر أرسل لأسرتى المال للعيش منه، أسرتى 7 أفراد ولا يعمل أحد منهم بسبب الحرب. وأشار محمد رجل ثلاثينى والشيف الرئيسى فى المطعم: عندى ثلاثة أبناء وزوجتى وأعد الشخص الوحيد بين الشباب المتزوج، اجتهدنا كثيراً لنجاح مشروعنا وسعداء ببعض الزوار الذين يحضرون للتعرف على حضارتنا من خلال جدران المطعم. مطعم سوريا فى المعادى حرص مطعم سوريا على التعبير عن بلاده بشكل آخر وهو إحضار الأوانى والأطباق السورية وإظهار بعض الطقوس الخاصة بسوريا على ملامح المكان، وهذا ما أكده أحد العمال فى المطعم ويدعى رضا، أن المطعم له أكثر من فرع فى مصر وحرص أصحابه على إبراز شكل المنزل السورى فى المطعم حتى يتذكر الزوار سوريا، فهى دولة عربية ظلمت من ويلات الحرب.` وأشار رضا إلى أن السوريين حريصون بشدة على إظهار شخصيتهم من خلال طعامهم المتميز بالجودة ونكهات البهارات، رافعين شعار أنها رأس المال الأول لهم فى الغربة، كما يقدمون بعض الحفلات ذات الطابع السوري، ويرتدون الزى السورى أيضا ويحمل اسم بلدهم، وجميع العمال يتواصلون مع أسرهم بشكل دائم للاطمئنان. وبابتسامة هادئة يقترب مهران شاب سوري، ويقول: ادعوا لنا سوف نعود قريباً لبلادنا ونشكر كل المصريين على دعمهم لنا، رغم ما عانينا منه حول ما حدث فى سوريا إلا أن شعارنا فى الفترة الماضية بعد طرد داعش من أماكن كثيرة بأن الحياة عادت للكثير من المدن المهمة، فنحن جميعاً نشتاق لبلادنا وظهر ذلك فى ملامح المطعم من ديكورات وأدوات وفرش. وأوضح عادل طباخ سورى: قمت بدمج الطعام المصرى مع السورى لأجذب الزوار إلينا فقط قمت بعمل ما تسمى «فتة الشاورما» الفتة فى بلادنا غير معروفة لكنها معروفة فى مصر فأضفنا لها الشاورما السوري، كما قمنا بعمل «حواوشي» سورى وهى أيضاً وجبة ليست موجودة فى سوريا لكن الاسم مصرى والمحتوى سوري، ولا يخلو حديثنا مع الزوار عن أرضنا سوريا وعن معاناتنا، فهى رسالة لأن زوارنا ليسوا مصريين فقط بل عرب وأجانب فى بعض الأحيان. مطعم صنعاء من داخل مطعم صنعاء تشابه الأمر مع السوريين فى معاناة الحرب واختلف فى مذاق الطعام وملامح البشر، بترحيب وكرم استقبلنا أصحاب مطعم صنعاء البسيط على الطاولات المغطاة بالأماكن الأثرية لبلادهم وبمجرد السؤال عن أسماء تلك الأماكن، أكد محمود صاحب المطعم أن اليمنيين حريصون على رؤية صور بلادهم والحديث لا ينقطع عن الأخبار فى اليمن هنا فى المطعم، والمطعم لا يستقبل المواطنين المنتمين للشرعية اليمنية فقط بل يستقبل الحوثيين أيضاً. وأضاف محمود أن المطعم له تاريخ فى مصر قبل الحرب بكثير وموقعه فى الدقى بالقرب من السفارة اليمنية ويتردد عليه مئات اليمنيين، وفى منتصف اليوم يتحول المطعم وقت الغداء إلى حرب نقاشية بين مؤيد ومعارض، فالجميع يحلم بعودة اليمن السعيد وعودتنا إلى البلاد. وأكد محمود أن العشرات ممن كانوا فى زيارة مصر مازالوا عالقين بسبب أزمة الطيران وفى حالة عودتهم قد يواجهون بطش الحوثيين، لأن من يعود من مصر فى البلاد التى لايزال الحوثيون يحكمون قبضتهم عليها فهو معرض للسؤال ماذا كان يفعل ومتى خرج من اليمن وما هو انتماؤه السياسى. واختتم محمود كلماته.. المطعم بجميع العاملين فيه يحاولون احتواء بعضهم البعض فليس لنا مكان آخر للحديث والفضفضة عما بداخلنا، والانتماءات المختلفة بين اليمنيين هى الدافع فى الجدال والأصوات العالية التى قد يسمعها المارة أمام المطعم وفى النهاية يتناول الجميع وجبته ويخرج فى سلام. «باب اليمن» قطعة من اليمن فى مصر: بجوار مطعم صنعاء يوجد مطعم ضخم تشعر أنه قطعة من اليمن فى مصر، فقد تميز بالعمارة اليمنية القديمة والمسمى يمنى «باب اليمن»، وبالدخول من الباب الرئيسى للمطعم وهو عبارة عن باب ضخم يشبه باب اليمن معلم تاريخى وأثرى عمره أكثر من ألف عام وهو المدخل الرئيسى لمدينة صنعاء القديمة من الجنوب، العاصمة السابقة لليمن قبل الحرب على ميليشيا جماعة الحوثيين المسيطرة عليها حالياً، وذلك الباب له قيمة تاريخية كبيرة لدى اليمنيين. منذ الوهلة الأولى لدخول المطعم كانت لوحة باب اليمن الأثرية فى المقدمة لتدل على التاريخ الأثري، وعدد من الأوانى اليمنية القديمة وضعت كنوع من التراث فى المكان أيضاً، بالإضافة إلى الفرش اليمنى العربى المعروف فى بلادهم، واقترب منا شاب أسوانى مصرى يعمل فى المكان ويدعى أحمد أكد أن المطعم قطعة من اليمن وهذا ما حرص عليه أصحابه لاحتواء اليمنيين خارج الحدود، وتوفير الوجبات اليمنية الشهيرة التى قد لا يجدونها بسبب الغربة طويلاً بسبب الحرب. لوحات للآثار وخريطة اليمن لأن معظم العاملين فى المطعم اليمنى فى ميدان لبنان يمنيون حرصوا على وضع صور للآثار اليمنية على جدران المطعم بالإضافة إلى خريطة لبلادهم بدون أى انفصال كدولة واحدة يظهر ملامحها الجنوبية مكملة للشمالية، وهذا ما أكد عليه العم محمد مقدم القهوة اليمنى كنوع من الضيافة أثناء الدخول لأى زائر، مشيراً إلى أن الفكرة تعبر عن وطنيتهم فهم جزء من اليمن خارج الحدود فى هيئة سفراء لملامح بلادهم، ويسعد العديد من الزوار بتلك الصور التى تغطى الجدران، ويحضر العديد من الجنسيات الأخرى داخل المطعم للاندماج معنا فى مقدمتهم السعوديون والمصريون والإمارتيون أيضاً واللبنانيون، فنحن هنا أسرة واحدة داخل المطعم عكس ما يحدث هناك فى الحرب، والحديث فى السياسة قليل هنا فى المطعم خوفاً من المشاكل والمشادة نظراً لتعصب البعض.